حاوره – صالح البضاني
يرتبط الحراك التشكيلي في اليمن ارتباطا وثيقا بالواقع، حيث تسيطر على أغلب الفنانين المدرسة الانطباعية، وبدرجة أقل التكعيبية، فيما لا يمكن الجزم بوجود فن تشكيلي يمني له خصوصية خارج الخصوصية المعمارية، حيث كان لمعمار اليمن الفريد من نوعه انعكاس كبير على جل الفنانين من الرواد ومن أتوا بعدهم.
وفي إطلالة على واقع الحركة التشكيلية اليمنية اليوم، كان لـ”العرب” هذا الحوار مع الفنان التشكيلي اليمني ياسر العنسي.
ثلاث مراحل مرت بها تجربة الفنان اليمني ياسر العنسي، بدأت أولاها من خلال مجموعة الأعمال التي نفذتها قبل دراسته الأكاديمية للفن بين عامي (1990 – 1998)، ويقول لـ”العرب” إن تجربته في تلك المرحلة اشتملت على سلسلة من الأعمال مثلت الاتجاه الكلاسيكي والواقعي الذي طغى على جميع أعماله في تلك المرحلة.
وقد جسد الفنان في هذه المرحلة العديد من المواضيع المتنوعة والمختلفة الاجتماعية منها كما هو الحال في لوحته “الشمسية الحمراء”، والمناظر الطبيعية التي صورها في مجموعة “الريف” التي صورت مشاهد ويوميات الريف اليمني، إضافة إلى تصوير البورتريهات والطبيعة الصامتة، كما في العمل المعنون “كنوز”.
ويتميز العنسي عن العديد من مجايليه من الفنانين في اليمن بكونه ناقدا فنيا وأكاديميا رأس قسم التربية الفنية في كلية التربية بجامعة إب، بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في التصوير.
وقد حصل على عدد من الجوائز خلال مسيرته الفنية الحافلة التي سعى لتكريسها عبر خدمة الفن التشكيلي اليمني بعد تأسيسه لبيت الفن في مدينة إب، وشاركته في العشرات من الفعاليات والمعارض الدولية الفنية والثقافية.
تطور وانتقال فني
يؤكد الفنان العنسي أن تجربته الفنية مرت بمرحلة جديدة، تجسدت في الأعمال التي أنجزها خلال فترة الدراسة الأكاديمية للفن في العاصمة العراقية بغداد بين عامي 1998 – 2002، حيث شهدت تجربته الكثير من التطور والانتقال إلى مرحلة يسودها الكثير من الوعي والفهم العميق للعملية الإبداعية.
ويقول “مثلت سنوات الدراسة الأربع أهمية بالغة من خلال ذلك الجو المتمثل بالقراءة والاطلاع على أمهات الكتب التي تناولت الفن البصري كقيمة جمالية وفلسفية، أضف إلى ذلك زياراتي الدائمة للمعارض التشكيلية لأهم الفنانين العراقيين، والوقوف وتأمل تجاربهم على اختلاف معالجاتها الأسلوبية ومشاركاتي العديدة في الكثير من تلك المعارض التي أُقيمت في بغداد، والاحتكاك المباشر برواد الحركة التشكيلية العراقية في تلك الفترة”.
ويضيف “ظهرت المعالجات التقنية الجديدة التي قدمتها في سلسلة من الأعمال المنفذة في هذه المرحلة، التي ساد فيها الأسلوب التعبيري، مثال لذلك لوحة ‘الراقصان‘ مع احتفاظي بالاتجاه الواقعي الذي يفرض حضوره ليس في بعض أعمال هذه المرحلة فحسب، وإنما في جميع أعمالي التي شكلت تجربتي بمنظورها العام”.
ولم تتوقف تجربة العنسي عند مرحلتي التأسيس والانتقال كما يقول، حيث يشير إلى أن تلك التجربة مرت بمرحلة ثالثة يصفها بمرحلة التجريب التي تضمنت سلسلة من الأعمال التعبيرية التجريدية، مدفوعا برغبته الشديدة لتقديم حلول ومعالجات من خلال استخدام وسائط جديدة، حيث ارتكزت سلسلة أعماله في هذه المرحلة على العديد من المواد المختلفة كـ”ألوان الأكريليك، والأصباغ المائية، والألوان الزيتية، بالإضافة إلى بعض المواد المختلفة”، مشيرا إلى أنها قد تأتي جميعها ضمن عمل واحد.
