أولا:
شاركنا في فبراير بوعي ممتزج بحلم يضاهي حلم مارتن لوثر كينغ والجموع التي زحفت معه أثناء المارش التاريخي الفريد إلى واشنطن عام 1963 حين قال عبارته المدوية والاكثر شهرة :
I have a dream
“لدي حلم”
كنا نحن أيضا لدينا حلم ونحمل آمالنا ونظن أنها على مهد ساكن لن تعتريه الهزات، وبسذاجة الثوار الأنقياء مضينا وبذلنا جهودا وعرقا ودما، كتبنا وهتفنا وصبرنا بانتظار حصاد أدركنا متأخرا أنه لن يأتي.
كما أدركنا بأن مارش لوثر كينغ، انطلق بمأتي ألف متظاهر، وسار في شوارع لا تمطر رصاصا، وبجموع أيضا لا تملك ولا تحمل السلاح ولم يخترقها أحد ولم تعسكرها فرقة ولم تختطفها جماعة، رغم أننا كنا أكثر من مليون، بينما كان مارتن وزحفه لا يتعدون مائتا ألف فقط لكن الأمر انتهى وقضي الأمر..
ثانيا:
كان الظلم والفساد مبررا كافيا لدينا لأي ثورة، أدركنا متأخرا أنه كان من الأفضل إصلاح النظام بدلا عن دفنه وإسقاط الدولة معه.
يمكن القول إن “فبراير” خرجت عن هدفها المنشود وأخرجت عن مضامينها بدون وعي منا، في لحظة حماس، ودون حول لنا ولا قوة، وذلك حين تسلق عليها، محسن وجماعته وحميد وإخوانه، وعندما تنصل الخطاب الثوري عن سموه، وسمعنا هتاف “حيا بهم.. حيا بهم ” في الساحات وهي تستقبل النطيحة والفضيحة والزنداني ووعد خلافته وتحتفي بهوامير القبيلة الفاسدة ومجاميع التطرف.
في تلك اللحظة، تحديدا، كانت “فبراير” تغادر مكانتها كفعل ثوري، وبدأت قوة السلم في الانكفاء والتراخى، حتى فقدنا وهج الثورة وقيمة الحياة معا تحت شعارات تعبوية تحث على الموت والشهادة.
وتم اغتيال الفعل الثوري بنجاح، ومصادرة أخلاقية السلم، حاولنا الامتعاض والتعبير عن الغضب دون جدوى، كان البساط قد سحب من تحت أقدامنا، ورمينا بكل التهم..
وهناك كتبت النهاية لحلم فبراير.
ثالثا:
اليوم من الشجاعة أخذ الأحكام على “فبراير” من وجوه الناس البسطاء وتعبيراتهم الصامتة، وفطرتهم السليمة التي لا تكذب.
هذه الفطرة تلعن اليوم الثورة للأسف، وتلعن الإخوان والحوثي، وأجد نفسي معهم من اللاعنين.
رابعا:
إن مسألة التثوير في حد ذاتها ليست هدفاً ولا غاية، بل وسيلة وقتية للانتقال إلى وضع جديد بشروط جديدة وعقد جديد وآليات وبرامج جاهزة راسخة مقدورة الوصول للتنفيذ، وما عدا ذلك هو قفز إلى هاوية.
خامسا:
الثورات بمآلاتها وبما أحدثته من تغيير وليس بشعاراتها وأحلامها، ربما هكذا يتم الحكم على أي ثورة إيجاباً وسلبا، حيث يتم قياس مدى تحسن الواقع الجديد وليس حجم الكوارث التي خرجت من أجلها..
سادسا:
كما أن إعلان فشل ثورة ما، لا يعني إلغاء مبررات قيامها ولا تخوين من قاموا بها، وفي كل الحالات فإن دراسة أسباب فشل ثورة ما ونجاح أخرى هو الأهم بالدراسة والتمحيص.
