القيمة الإستراتيجية العالية لمحافظة مأرب سواء للحوثيين الطامعين في مواردها النفطية أو للحكومة اليمنية الراغبة في الحفاظ على آخر معقل لها بشمال اليمن، تفسّر ضراوة الحرب الدائرة فيها واستماتة كل طرف في القتال من أجلها، الأمر الذي يؤخر حسم الحرب ويرفع فاتورة خسائرها البشرية، كما يعمّق المأساة الإنسانية الناجمة عنها.
ترتفع يوما بعد يوم فاتورة الخسائر البشرية في الحرب على جبهة مأرب شرقي العاصمة اليمنية صنعاء من دون أفق واضح لحسم المعركة في ظل إصرار القوات الحكومية المدعومة من التحالف العربي بقيادة السعودية على عدم ترك المحافظة الإستراتيجية الغنية بالنفط تسقط بأيدي الحوثيين الذين لجأوا إلى استخدام أسلوب الأمواج البشرية أملا في الحرب التي خطّطوا لأن تكون سريعة وخاطفة لكنّها تحوّلت إلى حرب استنزاف.
ويمكن أن تؤدي المعارك التي تدور حول مدينة مأرب آخر معقل للحكومة اليمنية المعترف بها دوليا في شمال البلاد إلى تغيير كبير في مسار النزاع الذي دخل عامه السابع. وستشكّل خسارة مأرب، إن حصلت، ضربة قوية للحكومة وتعزّز موقف المتمردين المتحالفين مع إيران في أي مفاوضات مستقبلية. وقد تشجّعهم على محاولة التقدم جنوبا.
وقُتل المئات من المقاتلين منذ بدء الهجوم واسع النطاق في فبراير الماضي وفقا لمصادر محلية، في وقت يشير فيه مسؤولون في القوات الموالية للحكومة إلى أن المتمردين يرسلون دفعات متتالية من مقاتليهم نحو مأرب، وذلك على طريقة الأمواج البشرية وهو أسلوب في الحرب سبق أن اعتمدته إيران في حرب الثماني سنوات ضد العراق.
ويقوم هذا الأسلوب على الدفع بموجات متتالية من المقاتلين على أمل إرهاق العدو وإنهاك طاقاته، لكنّه أسلوب مكلف جدا على صعيد الخسائر البشرية، ويتم الاعتماد فيه على مقاتلين غير مدربين بشكل جيد لكن تتم تعبئتهم عقائديا ودينيا وغرس فكرة قدسية المعركة التي يخوضونها ومشروعية التضحية بالنفس في سبيل كسبها ليكونوا بمثابة طعم للعدو ووقود للجبهة.
ويقول أحد القادة العسكريين في القوات الحكومية لوكالة فرانس برس إنّ الإستراتيجية التي يتبعها الحوثيون في جبهة الكنائس شمال المدينة تهدف إلى إرهاق الخصم.
وكان المسؤول يتحدث بين مجموعة من الجنود في خنادق محاطة بأكياس رملية بالقرب من مدافع رشاشة ثقيلة تم تحميلها على الجزء الخلفي من شاحنات صغيرة. واتّهم الحوثيين بالدفع بموجات من المجندين الشبان وبينهم أطفال بهدف إضعاف القوات الموالية للحكومة واستنفاد ذخيرتها.
وعادة ما تتبع المعارك التي تستمر ساعات فترة هدوء قصيرة تستغل لجمع الجثث. وبعد ذلك تتحرّك مجددا مجموعات من المقاتلين الحوثيين تحت غطاء قصف متواصل.
وعن الإستراتيجية التي أكدها مسؤولون يمنيون آخرون بمن فيهم محافظ مأرب سلطان العرادة يرى القائد الذي فضّل عدم ذكر اسمه أنّ الحوثيين لا يهتمون بعدد الرجال الذين يموتون من مقاتليهم.
ومأتى إصرار القوات الحكومية وكذلك التحالف العربي على منع سقوط مأرب بأيدي الحوثيين، أنّ المدينة وبعض المناطق المحيطة بها هي آخر الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة في الشمال، فيما تخضع باقي المناطق لسيطرة المتمردين بما في ذلك العاصمة صنعاء الواقعة على بعد نحو 120 كلم غربي مدينة مأرب.
واستأنف الحوثيون في فبراير الماضي هجومهم على المدينة بتعزيزات عسكرية كبيرة. وزار صحافي في وكالة فرانس برس مواقع للقوات الحكومية بعدما توجّه إلى المنطقة من السعودية على متن مروحية بدعوة من التحالف العسكري بقيادة الرياض والذي يقاتل الحوثيين منذ مارس 2015.
وحلّقت الطائرة على ارتفاع منخفض فوق حقول النفط مترامية الأطراف ومصنع لتعبئة الغاز الطبيعي وفوق السدّ الذي يوفّر المياه العذبة للمنطقة الجافة، وهي مواقع تجعل من مأرب هدفا ذا قيمة عالية للحوثيين.
ونظرا لتكافؤ القوى بين الطرفين المتحاربين يتّجه الوضع الميداني في مأرب نحو الركود. فبعد عدّة أسابيع من القتال تحوّل الطرفان بشكل ملحوظ من الإعلان عن تحقيق كل منهما تقدّما على حساب الطرف الآخر في هذا الموقع أو ذاك، إلى الإعلان عن الصمود في المواقع وصدّ الهجمات المضادة.
