مقالات

“الموت” سيد الصرخة وسيد الأدلة

يتساقطون كعناقيد العنب وينثرون في المقابر كحبات البُن قبل استواء.. 

 نبكيهم كل يوم، تبتلعنا الأحزان وتكوينا الفجيعة، نرثيهم جماعات وأفواجا لم يعد هناك متسع كي نشيعهم فرادى. 

 في ظل الحرب وكورونا أصبح الموت مشاعيا والذاهبون بلا وداع أكثر من قدراتنا على الاحتمال، وحده الوجع يحفر في أعماقنا عميقا، ويضع آثارا لا تمحى بالأيام ولا تتدارك بالسنين، بكينا بالأمس عبد الرقيب المشولي وأبو رامي وقبلهما عدنان والقدسي، ومروان ومهدي، حتى الذين خاصمناهم وكتبوا عنا سوءا وبالغوا في ظلمنا وهم كثر. يأتي الموت إليهم فنحزن عليهم.. آخرهم الصحفي في حزب الإصلاح عبد القوي العزاني. 

 ربما أننا نجد في حياتهم مساحات أخرى لحياة الجدل ودليلا على حتمية الصراع واكتشاف الآخر واكتشاف أنفسنا وتهذيب ما تناثر منها، ها هي الصحائف في هذا الشهر الحرام تمتلئ بأسفار الأحزان والفواجع والراحلين قبل الأوان. 

كم من سنوات الحرب نحتاج كي نعود الى حضن الحياة ونغادر مسارح الموت، ونرمم ذواتنا من جديد ونتغنى بالوجود عوضا عن الثناء على الشهداء وتدبيج جميل الكلام في الأشلاء والمعاقين؟ 

كم نحتاج من وقت كي نعود الى معادلة وازنة تقتضي ان الحياة حب وليست حربا ونحاول الاحتفاء بالاحياء قبل ان نمجد موتهم؟ 

هل اصبح لزاما علينا ان نواجه موجات اقدارنا العبثية باستسلام ونصبح مجاميع تعزف على الحان الموت والمراثي في صفحاتنا وكتاباتنا ونتبادل التعازي والدموع؟ 

 لقد غيرت الحرب كل شيء في نفوسنا واقتحمت اخلاقنا، جعلتها هشيما وحطاما، الحرب اقسى ما ارادته اليد العليا لكنها وضعته كخيار ليس ملزما، لكنه ممكن، دون تدخل منها في ان يكون أو لا يكون ودون حماية الأبرياء والانقياء الذين هم وقود الحروب دوما. 

 الحرب اقسى موجات الظلم تقتلع حتى الاماكن من الجغرافيا، وتصبغها بلون جديد لايشبهنا وليس منا. 

 وفي اليمن يبقى مواليد العام ألفين وما تلاها هم الأسوأ حظا في بلادنا، ذاكرتهم اليومية تختزن عشرات الصور لمهرجانات الفناء وصور الشهداء والدمار وسفك الدماء ومشاهد مرعبة، انه جيل الصرخة اللعينة وصل الى الدنيا يصرخ ويبكي وأفاق على صرخة الموت فتجرع ويلاتها ولا يزال دون انقطاع. 

 لقد شاهدوا زملاء لهم يذهبون في حروب عبثية مفروضة، لم يجدوا دونها فرصا في الحياة فكانت فرص الموت البديل الوحيد، سارعوا بخطى ثابتة ومهتزة احيانا الى جبهات لا يعلمون لماذا فتحت ابتداء، فقط كي يدفعوا ثمنا باهظا ليس مستحقا عليهم.. انها ضريبة متأخرة من الاجيال السابقة، مستقبلهم سرق منهم وهم شهود عيان، انهم الجيل الاكثر حزنا، جيل الاكتئاب الحاضر والعنف المحتمل، ليس لهم رضا على النفس، وليس بمقدورهم سوى السخط على المجتمع. وغالب الظن انهم اكثر جيل ذهب الى المقابر وعمل كحفاري قبور، لم يكن لديهم رفاهية الاختيار بين الذهاب الى حقول الاشتباك وعدمه، فمن لم يذهب منهم تحفيزا باسم الواجب ذهب قسرا باسم الجوع والبطالة. 

 لا بد لهم اذاً من الذهاب قبل ان يتخطفهم قدرهم بوسيلة اخرى، لا بد ان يقدموا دليلا كافيا بانهم شباب وأنهم أبطال وأنهم مواطنيون صالحون. 

 لذلك كان لزاما أن يذهبوا الى الموت قبل ان يأتي اليهم، فهو سيد الموقف وسيد الصرخة وسيد الأدلة. 

زر الذهاب إلى الأعلى