حجم الدمار الشامل الذي لحق باليمن والعراق وسوريا ولبنان يعادل كم قنبلة نووية؟
باستثناء قنبلتي هيروشيما وناكازاكي، في الحرب الأمريكية ضد اليابان في عام 1945، لم يعرف العالم استخداماً لأسلحة ذرية أو نووية. والعالم مدججٌ بها الآن. إلا أن أحداً لا يجرؤ حتى على مجرد التفكير باستخدامها. إنها موجودة لأغراض الردع فقط، أو حصراً، للحؤول دون استخدام أسلحة أخرى. فالمعنى الوحيد لوجود أسلحة نووية، هو التهديد بإيقاع دمار شامل في الرد على أي عمل عسكري يشكل تهديداً جذرياً.
والدمار الشامل لا يتعلق بتخريب مبانٍ فحسب، ولكنه يتعلق بالدرجة الأهم، بتخريب المجتمع ومؤسساته وقدرته على إعادة تنظيم نفسه، وتدمير اقتصاده.
الآن، دعك عن خراب المباني في سوريا الذي تحوّل إلى متحف يناظر متاحف الحرب العالمية الثانية، ودعك عن خراب نصف بيروت بعد انفجار المرفأ، ودعك عن خراب مدن بأسرها في العراق، والرمادي والموصل والفلوجة مجرد شواهد، ودعك عن حال الخراب القائم في عدة مدن في اليمن تحوّلت إلى ضحية للمعارك اليومية مثل تعز والحديدة ومأرب وغيرها، ولكن انظر إلى حال الخراب الاقتصادي والاجتماعي والمؤسسي الذي حل بهذه البلدان وسترى مفعولاً يزيد على عشرين ضعفاً لما حصل في هيروشيما وناكازاكي.
احسب أعداد الضحايا وسترى أنهم أكثر من مليوني إنسان. واحسب عدد المهجرين والمشردين وسترى أنهم أكثر من عشرين مليون. ثم انظر إلى الفساد والتشوهات الأخلاقية والطائفية وأعمال العنف، وسترى انهياراً لم تستطع قنبلتا هيروشيما وناكازاكي أن تفعلاه على الإطلاق.
انهيار الاقتصاد في هذه البلدان أصبح علامة مميزة تطحن عشرات الملايين بالفقر والحرمان أيضاً. وهناك فشل سياسي جعل إعادة تنظيم الحياة العامة أمراً يكاد يكون مستحيلاً أيضاً، لأن سلطة المليشيات هنا وهناك وهنالك دمرت حتى القدرة على اقتفاء أثر القيم الإنسانية والدستورية المتعارف عليها، كما دمرت القدرة على الإمساك بها في أي حوار يقصد الإصلاح وإعادة البناء.
لقد صنعت إيران هذا كله. إذ أطلقت بمشروعها الطائفي، وبسعيها لتصدير الخراب حشداً من قنابلها النووية ضد هذه البلدان، حتى أقعدت كل شيء فيها على تلة الفشل والفوضى وأعمال العنف والفساد والدمار الشامل. واستخدمت مليشياتها لتعيث بكل شيء، وتسخر من كل معنى من معاني الدولة. حتى لم تعد توجد دولة أصلا، بل مجرد “ضمير ميت” (بحسب تعبير البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي) وعصابات تتحكم بالموارد وتمارس أعمال التهريب وفرض الإتاوات والتزوير وتتسلط على المؤسسات الحكومية لتملي عليها ما تشاء. وإذا حدث وأُجريت انتخابات فإنها تعود لتفوز بها، بصرف النظر عن ملايين المحتجين ضدها، لأنها تدبرت كل الوسائل التي تتيح لها فرض سلطة الأمر الواقع على الناس وعلى بقايا الدولة.
لم يحدث، على الإطلاق، أن تعرضت مجموعة دول ومجتمعات إلى مستوى مماثل من الدمار الشامل، منذ الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا. ولكنه يحدث بما تفعله إيران ومليشياتها، أمام أعين الجميع، وعلى مرأى كل أولئك الذين يدافعون عن “العودة إلى الاتفاق النووي”.
إيران مستعدة للتفاوض على مشروع قنبلتها النووية؛ مستعدةٌ تماماً لكي تقدمه طُعماً لكل من يشاء أن يقع في المصيدة. ولكنها ليست مستعدة للتفاوض على أعمال مليشياتها، ولا على سياساتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة.
نعم، يمكنها أن تضحي بقنبلة نووية واحدة، ولكنها لن تتخلى عن العشرين قنبلة نووية تلك التي فجرتها أصلاً في هذه البلدان.
تحتاج معادلةُ “عودوا لنعود” التي أصبحت الشغل الشاغل للاتصالات الدبلوماسية بين إيران ومجموعة “5+1” إلى إعادة نظر. تحتاج بالأحرى إلى إعادة استبصار وليس إلى إعادة نظر أصلاً. فالبصيرة التي انطفأت عند توقيع الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، هي ما يجب أن يعود ليرى العالم الأثر الكارثي الذي نجم عن استخدام إيران لقنابلها النووية الأخرى ضد مجتمعات كان بوسعها أن تعيش حياة أفضل لو لم تتحول إلى أداةٍ لتمدد النفوذ الإيراني، عبر مليشيات فساد وقتل وتخريب ودمار اجتماعي واقتصادي شامل.
لقد تلقفت إيران معادلة “عودوا لنعود” كما تتلقف هدية، وسعت إلى تدبير الوسائل الإجرائية لتنفيذها، لأنها تعرف من الأساس أنها معادلةٌ ترى قنبلةً وتعمى عن رؤية القنابل الأخرى.
لا يكفي القول، أبداً، إنها معادلة سطحية وغبية، لأنها إذا توقفت عند الحد المتعلق بملاحقة قدرات إيران على تخصيب اليورانيوم، ولم تمتد إلى أعمالها في “تخصيب المليشيات” وأعمال الدمار الشامل التي أوقعتها في المنطقة، فإن تلك المعادلة ستعود لتدعم الجريمة، بل لتكون شريكاً في صنعها وتبرير بقائها وتمددها إلى دول أخرى.
من وجهة نظر إيران، فإن معادلةَ “عودوا لنعود” بشأن الاتفاق النووي، يجب أن تستبعد أعمال زعزعة الاستقرار، لتقتصر على آليات العودة المتزامنة بين الطرفين. وكل التسهيلات ممكنة، والمعنى من وراء ذلك يقول: “نعطيكم قنبلة، واتركوا لنا قنبلة. نعطيكم خطراً لا سبيل إلى جعله خطراً فعلياً، واتركوا لنا قنبلة الدمار الشامل التي فجرناها في العراق وسوريا ولبنان واليمن”.