يبدو الملف اليمني حاضرا في العديد من تفاعلات وتعقيدات العالم والمنطقة، والحقيقية أن اليمن تحول إلى منطقة جاذبة للتدخلات نتيجة عوامل جيوسياسية عديدة، في مقدمتها موقعه الاستراتيجي على طريق الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، إضافة إلى هشاشة الوضع السياسي وحالة الصراع والاحتراب المستمرة منذ عقد من الزمن على أقل تقدير.
كل ذلك فتح باب اليمن على مصراعيه لمختلف الأجندات والمشاريع، في ظل غياب متفاقم للدولة عقب الانقلاب الحوثي في سبتمبر 2014 الذي جاء ثمرة تاريخ طويل من الدعم الإيراني الخفي لمشروع الجماعة المتمردة، الذي تسلل بصمت إلى مناطق شمال اليمن التي ظلت معزولة ثقافيا وسياسيا، أو ربما بفعل تعزيز بعض الأطراف لعزلتها تلك التي تفجّرت لاحقا على شكل ست حروب وانقلاب قضى تماما على أي مظهر من مظاهر الدولة البسيطة التي تراكمت خلال خمسة عقود تقريبا، منذ قيام ثورة سبتمبر 1962 على النظام الإمامي في شمال اليمن.
وبالعودة إلى قائمة الاهتمامات الإقليمية والدولية باليمن نجد أن ثمة تباينات شاسعة في طريقة تعامل الدول التي أبدت اهتمامها بمجريات المشهد اليمني وتفاعلاته انطلاقا؛ إما من منطلق حرصها على استقرار هذا البلد وإما كمحاولة لاستثمار تناقضاته وأزماته.
فبينما ظلت السعودية ومعظم دول الخليج العربي تعمل في مراحل مختلفة على دفع البلاد خارج دائرة الصراع الداخلي من خلال مبادرات الوساطة التي كان آخرها على سبيل المثال المبادرة الخليجية 2011 واتفاق الرياض 2019، كانت إيران تعمل على بناء قنبلة موقوتة في سياق مشروعها لتصدير “الثورة الإسلامية”.
ومن الزاويتين المذكورتين آنفا يمكن تفسير وتفكيك معظم المواقف الإقليمية والدولية إزاء ما يجري في اليمن، الذي يريد له “ملالي” طهران أن يتحول إلى إيران صغيرة في خاصرة الجزيرة العربية، وحلقة في مسلسل صراع محتدم مع المجتمع الدولي وطلقة في سلاح يمكن إشهاره في أي حرب قد تندلع بين إيران والعالم على خلفية النزاع حول برنامجها النووي.
اليمن تحول إلى منطقة جاذبة للتدخلات نتيجة عوامل جيوسياسية عديدة، في مقدمتها موقعه الاستراتيجي على طريق الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، إضافة إلى هشاشة الوضع السياسي وحالة الصراع
وقد بعثت طهران بالفعل رسائل من هذا القبيل، عبر إيعازها للحوثيين باستهداف ممر الملاحة الدولي بالقوارب المسيرة والألغام البحرية، وتصعيد استهدافهم للمنشآت النفطية السعودية بالصواريخ والطائرات دون طيار، وقد كان التوقيت في كل هذه العمليات ذا دلالة سياسية بالغة، حيث ارتبط بأجندات المصالح الإيرانية، أكثر من ارتباطه بمصالح الحوثيين أنفسهم، بل إن التوقيت الخاطئ ارتد عليهم في الكثير من الأحيان بشكل كارثي، وكان آخرها استهداف العاصمة السعودية الرياض بصواريخ باليستية في الوقت الذي تُراجع فيه الإدارة الأميركية الجديدة قرار تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، لكن التوقيت في المقابل كان يصب في مصلحة مناورات طهران السياسية مع إدارة بايدن، في إطار التلويح بجزرة الموافقة على العودة فورا للاتفاق النووي، وفي ذات الوقت التلويح بعصاها المتمثلة في ميليشياتها في اليمن والعراق ولبنان.
وقد أثبتت العديد من الوقائع أن النظام الإيراني بات يمسك كليا بزمام القرار في داخل الجماعة الحوثية، وهو الأمر الذي بلغ ذروته بعد ظهور ما تدعي طهران أنه سفيرها في صنعاء، حسن إيرلو، بينما تصفه أفعاله وأنشطته وتحركاته وخطبه، بأنه الحاكم العسكري الجديد لرابع العواصم العربية الواقعة في دائرة النفوذ الإيراني في المنطقة.
وتظهر تصرفات الحوثيين أنهم بالفعل تحولوا إلى أداة كامنة في أيدي مشروع آخر له أجندات وأولويات مغايرة، وهو ما يجعل من أي حوار مع الجماعة مجرد تكتيك سياسي لا أكثر لكسب الوقت واستغلال حالة التناقضات والصراعات في معسكر “الشرعية”، الذي يحاول النهوض بفعل الدعم المقدم من التحالف العربي بقيادة السعودية، الذي يدرك تماما أن هزيمة المشروع الإيراني في اليمن لن تتحقق إلا عبر جبهة يمنية متماسكة وصلبة، تتمتع بالكفاءة السياسية والعسكرية لمواجهة المشروع الحوثي، الذي يتشكل من مزيج من العنف الأيديولوجي وتتشابه فيه مع جماعات أخرى مثل القاعدة وداعش ويستند إلى ثقافة عنصرية قائمة على مبدأ التفوق العرقي.
ثمة تباينات شاسعة في طريقة تعامل الدول التي أبدت اهتمامها بمجريات المشهد اليمني وتفاعلاته انطلاقا؛ إما من منطلق حرصها على استقرار هذا البلد وإما كمحاولة لاستثمار تناقضاته وأزماته
كلا الأمرين يمدان الجماعة بطاقة وحيوية مؤقتتين في صراع تؤكد الشواهد التاريخية أنه سينتهي بشكل مختلف، عبر ثورة شعبية من الداخل تنضج شروطها على نار المظالم الحوثية.
وبمقدار التقدم الذي أحرزته السعودية في إطار سعيها لتمتين جبهة الشرعية عبر تنفيذ اتفاق الرياض وتشكيل حكومة جديدة يشارك فيها المجلس الانتقالي الجنوبي، تتبدى الكثير من التحديات التي تهدد بإعاقة مثل هذا التقدم، وأبرز العوائق التي تعترض طريق تجويد أداء الشرعية تكمن في الدور القطري الذي لا يبدو أن تحول موقفه من الملف اليمني كان جزءا من استحقاقات “المصالحة الخليجية”.
لا يزال الخطاب الإعلامي القطري الداعم للحوثيين على حاله، وما زالت أذرع الدوحة السياسية والإعلامية داخل مؤسسات الشرعية تطل برأسها للتحريض على المجلس الانتقالي والوقيعة بين المكونات والقوى اليمنية المنخرطة في مواجهة الحوثيين.