ويذهب البعض إلى اعتبار الوضع في المحافظة نموذجا مصغّرا لما انتهت إليه الأوضاع في اليمن بصفة عامةّ من ركود بعد حوالي سبع سنوات من الحرب.
ويقول هؤلاء إنّ أوضاع السيطرة الميدانية لأطراف النزاع في اليمن أصبحت شبه مستقرة وإنّ الجهود الحربية لكل الأطراف قد تكون بلغت أقصاها وبات من الصعب تحقيق اختراقات ذات تأثير في مسار الحرب بحيث تفرز طرفا منتصرا وآخر مهزوما بشكل واضح وحاسم.
وبعد أن كانت الشرعية اليمنية ترفع شعار دحر الحوثيين وإنهاء سيطرتهم على المناطق التي احتلوها بدءا من خريف سنة 2014، طغى الدفاع عن مأرب عما سواه من أهداف.
ويمثّل إفشال الهجوم الحوثي على مأرب بحدّ ذاته إنجازا عسكريا مهمّا لمعسكر الشرعية اليمنية لا يخلو من نتائج سياسية، ذلك أن المتمرّدين أرادوا بسيطرتهم على المحافظة الإمساك بورقة تفاوضية مؤثّرة في المسار السياسي الذي ضاعفت الولايات المتّحدة والأمم المتّحدة من جهودهما لإطلاقه، فضلا عن وضع أيديهم على النفط والغاز الوفيرين في مأرب واللذين يشكلان موردا ثريا للكيان السياسي القابل للحياة الذي شرع هؤلاء في تأسيسه في المناطق اليمنية التي يسيطرون عليها.
وتنتشر في مدينة مأرب مركز المحافظة التي تحمل الإسم ذاته ملصقات بأسماء وصور قادة عسكريين سقطوا في المعارك. كما تنتشر نقاط التفتيش في محاور المدينة.
ومحافظة مأرب موطن لمئات الآلاف من المدنيين الذين نزحوا بسبب الصراع المستمر منذ منتصف 2014 وهم يواجهون احتمال النزوح مرة أخرى في بلد تتناقص فيه الملاذات الآمنة.
وتقول المرأة الأربعينية هالة الأسود وهي أم لأربعة أطفال تعيش في السويداء أحد المخيمات البالغ عددها 140 في المحافظة “زوجي فقد عقله” بسبب الحرب والنزوح المستمر،مضيفة أنه “أصبح يضرب الأطفال”.
وكان التصعيد في الأعمال الحربية قد تسبّب في نزوح 13.600 شخص إلى مدينة مأرب هذا العام وفقا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ما وضع ضغطا شديدا على المدينة في خضم موجة ثانية لفايروس كورونا.
وفيما تعاني المخيمات من نقص المياه النظيفة والكهرباء، تتزايد أعداد المقيمين فيها بينما تتعرض بشكل متكرر للقصف. وتقول امرأة في مخيم السويداء إنها أجهضت بسبب التوتر الناجم عن الحرب بينما كانت امرأة أخرى تكشف عن جرح أحدثته شظية في رأس ابنها. وحملت طفلة قطعة معدنية ملتوية قالت إنها شظية قذيفة أصابت مخيمها.
ويقول عرفات البالغ من العمر واحدا وعشرين عاما وهو من سكان المخيم وأب لستة أطفال “وقف إطلاق النار ضروري وإلاّ سنموت جميعا هنا”.
وفي مارس الماضي رفض الحوثيون دعوة السعودية لوقف إطلاق النار على مستوى البلاد. وبدلا من ذلك صعّدوا الهجمات بالطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية نحو عمق المملكة التي توفر الدعم الجوي للقوات الموالية للحكومة في معارك مأرب.
وانتقد مسؤولون في المملكة قرار الرئيس الأميركي جو بايدن العودة عن تصنيف جماعة الحوثي منظمة إرهابية وهو تصنيف كان قد أقرّه سلفه دونالد ترامب، قائلين إن هذه الخطوة شجّعت المتمردين على تصعيد الحرب.
ويدافع المسؤولون الغربيون عن قرار بايدن قائلين إنّ التصنيف كان سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن من دون أن تؤثر بأي شكل من الأشكال على القدرات العسكرية للحوثيين.
وقال مسؤول غربي إنه انتقد هجوم مأرب ووصفه بأنه خطأ فادح خلال محادثات مباشرة مع مفاوضين حوثيين مشيرا إلى أن ذلك لم يلق آذانا صاغية.
وفي غضون ذلك، استجابت قبائل مأرب للدعوات المحلية لإرسال مقاتلين لتعزيز الخطوط الأمامية في المدينة إلى جانب القوات الموالية للحكومة.
ويرى العديد من رجال قبائل مأرب الذين يصفون أنفسهم بأنهم أبناء الصحراء ميزة عسكرية في المشهد الصحراوي المنبسط، معتبرين أن الأرض المستوية تمنحهم ميزة على الحوثيين الأكثر مهارة في حرب الجبال.