أصدر مكتب الاستخبارات الوطنية الأميركية تقريراً حول الاتجاهات العالمية حتى العام 2040 ومجالات الصراعات المقبلة وحدودها واللاعبين حالياً والمقبلين.
التقرير الذي تشارك في إعداده أجهزة الاستخبارات مع بداية كل إدارة جديدة، يسرد العوامل المؤثرة في التحولات الحالية والتوقعات المستقبلية لشكل العلاقات المحلية والدولية، والعوامل التي يمكن أن تغير كثيراً من المسارات الحالية وأدوار اللاعبين كدول وكيانات غير حكومية، وبالتالي على مجمل العلاقات الدولية بشكلها الحالي.
تكمن أهمية التقرير في تناوله العوامل التي ستضع بصماتها على العالم خلال العقدين المقبلين، وفي مقدمها انتشار وباء كورونا الذي وصفه بأنه “أخطر اضطراب عالمي منذ الحرب العالمية الثانية” وصعوبة السيطرة عليه، وكذا التغيرات المناخية وشيخوخة السكان في الدول الصناعية الكبرى بما فيها الصين، والأزمات المالية وخطورة الانقسامات نتيجة التطور المذهل في التقنيات ووسائل التواصل والاتصالات، ودخول لاعبين جدد وكيانات غير حكومية إما في النطاق الإقليمي أو على المستوى الدولي.
تثير قراءة “التقرير” المخاوف من آثار احتدام التنافس على النفوذ ببلوغه أعلى مستوى منذ الحرب الباردة، وسينتُج من ذلك بيئة جيوسياسية متقلبة وتصادمية تعيد تشكيل تعددية الأقطاب وتوسع الفجوة بين التحديات العابرة للحدود، وتلك المرتبطة بالترتيبات المشتركة لمعالجتها مع احتمال أن تحتكر الولايات المتحدة، إلى جانب حلفائها القدامى، والصين التأثير الأكبر على المتغيرات العالمية، بدعم رؤى متنافسة للنظام الدولي والحوكمة بما يعكس مصالحهم الأساسية وأيديولوجياتهم، وسيطال تأثير التنافس بينهما معظم المجالات، مما يؤدي إلى إجهاد، وفي بعض الحالات إعادة تشكيل التحالفات القائمة والمؤسسات الدولية التي عززت النظام الدولي لعقود ماضية.
ما يتضح من قراءة التقرير أننا سنواجه عالماً سيخوض خلال العقدين المقبلين صراعات لن تتمكن فيها أية دولة أو كيان من السيطرة بمفردها على جميع المناطق والمجالات، وهو ما يستدعي نشوء تحالفات جديدة قد يبدو بعضها استثنائياً كما حدث عند إقامة العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل ودولة الإمارات ومملكة البحرين كنموذج قريب زمنياً، وربما أيضاً تحالفات منافسة بين الدول العربية التي يبدي بعضها قلقاً إزاء قضية التطبيع، مبدية شكوكاً حول نجاحها في دعم استقرار المنطقة وفي أهدافها النهائية، ولا أستبعد أن يدفع هذا إلى سباق لدعوة دول إقليمية أو دولية من خارج نطاق العالم العربي للوجود داخل حدودها.
ستظل القوتان العسكرية التقليدية والاقتصادية ركيزتين لتعزيز مكانة أية دولة، وستقوم المؤسسات الترفيهية والرياضية والسياحية والتعليمية بدور القوة الناعمة داخل المجتمعات وبينها، كما أن التحولات التكنولوجية ستصبح مقياساً للقدرة على اتخاذ القرارات بناء على بيانات دقيقة، وما لم تتمكن الدول العربية من مواكبة تطورات استخدامات الذكاء الصناعي والتقنية الحيوية، فإن تخلفها العلمي والمعرفي سيتعاظم وستظل معتمدة على العون الخارجي لتسيير أمورها، وسيستمر الدوران في الفراغ مع الركون إلى المخزون النفطي الذي يبتعد الغرب تدريجياً عن استخدامه واستبداله بالطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة النووية.
