مغناطيس الإخوان يجتذب فلول القاعدة في اليمن نحو تعز “ماذا يحدث؟”
- تعايش إخوان اليمن مع تنظيم القاعدة سواء على سبيل التجاور معه أو استيعاب فلوله ضمن قوّاتهم، لا يجد فقط أرضية له في القرابة الأيديولوجية والعقائدية بين الطرفين، ولكنه يستند أيضا إلى التقاء في المصالح ووحدة في الهدف المتمثّل خصوصا في مقارعة أعداء مشتركين والسعي لإحكام السيطرة على عدّة مناطق من البلاد من بينها محافظة تعز الاستراتيجية التي أصبحت نموذجا عمليا لتعايش القاعدة والإخوان.
عندما انطلقت في أوائل سنة 2016 سلسلة هزائم وانهيارات تنظيم القاعدة في مناطق سيطرته بجنوب وشرق اليمن بدءا بمعقله الأهم آنذاك في مدينة المكلاّ بمحافظة حضرموت شرقي البلاد، ووصولا إلى مناطق أخرى في محافظات أبين وشبوة والبيضاء ولحج، كان هناك سؤال ملحّ حول وجهة الكثير من عناصر التنظيم وقياداته الميدانية الذين لم يُقتلوا في الحملة العسكرية الكبيرة التي اشتركت فيها قوات محلّية جنبا إلى جنب مع التحالف العسكري الذي تقوده السعودية وبالتوازي مع ضربات الطيران الأميركي المسيّر، وآثروا الانسحاب عندما أيقنوا من الهزيمة.
ويجد هذا السؤال جزءا من الإجابة عليه في الوضع القائم في محافظة تعز بجنوب غرب اليمن منذ أن تمكّنت جماعة الإخوان المسلمين من السيطرة عليها بعد هزيمة خصومها ومعارضيها، وجعلتها موطنا لتجميع قواها ومركزا لتأسيس قوة عسكرية خاصة بها موازية للقوات اليمنية تعرف بالحشد الشعبي واستوعبت ضمنها الكثير من مقاتلي تنظيم القاعدة المنسحبين من محافظات يمنية أخرى.
وتخضع أغلب أحياء مدينة تعز التي تعتبر أحد أكبر التجمّعات السكانية في اليمن ومركزا اقتصاديا هاما لسيطرة حزب التجمّع اليمني للإصلاح الذي اختلط نفوذه هناك بالأجهزة الرسمية العسكرية والمدنية التي تغلغل داخلها وأصبح يسيطر عليها بشكل كبير، بينما تخضع المدينة من جهة الشمال الشرقي لحصار جزئي من قبل جماعة الحوثي في إطار نوع من التنسيق والتفاهم غير المعلنين بين الإخوان والحوثيين.
ويقول سكّان تعز إنّ مظاهر “الأسلمة” في المدينة أصبحت ظاهرة للعيان وملموسة في كل مظاهر الحياة، مؤكّدين أن وجود المتشدّدين هناك لا يقتصر على الإخوان، ولكن يوجد أيضا الكثير من عناصر تنظيم القاعدة ممن لم يتمّ استيعابهم ضمن قوّات حزب الإصلاح وسُمح لهم بالنشاط الحرّ بما في ذلك إنشاء مناطق خاصة بهم وحراستها بالسلاح وممارسة الدعوة والتجنيد لتنظيمهم في الفضاءات العامّة وداخل المساجد والكتاتيب التابعة لهم.
ويقول نشطاء مدنيون إنّ الإخوان لا ينظرون إلى القاعدة كمنافس لهم بل كحليف حارب إلى جانبهم في مناطق أخرى بجنوب اليمن ضدّ قوات المجلس الانتقالي الجنوبي وأيضا في تعز ضدّ كتائب أبي العبّاس بقيادة عادل عبده فارع الذبحاني والتي شكّلت الغريم الأول للإخوان عندما بدأوا حملاتهم للسيطرة على المدينة قبل أن يتمكّنوا من هزيمة الكتائب أواسط سنة 2019. وتفسّر ذلك الأريحيةَ الكبيرةَ التي يتمتّع بها عناصر القاعدة في تعز حيث لا يصعب على الإخوان ضبط إيقاعهم والتحكّم بهم نظرا إلى العلاقات الوثيقة والقديمة بقياداتهم.
