رتق الفتق في مركز عاصفة الأزمات
لو حصلت الولايات المتحدة على ضمانات من إيران.
بوقف نشاطاتها التخريبية في المنطقة، أو كبح مليشيات الإرهاب التابعة لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فإن شيئاً لن يمنع من رفع كامل العقوبات عن إيران، وأن يتم فتح صفحة جديدة من العلاقات معها، تسمح بإقالة اقتصادها من عثرته، وإنقاذ مجتمعها من هاوية الفقر والحرمان، بل وحتى بقاء نظامها الراهن نفسه.
هل هناك شك، لدى أي أحد، بأن تلك النشاطات التخريبية تشكل تهديدا متواصلا للاستقرار المنطقة؟
هل هناك شك بأن منطقة تغرق بالأزمات المفتعلة لن تحقق لأي أحد فوائد فعلية من العودة إلى الاتفاق النووي؟
وهل هناك في الولايات المتحدة نفسها مَن لا يرى أن أعمال المليشيات التابعة لإيران تشكل تهديداً للمصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة؟
ثم هل يمكن للعمى أن يبلغ الحد الذي لا يرى أن إيران تريد الحصول على أموال لتدعم التنظيمات التابعة لها، ولكي تواصل ما لا تنوي الكف عنه؟
هل هذا معقول أصلا؟
يستطع الكثيرون منا أن يتفهموا النيّات الحسنة التي توجّه بها الرئيس جو بايدن تجاه إيران برغبته في وقف التصعيد وعزمه على دفعها إلى وقف التهديدات المتعلقة بمشروعها النووي.
يستطيع هذا الكثير أن يرى ويتفهم تماماً الظروف التي تحيط بمكانة الولايات المتحدة في التوازنات الدولية، لا سيما منها السباق التجاري العنيف مع الصين، وتوتر العلاقة مع روسيا، وأزمة كورونا، وغيرها من القضايا الحساسة الأخرى.
ولكن لا أحد يستطيع أن يُنكر أن إيران تقع الآن في مركز عاصفة الأزمات الدولية بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا ودول المنطقة. وأن تأثيرات هذه العاصفة يمكنها أن تعصف، حقاً وفعلاً، بكل التوازنات الدولية التي تريد الولايات المتحدة أن تحافظ على مكانتها فيها.
السباق مع الصين ليس من النوع الذي لا تمكن معالجته. وفي الواقع، فإن المفاوضات الناجحة التي أجراها الطرفان في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، قطعت الشوط الأوسع في ضمان ردم الهوة في الميزان التجاري بين البلدين. ولا شيء يمنع إدارة الرئيس بايدن من أن تزيد على هذا النجاح نجاحاً آخر.
الصينيون أظهروا المرونة في هذا الجانب، لأنهم يعرفون أنهم راكموا من المكاسب ما يكفي لتقديم التنازلات. أما السباق التكنولوجي، فإن الولايات المتحدة قادرة على كسبه، وهو سباق يصب في مصلحة التقدم الإنساني في جميع الأحوال.
اللقاء بين وزيري خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن وروسيا سيرغي لافروف فتح الطريق أمام تسوية المشكلات بين البلدين. وما من شك في أن لقاء القمة المزمع بين الرئيسين بايدن وفلاديمير بوتين يمكنه أن يعيد قطار هذه العلاقات إلى السكة التي سار عليها على امتداد السنوات الثلاثين الماضية منذ انتهاء الحرب الباردة.
وهناك سبب جوهري، ناصع، وبسيط في الإمكانيات المتاحة لتسوية الأزمات مع الخصوم والمتنافسين الدوليين، وهو أن الولايات المتحدة تتعامل مع دول تتصرف مع مصالحها كدول. لا مع عصابة دينية ولا مع نظام مليشيات.
في العلاقة مع الدول يمكن في النهاية تسوية النزاعات، ووقف التدافع بالأكتاف على بعض المصالح، بينما يتم تمهيد الأرضية لمصالح جديدة، والتوصل إلى حلول عاقلة للخلافات السياسية. ولكن كيف يمكن التفاهم مع دولة عصابة، منغلقة عقائدياً، وتحسب أنها على حق دائماً، وليس لديها مصالح تتعدى القدرة على التخريب؟ ولا ترعى حتى مصالح شعبها نفسه؟
إيران لا هي تنافس الولايات المتحدة على تكنولوجيا الجيل الخامس، ولا هي أنتجت لقاحاً يتحدى قدرة “فايزر” و”موديرنا” على كسب السوق، ولا هي تقدم للميزان التجاري الأمريكي أكثر من هامش هزيل، (يمكن لبنك الاحتياط الفيدرالي أن يطبع عشرة أضعافه)، ولا هي تشكل تهديداً للتوازن الاستراتيجي في الصواريخ العابرة للقارات. ومشروعها النووي نفسه لا يزال بدائياً وتنقصه كل أنماط تكنولوجيا ما بعد التخصيب، وهو أقل قيمة بكثير مع قدرات كوريا الشمالية النووية.
فما هي الأهمية الخارقة للمألوف التي تستوجب قبول المخاطر الناجمة عن إعادة تمويل دولة لا تزال تعتبر في الولايات المتحدة نفسها “أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم”؟
التهاون مع المخاطر التي تشكلها أعمال التخريب في المنطقة، ماذا يعني؟ إنه يعني تعريض مكانة الولايات المتحدة ومصالحها لخطر النسف.
أليس ذلك واضحاً وضوح الشمس في العراق؟
ثم ماذا يعني أن تسحب الولايات المتحدة غطاءها الأمني في منطقة تشكل العلاقات التجارية والاستراتيجية معها حجر زاوية ثقيل الأهمية بالنسبة للاقتصاد ولمكانتها كقوة عظمى؟
ثم إذا عاد الجميع إلى الاتفاق النووي، فمن ذا الذي يأمن من أعمال الابتزاز والتهديدات الأخرى؟ من يمكنه أن يُعيد لليمن استقراره، وللبنان فرصته للنجاة، وللعراق حق شعبه بالاستفادة من ثروات بلاده، بدلاً من نهبها؟
لقد أعاد أتباع مليشيا حزب الله في لبنان الترويج لخطاب ألقاه زعيمهم حسن نصر الله في عام 2016 اعتبر فيه أن “الجهاد” ضد السعودية أهم من “الجهاد” ضد إسرائيل، وأن الحرب في اليمن أهم من حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله في لبنان.
أين تضع هذه العقلية الإرهابية لدى العودة إلى الاتفاق النووي؟
إذا لم تجد لها مكاناً هناك، فالعودة نفسها ستكون بلا عقل، لأنها ترتق فتقاً، وتُبقي على فتقٍ آخر أكبر منه.