وللتكيّف مع هذه التحولات فإن على العالم العربي البدء في إحداث نقلة جادة نحو تعليم يهدف إلى خلق أجيال تمارس التفكير النقدي الحر، ويجب تحسين الأداء الحكومي وشفافية إجراءاته وتعزيز الشرعية المحلية التي تتطلب مزيداً من المشاركة الداخلية في الرقابة، ومن دون هذا فمن غير المحتمل أن تتمكن الدول العربية من الإسهام والتأثير في ما يدور داخلها وحولها.
نتيجة لهذا التنافس والتحولات، ستعمل دول على القيام بأدوار إقليمية أكبر خلال العقدين المقبلين، بينها السعودية والامارات وتركيا وإيران والبرازيل وأستراليا، مما سيدفعها إلى محاولة ممارسة دور القوى الكبرى في حيزها الجغرافي ضد بعضها بعضاً، وقد تسعى إلى بناء تحالفات خاصة من دون أن تنجر إلى صراعات تخرج عن إطار السيطرة، وربما تعاونت في مواجهة تحديات عالمية مع احتمالات أن تكون عدوانية في تصرفاتها عند حدوث نزاعات قريبة منها جغرافياً، ولتفادي هذا الاحتمال فمن الضروري إعادة النظر في طبيعة العلاقات العربية البينية، وتغليب المصلحة المشتركة لأنه غير ممكن الانكفاء وإهمال تأمين الجوار اقتصادياً وأمنياً لحماية المنطقة برمتها.
سيبقى الصراع الأميركي – الصيني الشغل الشاغل للدولتين، إذ أن القدرة الصينية في استخدامات الذكاء الاصطناعي وتقنية الجيل الخامس من وسائط نقل البيانات تضعها في موقع يمكنها من التحكم في تدفق المعلومات والسيطرة على التكنولوجيا الرقمية في مجال التسويق، وهذا سيساعدها في سرعة الوصول إلى المجتمعات وقدرة التلاعب المعرفي والاستقطاب من خلال تشكيل أسلوب تلقي الناس للمعلومات وتفسيرها والتصرف بناء عليها.
ويمكن استخدام الابتكارات والتكنولوجيا الحديثة في جعل الحملات الدعائية أكثر مرونة وأسرع وصولاً إلى الجماهير مع صعوبة اكتشافها ومكافحتها، وهكذا يمكن تكييف التواصل مع الجمهور وتوقع ردود أفعالهم.
سيشهد العالم منافسة متصاعدة تتداخل فيها القوة التقليدية بالتقنيات الحديثة، وسيكون من الصعب على أية دولة عدم الانخراط فيها وتحاشي آثارها إلا إذا حسّنت أداءها المحلي في كل مستوياته.
حالياً يجري صراع داخل المنظمات الدولية وخصوصاً في ما يتعلق بالمعايير التي تتصارع الصين والغرب حول تطبيقها في كل المجالات، فالصين وروسيا، على سبيل المثال، تروجان لنظام دولي يضمن سيادتهما المطلقة داخل حدودهما ومناطق نفوذهما الجغرافية مع مقاومة القيم والمبادئ التي تحاول الولايات المتحدة وأوروبا نشرها في الدول الأخرى، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن هنا فإنهما تعملان على تقليل الثقة في المؤسسات وتعزيز نظرية المؤامرة عبر السيطرة على منصات الاتصالات الرقمية ووسائل نشر المعلومات.
من المفيد هنا أن أسأل، أين نحن في العالم العربي من كل هذا؟ هل نحن مستعدون لاستيعاب القادم من الشرق أو الغرب؟ هل سنكون لاعبين حقيقيين أم مناشدين لهذا المعسكر أو ذاك لحمايتنا والدفاع عنا؟ هل نمتلك أو نسعى إلى امتلاك بنية معرفية قادرة على امتصاص هذا الكم الهائل من البيانات وتحليلها وتنقيتها كي يكون القرار مستنداً إلى حقائق وليس إلى رغبات ذاتية؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تضعنا في بداية طريق طويل وصعب، فمن يقرع الجرس؟
*نقلا عن إندبندنت عربية