وظل الإخوان لسنوات يحاولون السيطرة على تعز ويصطدمون بقوى ممانعة لهم من أحزاب وقوى مدنية، وأيضا من مسؤولين حكوميين، لكن مجيء المحافظ المقرّب منهم نبيل شمسان قبل نحو سنتين معيّنا من قبل القيادي الكبير في حزب الإصلاح محسن الأحمر الذي يشغل منصب نائب للرئيس اليمني، شكّل منعطفا حاسما في سيطرتهم على المدينة. ورغم تغلغل الإخوان داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية في تعز فقد حرصوا على تشكيل قوة خاصة بهم تحت مسمىّ الحشد الشعبي، مستفيدين من التمويل القطري السخي لتلك القوة.
“إمارة” مشتركة
تجنيد حزب الإصلاح لعناصر القاعدة اقتصر على المقاتلين الميدانيين وتجنّب القياديين المعروفين والملاحقين من أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية
يصف سكّان من تعز الوضع في مدينتهم بالمخيف بسبب انتشار المسلحين من تنظيم الإخوان والقاعدة فيها وفرضهم تعاليم متشدّدة على السكان وعدم التردّد في ترهيب كل من لا يستجيب لأوامرهم وطلباتهم.
وسبق لتقارير أممية وتصريحات لمسؤولين كبار في الأمم المتّحدة أن وثّقت وجود عناصر من تنظيم القاعدة في تعز قالت إنّهم من فلول التنظيم المنهزم في المكلاّ وغيرها من المناطق.
وورد في أحد التقارير أنّه “بعد إخراج تنظيم القاعدة من مدينة المكلا في محافظة حضرموت في أبريل 2016 بدأ التنظيم ينشط في مدينة تعز”. كما سبق للمبعوث الأممي السابق لليمن إسماعيل ولد الشيخ أحمد أنّ أكّد في إحاطة أمام مجلس الدولي أن “الجماعات الإرهابية تتوسع في محافظة تعز إلى جوار كل من أبين ولحج”.
وتصف شخصيات سياسية وأمنية يمنية ما يفعله إخوان اليمن بفلول تنظيم القاعدة بأنها إعادة تدوير وإدماج لهؤلاء المقاتلين المتمرّسين بحرب العصابات ضمن قوّاتهم التي يعملون منذ سنوات على تأسيسها استعدادا لصراع طويل الأمد هدفه السيطرة على مناطق يمنية شاسعة ذات مواقع استراتيجية وغنية بالموارد الطبيعية، من مأرب شرقي صنعاء إلى أبين وشبوة جنوبا إلى تعز غربا، مرورا بعدن التي يعملون على محاصرتها من مختلف الاتجاهات تمهيدا للانقضاض عليها وانتزاعها من سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي.
وتقول مصادر يمنية مطّلعة على عمليات تجنيد مقاتلي القاعدة الذين سبق لهم أن شاركوا في احتلال مدينة المكلاّ وكذلك في عدّة معارك خاضها تنظيمهم في أبين والبيضاء وغيرهما، إنّ التجنيد اقتصر في الغالب على المقاتلين الميدانيين الشباب غير المعروفين للأجهزة الأمنية المحلّية والدولية وتمّ تجنّب القياديين من مختلف الدرجات كون هؤلاء ملاحقين من قبل الأجهزة الاستخباراتية الإقليمية وحتى الدولية في بعض الأحيان.
