▪ كيف يعيش الناس في خطوط النار.. موت مُحتمَل؟!
▪ عضو اللجنة الوطنية للتحقيق: أكثر من 979 حالة قنص منذ بداية الحرب وحتى الآن
▪ صالة والقاهرة وصبر الموادم والضباب والمظفر .. الأكثر تعرضا للقنص
“منطقة قناص.. لا تقترب”، مُفردات مكتوبة على لوحات تحذرك بعدم الاقتراب، في كثير من أحياء ومناطق مدينة تعز.. وإلى جانب هذه اللوحات توجد شوارع مفتوحة تقع تحت عدسة القناص، وما إن تقترب حتى تسمع صوت رصاص مستمر بشكل مُرعب ومُخيف.. دليلان واضحان على الخطر القادم جراء حرب قناصة مليشيا الحوثي، التي تحاصر المدينة لأكثر من ست سنوات.
إذا كنت تعيش في منطقة “صالة” فسيتوجب عليك المرور من شوارع فرعية استحدثها مواطنو الحي كممرات سرية بعيدة عن رؤية القناص.. يحتمون بالبيوت وأحياناً يضطرون للإسراع في المشي كي يقطعوا مسافة مكشوفة تقدر ببضعة أمتار.. أما إذا كنت غريباً فلا تحاول دخول أحياء المنطقة من مدخلها الرئيس الواقع في الجهة الشرقية من المدينة؛ فهناك قناصة.. لن يترددوا في قتلك.
وكما يبدو في الصورة أطفال وشباب يعبرون منطقة التماس هذه -الواقعة عند مدخل مديرية “صالة”- بسرعة خاطفة -حد قولهم- هرباً من الموت المُحتم، إن بقى أحدهم لثوانٍ معدودة أمام عدسة القناص الذي يتمركز في التباب المرتفعة، والمطلة على الأحياء أبرزها تبة “السلال”. هكذا أصبحت الحياة في هذه المناطق مُخاطرةً كبيرة، واقتراباً من الموت بشكل أكبر.
بحضن والده.. يُقنص
محمد سليم، البالغ من العمر عاماً واحداً، يعتبر أول طفل قنصته ميليشيا الحوثي مطلع يوليو من العام 2015م.. يقول أحمد القياضي، رئيس رابطة أسر ضحايا القنص والألغام في تعز: “محمد.. أول طفل قُتل قنصاً في تعز.. باغتهم القناص برصاصة اخترقت رأس محمد وهو في حضن والده لتستقر الرصاصة في صدر والده، وقتلت الاثنين.. كانوا راكبين في السيارة بمنطقة ثعبات التابعة لمديرية “صالة”. أن يُقتل الأب وابنه جراء طلقة غادرة فذلك الألم بعينه.. فقناصة الحوثي لم تستثنِ حتى الأطفال الرضع.
في عدد من أحياء مديرية “صالة” شرق المدينة والواقعة على خطوط التماس.. حاول موفد “الساحل الغربي” رصد جزء من كآبة الأوضاع، وصعوبة العيش، وقسوة الحياة. قصص ضحايا القنص المباشر بالعشرات، تتبّعنا تفاصيلها مع أهالي المكان، أطفال ونساء اختطفتهم رصاصات قناصة الحوثي أمام أعينهم.
التقينا أحد الأهالي يُدعى قيس الردمي، هو ليس مسناً لكن ألمه تمكن منه، وشاخ به قبل الأوان.. وبنبرة حزن وألم كبيرين حكى قيس قصة ابنه محمد، 7 أعوام، والذي قنصته الميليشيا في أواخر العام 2016م قائلاً: “خرج يلعب أمام البيت، وأنا ووالدته نشوف له كيف يلعب.. فجأة نشوف محمد سقط على الأرض والدماء تخرج من صدره.. أمه كانت تصيح ودوخت؛ لكن أنا قويت قلبي وأخذته وقد مات”.
وأضاف: “قناص تبة السلال وحش ليس إنساناً.. طفل يقنصه ليش؟ قنص صدر ابني لكنه قتل قلبين، قلبي وقلب زوجتي، التي أصبحت تعاني من مرض السكر، من بعد هذه الفجيعة”.
…. (979)
منذ منتصف العام 2015م وتعز تعيش أياماً مُرعبة، معظم أبنائها قضوا حياتهم مُختبئين في البيوت خوفاً من أن يفقدهم قناصو الحوثي عزيزاً.. ونتيجة لذلك تعرض عدد كبير من المدنيين للتجويع والتهجير ومن تبقى ذاق مرارة الحياة تحت رحمة القنص غير المتوقف.. وهذا ما حدث لـ(والد محمد) الذي لم يعد قادراً على عَدِّ جيرانه الذين قُتلوا بنفس بندقية قاتل ابنه، وربما القاتل هو نفسه طالما وطريقة قتل وقنص المدنيين والأطفال تتكرر باستمرار.