سابعا:
لعل من أهم أسباب فشل طموحات “فبراير” العريضة والانتهاء لهذا المأزق والحرب أسباباً سياسية واقتصادية داخلية وخارجية، لكن ربما هناك أسباب أهم من ذلك كله يتمثل في ركوب القوى المضادة لموجات الثورة واشتراك اليمين الديني وحركات التطرف، أبرزها الإخوان والحوثي ولفيف من قوى متطرفة أخرى وهوامير فساد عسكرية ومدنية وقوى رجعية كثيرة، ذلك هو السبب الرئيس لفشل “11 فبرير” في اليمن في غالب الظن والتقدير.
ثامنا:
لعل مشكلة “فبراير” الرئيسة كانت عدم وجود قوى ثورية خالصة، لها نواة صلبة قادرة على الصمود والتصدي لأي متاجرة أو استثمار أو اختراق وعدم وجود قيادة من الوهلة الأولى، ومشاركة عدد كبير من أشتات القوى المضادة وقوى الفساد واليمين الديني والانتهازي مع خليط من الشباب الثائر ملتحم ببعض المجتمع الغاضب.
وهذا الخليط المتناثر المتناقض في حد ذاته كفيل أن لا ينتج منتجاً ثورياً، وبالضرروة لا ينتج لاحقا دولة في حدها الأدنى، وإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود قوة حزبية أو نخبوية جاهزة يمكن طلبها عند الضرورة لتسيير الأمور إلى الأفضل أو بمقدورها الإمساك بزمام الأمور بعد الثورة، وهذا في حد ذاته يعد كارثة، كيف يمكن أن تقود ثورة إلى مجاهيل من اللا دولة؟
تاسعا:
بعض المتحمسين جدا يعتبر أي مراجعات لأحداث “فبراير” وتقييمها نكوصا وارتدادا، ويدخل في قدسية الأحكام على الأحداث، وهو نوع من التورط الذي جلبته الجماعات الدينية وبعض الأحزاب ذات الطابع الشمولي، حاد الأحكام وكثيف الشعارات.
إن أبسط مراجعات “لثورة” فبراير بعيدا عن الاختلاف في التسمية تفضي إلى الاعتراف بالخطأ وعدم الركون مجدداً للقوى التي صرفت السيل عن مساره المأمول وحرفت الثورة عن أهدافها وركبت الموجة وحولتها من ثورة إلى غزوة وحرب وتكسب ووراثة وفساد أكثر بشاعة مما كان عليه الوضع، بل أدهى وأمر.
عاشرا:
من نافلة القول إن هناك ظروفاً حقيقية استدعت “فبراير” وجعلته قدراً محتوماً، حيث شكل تراكم الفساد ضرورة حتمية للانفجار، ولكن ألم يكن من الأفضل إصلاح النظام بدلاً من هدمه والتدافع معه لتحسين شروط الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا سيما وهو في وضع ضعف وهناك إمكانية للاستجابة في تلك اللحظة؟
هناك تفاصيل كثيرة بحاجة إلى مراجعة، وأخذ العبرة والدروس.
حادي عشر وأخيرا…
قد يقول قائل: وما الفائدة من تلك المراجعات الآن وقد وقع الفأس في الرأس؟
وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
لقد حلت الكارثة التاريخية.. وهذا القول ليس وجيهاً، فالمراجعات ليست من أجل الحاضر فقط، بل من أجل المستقبل لأجيال من حقها العيش وعدم الانزلاق لمآس جديدة بعد التعافي من الحرب.
كما أن المراجعات جزء من كتابة التاريخ للأحداث وختامها، والأمور بخواتيمها، ذلك أن ما كُتب عن “فبراير” في بداياتها سيختلف عما يمكن أن نكتبه الآن وبالجمع بين الاثنين يستنطق التاريخ ويكتب نصوصه ويؤسس لفصوله، وتؤخذ خلاصاته.
وقبل ذلك كله فإن الاستنتاجات والمراجعات ضرورة إنسانية وسنة من سنن التغيير والتحديث وهو قبل ذلك كله واجب وطني، وأخلاقي.. خاصة ممن ينسبون أنفسهم إلى الثورة ويؤمنون بها..