وتوضّح المصادر أنّ ما سهّل على الإخوان عملية استيعاب مقاتلي القاعدة وإدماجهم، هو سلسلة الضربات والهزائم التي تلقاها التنظيم المتشدّد في اليمن خلال السنوات الأخيرة بعد أن مرّ بفترة تغوّل رفعت طموحاته من مجرّد تنفيذ العمليات الخاطفة والهجمات الانتقائية الهادفة بالأساس إلى زعزعة الاستقرار وإضعاف القوى الأمنية، إلى محاولة السيطرة على مناطق كاملة واتخاذها نواة لتأسيس إمارته الإسلامية المنشودة على غرار احتلاله المكلا لفترة وجيزة، إضافة إلى استيلائه على مدينة زنجبار مركز محافظة أبين ومدينة جعار القريبة منها.
وواجه تنظيم القاعدة بعد ذلك أكبر حملة عسكرية ضدّه شارك فيها التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية سواء بالعمل الاستخباراتي أو بالمشاركة في العمليات العسكرية وقيادتها وتوجيهها، وخصوصا بتدريب نخب عسكرية مناطقية محليّة وأحزمة أمنية كان لها دور مفصلي في هزيمة التنظيم وطرده من المناطق التي احتلّها.
وشرّدت هزيمة القاعدة الآلاف من المقاتلين من أبناء القبائل المحلّية الذين لم يكن التحاقهم بالتنظيم يخلو من أهداف مادية في ظلّ شحّ موارد الرزق في البلاد، إذ أنّ المشاركة في غزو المناطق واحتلالها كان يتيح الاستيلاء على ممتلكات وأموال الأهالي الذين لا يستجيبون لأوامر التنظيم وتعاليمه فيعتبرون كفّارا ويقتلون في الكثير من الأحيان وتصادر أملاكهم، كما كان التنظيم يحلّ محلّ الدولة في فرض الضرائب والإتاوات على الخدمات والأعمال التجارية، ويجمع من ذلك مبالغ هامّة من المال يُوزّع جزءا منها على مقاتليه.
ولم يكن عسيرا على حزب التجمّع اليمني للإصلاح، ذراع جماعة الإخوان في اليمن، وهو يعمل على تقوية جيشه ورفده بالمقاتلين أن يستميل فلول تنظيم القاعدة ممن وجدوا أنفسهم في أوضاع مادية عسيرة عاجزين عن إعالة أسرهم بعد أن قطع تنظيمهم التمويل عنهم بفعل شحّ مصادره إثر انسداد سبل الغزو أمامه وبالتالي عجزه عن مصادرة الأموال وفرض الإتاوات.
متنفَّس جديد وبيئة مواتية
ليس المال هو ما يعوز إخوان اليمن المعروف على قياداتهم ثراؤهم الفاحش وإدارتهم لمشاريع ضخمة في مختلف القطاعات. أما عندما يتعلّق الأمر بالإنفاق على جيش الإخوان وتقويتة وتوسيع قاعدته البشرية، فإنّ مصدر التمويل الأساسي يكون قطر الغنية بأموال الغاز الطبيعي والتي تريد أن تبقي على الإخوان
طرفا فاعلا في المعادلة السياسية والعسكرية اليمنية، لتتّخذ منهم وسيلة لانتزاع موطئ قدم لها في البلد ذي الموقع الاستراتيجي.
وكانت بداية تنظيم القاعدة في اليمن مع عودة قيادات متشددة من أفغانستان في تسعينات القرن الماضي. وتداعى عدد من العائدين لتأسيس أول “تنظيم جهادي” منتصف سنة 1997 وهي فترة سابقة لإعلان ولادة تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن.
وحمل هذا التنظيم اسم “جيش عدن – أبين الإسلامي” بقيادة أبوحسن المحضار، ودشّن وجودَه بهجمات ضد مناطق وتجمّعات سياحية، واختطاف سياح في اليمن من دول غربية. وردّت السلطات بإعدام المحضار فتولى قيادة التنظيم خالد عبدالنبي. وفي يناير 2009 أعلن فرعا تنظيم القاعدة في اليمن والسعودية الاندماج في تنظيم واحد تحت اسم “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” واختار اليمن مقرّا له .