تقول الحقوقية إشراق المقطري، عضو اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان لـ”الساحل الغربي”: “تعتبر تعز الأعلى في عدد ضحايا القنص.. قنص أطفال ونساء ومدنيين، واستهداف أعيان مدنية وأعيان ثقافية، واستهداف الطواقم الطبية، استهداف كل شيء”. وتابعت: “رصدنا أكثر من 979 حالة قنص منذ بداية الحرب وحتى الآن؛ أكثرها حدثت في العامين 2015 و2016”.
.. أي شيء يتحرك
القناصة إحدى أخطر أدوات الحصار، خصوصاً وأن مليشيا الحوثي لا تُبالي بحياة المدنيين ولا تضع أدنى اعتبار لحياتهم.. القناصة الذين يتخذون من التباب والمناطق المرتفعة من الجبال أماكن يتمركزون فيها.. بالإضافة إلى أماكن لا تخطر على البال كداخل مآذن المساجد وبعض خزانات المياه، كي لا يكون التعرف عليهم سهلا.. مهمة هؤلاء هي استهداف أي حركة في خطوط التماس المتاحة والمكشوفة لهم، حتى وإن كان مدنياً.
يقول سمير عارف (35 عاماً) أحد الأهالي: “القناص يقنص أي شيء يتحرك سواء حيوان أو إنسان، مدني أو عسكري.. لا يستثني أحد”. ويضيف: “أنا شاهد على خمس عمليات قنص، حدثت أمام عيني، 3 أطفال وامرأتين، كنت أشوفهم بالقرب من منزلي خلال عامي 2016 و2017.. كلهم قتلوا بطلقة قناص إما في الرقبة أو الرأس أو في الصدر”.
القنص أو القتل بدم بارد.. حدث في السابق وما زال يحدث حتى اليوم في مناطق “صالة” وفي أحياء مجاورة.. قناصة الحوثي تستهدف الأطفال والنساء بهدف إثارة الرعب في قلوب الناس، ليتجنبوا الاقتراب أو العيش في المناطق القريبة من خطوط النار. كي لا تصبح الحركة هناك ممكنة لا للعيش ولا للقتال. تحسباً منهم لأي تقدم قد يحدث، وبذلك يكونون قد ضمنوا صفاء الجو للاستمرار بالحصار.
وحشية القنص
تستخدم مليشيا الحوثي القناصة كأداة لمنع التجوال أو إغلاق طرق معينة إلى جانب استخدامهم لها كأداة حرب رئيسية قادرة على إعاقة أي تقدم.. وبالرغم من ذلك كان المدنيون هم الشريحة الأكثر استهدافا وأكثر من دفع ويدفع الثمن، فالقناصة لم يتوقفوا يوما عن ممارسة مهامهم القذرة ضد المدنيين وبالأخص النساء والأطفال.
وكثيراً ما تعمَّد قناصة الحوثي استهداف طفل أو امرأة في ساقه أو رجله.. وانتظار وصول من يحاول مساعدة المُصاب الذي يتركه القناص حيا كطعم، فإذا ما جاء أحد لمساعدته أطلق عليه القناص رصاصة الموت الأخيرة.. هذا ما أكده عواد خالد، 14 عاماً، والذي كان شاهدا على قنص أحد زملائه.
يشرح عواد لـ”الساحل الغربي”: “دائما عند الخط المكشوف للقناص، نمشي بسرعة.. قبل سنتين ونصف وفي يوم دراسي، كنت أمشي مع زملائي طلال وعبدالله، ذاهبين إلى المدرسة.. فجأة القناص قنص طلال -لأنه كان باتجاهه (القناص)- بالرجل.. أنا وعبدالله هربنا وتخبينا خلف الحاجز الترابي”.
وتابع: “كان طلال يصيح ساعدونا ساعدونا.. ونحن نبكي، ما قدرنا نساعده.. استمر ينادي لنا قليل من الوقت حتى أطلق القناص طلقة أخرى أصابته في الرأس ومات”. موقف مؤلم.. أن يستغيث بك زميل لك وهو على بعد خطوة من الموت، بينما أنت واقف بقدمين مخذولتين، لا يمكنك الحراك من المكان.
الأطفال الفئة الأشد ضعفاً، والفريسة السهلة للاصطياد، نتيجة لعدم إدراكهم بخطر القناص أو بأماكن تواجده.. وبالرغم من ذلك إلا أن القناص يسعى لقتلهم عنوة وإخافة الناس وقتل أرواحهم وهزيمة معنوياتهم بما يحدث لأطفالهم..
… حصيلة دامية
وبحسب ما قاله القياضي في حديثه لـ”الساحل الغربي” فإن “382 طفلاً هو إجمالي عدد الذين تم قنصهم برصاص قناصة الحوثي منذ اندلاع الحرب وحتى شهر مارس 2021م.. بينهم 130 طفلاً قتلوا (90 من الذكور، و40 من الإناث) فيما أصيب 252 آخرون (170 من الذكور، و82 من الإناث)”.