وفي سياق حديثه عن مرحلة التجريب الفني، يقول الفنان “كان اللونان الأبيض والأسود هما اللونان اللذين سادا في تجسيد فكرة أعمال هذه الفترة، حيث اعتمدت فكرة هذه المجموعة من الأعمال على ‘حالة المدينة بشخوصها‘، وما تعكسه من مؤثرات جمالية من خلال نوافذها المضاءة من الداخل، والمفردات الزخرفية المنتشرة على واجهاتها، بأسلوب يقترب كثيرا من التعبيرية التجريدية، رغبة مني في الابتعاد عن التشخيص الذي ساد في الأعمال السابقة كما في الأعمال المعنونة بـ‘على مشارف صنعاء القديمة‘ و”تشييع جنازة‘، وهي من ضمن آخر الأعمال التي أنتجتها في سياق مجموعة كاملة بنفس الاتجاه والأسلوب ومضمون الفكرة”.
ويؤكد العنسي أن الظروف السياسية والحرب التي يشهدها اليمن، إلى جانب الظروف الاقتصادية الصعبة، كان لها بالغ الأثر في انحسار وتغييب الحركة التشكيلية اليمنية، حيث فاقمت هذه الظروف من الانعكاسات السلبية على الحركة الفنية التي يقول إنها من الأساس كانت تعيش حالة من الإحباط والعدم، كما يعتبر أن التشكيل في اليمن فقد أبرز معالمه بعد رحيل مثلث الحركة التشكيلية اليمنية وهم الرواد الفنان هاشم علي وعبدالجبار نعمان وفؤاد الفتيح، لبيقى الجيل الثاني من الفنانين أمثال حكيم العاقل وآمنة النصيري وطلال النجار ومظهر نزار كأبرز من يمثل هذا الجيل.
ويتابع “لا أود التطرق إلى الفنانين الشباب من الجيل الثالث وهم كُثر، حيث لم تتحدد المعالم الحقيقية والواضحة لهذه المجموعة من الفنانين والسبب يعود إلى عدم فهم المعايير الحقيقية والأصيلة التي من المفترض أن يؤسس ويبني من خلالها هؤلاء الفنانون تجاربهم الفنية، هذه التجارب التي أقول إن معظمها غير قادر على إيجاد خصوصية أسلوبية وتفرد جمالي في البحث والتجريب”.
ويرى أن “السبب الرئيسي في ذلك ربما يعود إلى أن معظم التجارب الجديدة تقوم بالنقل من الصور الفوتوغرافية المتاحة والمتكررة في شبكة الإنترنت وغير ذلك، الأمر الذي انعكس سلبيا وساهم في انغلاق الطاقة الخيالية والابتكارية التي ينبغي على الفنانين هؤلاء أنفسهم أن يعيشوها فكريا وجماليا للحصول على الهوية الذاتية والرؤية الجمالية المستقلة، الرؤية الذاتية الباحثة التي لا تنسخ ولا تنقل وإنما تستلهم لتبتكر وتبدع، وهذا ما ننتظره ونأمله في البعض من هذه التجارب الشابة العديدة”.
مدارس فنية
عن الانعكاس المباشر للحرب على المشهد التشكيلي في اليمن وتأثيرها على أعمال الفنانين من الناحية الأسلوبية والمضامين، يقول العنسي “لا يخفى على أحد ما تخلفه الحرب بكل مظاهرها ونتائجها من آثار سلبية عديدة فكريا ونفسيا، الأمر الذي انعكس على العديد من أعمال الفنانين التشكيليين في اليمن أمثال حكيم العاقل ومظهر نزار، وتستحضرني في هذا المقام أعماله في معرضه المعنون بـ‘الحرب والسلام‘ والتي توزعت بين عشرة أعمال تناولت آثار الحرب والقصف، بينما عبر الفنان ومن خلال عشرين عمل عن تطلعاته نحو السلام من خلال مشاهد متنوعة من البيئة اليمنية”.