وبإعلان تأسيس التنظيم، تصاعدت وتيرة الهجمات ضد مصالح محلية ودولية في اليمن والسعودية، وأخطرها محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز وكان حينها وزيرا للداخلية السعودية ومسؤولا عن ملف مكافحة الإرهاب.
كما تبنى التنظيم عملية فاشلة استهدفت تفجير طائرة ركّاب أميركية كانت في طريقها من مدينة أمستردام الهولندية إلى مدينة ديترويت الأميركية بواسطة النيجيري عمر فاروق في ديسمبر 2009 .
ومَثّل اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد نظام علي عبدالله صالح الذي انشغل عن مكافحة الإرهاب بمواجهة الاحتجاجات، فرصة للتنظيم الذي استفاد من حالة عدم الاستقرار ليوسع حضوره في مناطق مختلفة من اليمن.
ويخشى الخبراء الأمنيون أن يكون تنظيم القاعدة بصدد إعادة تجميع صفوفه مستغلاّ حالة الصراع التي تفجّرت بين قوى مساندة للشرعية اليمنية، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين ممثّلة بحزب الإصلاح، والمجلس الانتقالي الجنوبي المطالب باستعادة دولة الجنوب التي كانت قائمة قبل إعلان الوحدة مطلع تسعينات القرن الماضي.
ويُجمع أغلب الدارسين لمسيرة التنظيم في اليمن، على أن جميع الضربات والهزائم التي تلقاها التنظيم أبعد ما تكون عن القضاء عليه بشكل نهائي، وأنّ فترات غيابه النسبي ما هي إلا فترات كمون يقوم خلالها بتجميع صفوفه للظهور مجدّدا.
ويقول أنطونينو أوكيوتو الباحث في مركز تحليلات دول الخليج إنّ تنظيم القاعدة “لا يزال لاعبا رئيسا في اليمن”، وإنّه “يمثِّل تهديدا إقليميا وعالميا كبيرا ومستمرا”، على الرغم من تعرُّضه لانتكاسات عدة، مقدّرا أنّ التنظيم بصدد التعافي في ظل وجود قيادة جديدة واستمرار الحرب في اليمن.
ويرى أنّ المرونة التنظيمية هي أهم ميزة تمنح التنظيم فرصة مواصلة الوجود في اليمن، مؤكّدا أن القضاء عليه “سيتطلب أمورا أكثر بكثير من مجرد بعض العمليات العسكرية الناجحة التي يقوم بها خصومه”.
ويذكّر أوكيوتو بأنّ “نجاح التنظيم لم يكن مرتبطا أبدا بدرجة ضخامة قوّته العسكرية بل بنجاحه في توفير الملاذات الآمنة والتأييد له في المدن الرئيسية من خلال تواطؤ زعماء القبائل والتغاضي السلبي من السكان المحليين”.
فعلى الرغم مما طال التنظيم خلال السنوات الأخيرة من هزائم، فقد تجدّدت فرصه في البقاء باليمن مستفيدا من تحرّكات الإخوان ودخولهم في صراعات من أجل بسط سيطرة ميدانية على مناطق في شرق وجنوب اليمن بعد يأسهم من استعادة المناطق التي خسروها في شمال البلاد لفائدة المتمرّدين الحوثيين. كما أصبح عناصر التنظيم يستفيدون من ظاهرة الإفلات من الملاحقة والعقاب وفقا لتقرير أميركي سنوي عن الجماعات الإرهابية صدر في منتصف 2020.
وتقول مصادر يمنية إنّ إفلات عناصر معروفة من التنظيم من العقاب وتمتّعها بحرّية الحركة يعود أساسا إلى اختراق حزب الإصلاح الإخواني للسلطة الشرعية، ما يجعل القوّات العسكرية والأمنية التابعة لها تنصرف بشكل كبير عن مقارعة التنظيم في المناطق غير الخاضعة لسيطرة المتمرّدين الحوثيين نحو مواجهة القوات الجنوبية من نخب مناطقية وأحزمة أمنية كان لها دور فاعل ومؤثّر في مواجهة تنظيم القاعدة وطرده من عدّة مناطق.