في حوار مع صديق لفت انتباهي إلى ما اعتبره مخاطر استخدام مصطلح “الدولة المدنية” بسبب ما يثيره من تحفظ عند البعض وخاصة أولئك الذي كفروا هذا المصطلح.
قلت له:
إن الذين ظلوا يرفضون الدولة المدنية بحجة أنها دعوة لفصل الدين عن الدولة أخطأوا مرتين:
– مرة لأن الدولة المدنية هي دولة المواطنة في الأساس، وينظمها القانون الذي يتوافق عليه الناس. أي أن أمر الناس لا تتولاه جماعة بعينها، ولا ينفرد به شخص، وإنما هي مسألة تستند على رغبة الناس في العيش المشترك، والانتقال من كيانات اجتماعية متفرقة ومتناحرة إلى كيان تنتظم فيه حقوقها ومصالحها وواجباتها، وهو ما يسمى بالدولة. والناس هم المعنيون بتقرير طبيعة هذه الدولة التي تجعل منهم مواطنين فيها بحقوق يقررون بموجبها نظام الحكم واختيار الحاكم. والمتتبع للنقاش الذي دار في السقيفة بعد وفاة رسول الله كيف أن الأنصار تمسكوا بمفهوم قريب من مفهوم دولة الشراكة المدنية، وكيف أن سعد بن عبادة زعيم الخزرج وصاحب الدعوة إلى دولة الشراكة مع قريش وجد مقتولاً بعد أيام من خلاف السقيفة.
والدولة المدنية لا تضع نفسها في مواجهة مع الدين، كما يذهب هؤلاء، وإنما تضع الدين في المكان اللائق به، وهو المكان الذي ينأى به عن التوظيف السياسي لصالح جماعة أو أخرى. وتعد هذه الدولة أكثر احتراماً وتقديساً للدين من غيرها ممن كرست الظلم والطغيان والاستبداد وصادرت حقوق الناس باسم الدين. ففي حين تنزه الدولة المدنية الدين عن أخطائها، فإن الدولة الدينية تحمله كل أخطائها وتورطه في فسادها، وتحوله إلى أيديولوجيا لقمع المعارض. ولذلك فإن الدولة المدنية لا تتصادم مع الدين، فهي ترشد تعاليمه وفقاً لمتطلبات حياة المجتمعات على نحو يجعل المعتقد قوة إيمانية أكثر منه مرجعية نصية جامدة ومعطلة للاجتهاد والتكييف.
– أما الخطأ الثاني فهو أن التمسك بالدولة الدينية ظل مصدر إغراء لأولئك الذي يعتقدون أن الحكم حق لهم دون سواهم، وأن حروبهم من أجل هذا الحق مشروعة، وهذا أخطر ما في المسألة. ففي تاريخ الصراع من أجل الحكم تمحور حق الحكم ووراثته منذ السقيفة في قريش، وانقسم المسلمون بموجب ذلك داخل بوتقة قريش، أي بين أبناء عبد مناف، أمية وهاشم.. وتم استقطاب المسلمين في نطاق هذه البوتقة القرشية ليؤسسوا قواعد الاتفاق والاختلاف، كان الخوارج هم من رفض فكرة احتكار الحكم في قريش، فكان أن وقف الجميع صدهم (أبنا عبد مناف: أمية وهاشم ومن والاهم) وأخرجوهم من ملة الاسلام لا لشيء إلا لأنهم اعتبروا الحكم حقا لكل مسلم “حتى لو كان رأسه زبيبة”، وفقاً لحديث رسول الله “اسمعوا واطيعوا وان استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة”، وهدموا بذلك صنم “الحكم القرشي”.
طل الحكم في قريش هاجساً يلاحق كل من يفكر في أمر المسلمين وهم يشاهدون الأمم تنهض وتتقدم وتأخذ بالأسباب في صياغة نظم الحكم السياسية من منطلقات معاصرة. وفي سياق هذا الهاجس الذي قمع كل فكرة لقيام دولة المواطنة كانت تنمو بقوة نزعة الحق الالهي لدى من اعتبروا أنفسهم أحق بالحكم من بني عمومتهم القرشيين الامويين، أي فرع هاشم بشقية العباسي والعلوي باعتبارهم الاقرب إلى رسول الله بيولوجياً واعتقاداً برسالته.
لقد مهد منهج رفض الدولة المدنية الأرضية أمام تكريس الحق الإلهي في الحكم لآل البيت لأنه وفر لهم مشروعية تقوم على حصر الحكم في قريش والمجادلة من ثم بأحقية أي من الفروع أكثر تأهيلاً لتولي أمر المسلمين. وبهذا فإن رفض الدولة المدنية وعدم السماح بقيامها بدوافع لا علاقة لها بالدين كان سبباً في إبقاء فكرة الحق الإلهي في الحكم لطائفة من الأمة حاضراً في الوعي، بل وأكسبته مشروعية ما أنزل الله بها من الحكم.