وفي إجابته عن الآثار المحتملة لظاهرة هجرة الفنانين اليمنيين إلى خارج البلاد بحثا عن فرص أفضل للحياة والإنتاج الفني، يشير العنسي إلى أن هجرة الفنانين اليمنيين إلى الخارج انعكست سلبا من ناحية التحفيز وانعدام وانقطاع التجمعات واللقاءات الفعلية لهم داخل الوطن، ويضيف “ربما ما فقدناه تماما في الآونة الأخيرة، نأمل أن تنتهي الأسباب القاسية التي لا تخفى على الجميع والتي قادت إلى ذلك، كما أتمنى أن يعود الحراك التشكيلي اليمني إلى حضوره الطبيعي فاعلا ومؤثرا عربيا ودوليا”.
وفي سياق حديثه عن أبرز مدارس الفن التشكيلي الموجودة في اليمن، يرى العنسي أن أبرز المدارس والاتجاهات الفنية السائدة في التصوير اليمني تتمثل في: المدرسة الواقعية التي ظهرت جليا في أعمال الجيل الأول “جيل الرواد”، لاسيما في أعمال عبدالجبار نعمان وهاشم علي، كما كان لتيار الواقعية نصيب في أعمال الجيل الثاني أمثال طلال النجار وسعيد علوي وعدنان جمن.
كما يذكر الفنان اليمني المدرسية التعبيرية التي ظهرت بوضوح في جزء من أعمال الفنان هاشم علي، حيث اتسمت تعبيريته بالثراء فكما كان في تجسيده للمدرسة الواقعية الذي عبر عنها بتميز وخصوصية عالية، كان أيضا تعبيريا ناجحا، فصور “راعيات الغنم والصيادين والعازفين” من خلال سلسلة تناولت الأرض والإنسان. ويلفت إلى أن هذا الفنان تمكن من ابتداع صيغة محلية تعبيرية مدهشة ومتفردة.
ومن الجيل الثاني يذكر الفنان حكيم العاقل الذي أنتج سلسلة واسعة من الأعمال التعبيرية، قدم فيها العديد من المواضيع التي تعكس مضامين فكرية وجمالية بأسلوب متفرد، ومما ساعد العاقل على إتقان وطرح وتقديم هذا التنوع الهائل في سياق الفكرة والمعالجة، تلك التوجهات الواقعية والأكاديمية في بداية دراسته للفن في روسيا. ويضيف إلى ذلك أعمال الفنانة آمنة النصيري التعبيرية والرمزية وحالة التنوع والثراء التي قدمتها في تجربتها الفنية.
واستكمالا للمدارس والاتجاهات التي ظهرت في التصوير اليمني، يشير العنسي إلى الاتجاه التكعيبي الذي يتمثل في أعمال الفنان كمال المقرمي وعبدالعزيز إبراهيم، أما الاتجاه السريالي فتمثل في أعمال الفنان صالح الشبيبي.
فيما ظهرت اتجاهات المدرسة التجريدية في العديد من أعمال الجيل الثاني أمثال حكيم العاقل، آمنة النصيري ومظهر نزار، وهي ضمن التجارب التي خاضت ولا تزال تخوض حالة من التجريب والبحث الجمالي.
وفي رده على سؤال لـ”العرب” حول إمكانية الإشارة إلى نشوء ملامح لمدرسة يمنية خاصة، يرد العنسي بشكل قاطع “هذا المعتقد تلاشى وانتهى في العصر الحالي، وكل التجارب واتجاهات الفن في العالم عربيا ودوليا على مستوى العالم، باتت تحتكم إلى صياغات وأساليب التجارب الفردية للفنانين بصورة ذاتية، لا تعتمد ولا تشترط على الفنان أو الجيل أن ينتمي إلى مدرسة بعينها، والكثير من فناني العالم باتوا يرفضون فعليا الانتماء المدرسي”.
وبالعودة إلى تفاصيل تجربته الفنية وأبرز تأثيرات الطبيعة والحياة وفن العمارة اليمني التي ألقت بظلالها على أسلوبه والتشكيل اليمني عموما، يؤكد العنسي أن “تنوع البيئة الجغرافية لليمن وتعدد الجمال الطبيعي الذي قاد إلى تنوع في مظاهر العمارة التقليدية ساهما كثيرا في جعلها ملهما ومؤثرا كبيرا في تجربته الفنية وفي عموم التجارب اليمنية التشكيلية، بصورة جعلتها مصدر وحي وإلهام ثري وكبير للكثير من هذه التجارب التي يطول عرضها والحديث عنها في إطار الموضوع ذاته”.