الأكثر تعرضا للقنص
وتعتبر “صالة” من أكثر المديريات التي تعرضت لقنص الأطفال.. وكما أوضحت الحقوقية إشراق المقطري في حديثها بأن “مديريتي صالة والقاهرة من أكثر المديريات التي تعرض فيها الأطفال بشكل خاص والسكان بشكل عام لعمليات قنص مستمرة.. مثل حي الزهراء ومنطقة سائلة القمط التابعتين لمديرية القاهرة. بالإضافة إلى أحياء كثيرة من الجحملية ومنطقة ثعبات التابعتين لمديرية صالة”.
وأضافت المقطري: “تأتي مديرية صبر الموادم، والمناطق القريبة من السجن المركزي، وفي الضباب، وعقاقة في المرتبة الثالثة.. أما بالنسبة للمظفر فتعتبر البعرارة، وشارع الثلاثين من أكثر المناطق تعرضا للقنص”.
وأشارت: “نجد في الريف أن عمليات القنص كانت كثيرة.. نزلنا إلى جبل حبشي وكان في حالات مأساوية من التي تم قنصها.. قرى مثل القوز، الأشروح، تبيشعة، كل هذه القرى تعرض أطفالها للقنص من التباب المسيطرة عليها جماعة الحوثي”.
نساء تعز.. في مرمى القناصة
إلى جانب الأطفال تحضر المرأة ضمن ملفات القتل والقنص والحصار الذي فرضته ميليشيا الحوثي على المدينة منذ ستة أعوام من الحرب؛ وما تزال المرأة حتى اليوم تجد نفسها في مربع الاستهداف. ولأن الحرب لا تفرق بين صغير وكبير كان للنساء نصيب منها، وربما النصيب المؤلم، الذي يبدأ من حرمانها كل أساسيات البقاء في الحياة إلى العنف والقنص المباشر.
خلال سنوات الحرب أصبحت المرأة قتيلة وجريحة ومكلومة على فقدان زوج أو ابن أو قريب، بل وصارت حبيسة المنزل في كثير من المناطق في تعز، بعد أن أصبح الخروج منها صعبا في ظل استمرار قناصة الحوثي الذين أصابوا عددا غير قليل منهن. وما من ألم أو حزن إلا وتجرعت مرارته نساء تعز.
يتذكر عامر غالب، أحد سكان وادي “صالة” قائلاً: “قبل عامين نزلت نعمة ترعى الأغنام في وادي صالة حيث الأشجار.. وبمجرد أن نزلت باشرها القناص بطلقة في الظهر.. ظلت تنازع الموت لساعتين، وما تجرأنا ننزل ونسعفها.. بقيت هناك إلى بعد المغرب ثم نزلنا لها، وقد توفيت”.
من وادي صالة إلى منطقة الشقب التابعة لمديرية “صبر” والتي يمطرها قناص الحوثي المتمركز في تبة الصالحين بالرصاص بين فترة وأخرى.. الحجة قبول سيف، واحدة من اللاتي قُنصن في حي الشقب قبل ثلاثة أعوام.. يقول ابنها الأكبر رشاد: “ذات يوم خرجت أمي الصباح عشان تجلب الحشيش والزرع من المزرعة حقنا، مقابل تبة الصالحين.. تأخرتْ كثيرا، قلقنا عليها.. رحت أشوفها وصلت المزرعة وهي مقتولة برصاصة في الصدر، والزرع جنبها.. سحبتها وأنا أبكي وخائف من القناص”.
وتشير الإحصائيات التي وثقها محامون وقانونيون في تعز إلى أن أكثر من 80 امرأة تعرضن لعمليات قتل وقنص برصاص قناصة الحوثي المتمركزة على أطراف تعز وفي خطوط التماس.
تعرضت نساء تعز لكافة أنواع الانتهاكات، فالبعض قنصن إلى شوارع الحي، والبعض الآخر إلى أسطح المنازل.. تقول نسيم العديني وهي ناشطة حقوقية لـ”الساحل الغربي”: “النساء في تعز ذقن ويلات الحرب.. في تعز تم القضاء على كل مفردات حقوق الإنسان التي يتغنى بها العالم والمجتمع الدولي، بل حتى الأعراف والعادات المرتبطة بكرامة المرأة واحترامها غابت بشكل كلّي في ظل حرب الميليشيات”.
هكذا كانت المرأة في تعز هدفاً مباشراً لقناصة الحوثي، وما تزال.. وهذا ما أكدته العديني في حديثها: “النساء والأطفال هم الفئة الأكثر استهدافا بقناصة الحوثي.. الإحصائيات التي ترصدها المنظمات في الميدان تفيد بأن عمليات القنص التي تمارسها الميليشيات تقتل أو تصيب يومياً بين امرأتين إلى ثلاث في مدينة تعز وريفها.
جنون القناصة وصمت الأمم المتحدة
يبدو أن حرب الميليشيات قد تجاوزت كل حدود العقل والمنطق، وبحسب كثيرين فإنَّه ينبغي لليمن الخلاص من هذه الميليشيا التي تُحاصر المدينة وتزداد إجراماً يوما بعد يوم.. حرب وقودها المدنيون.. ليس المقاتلين فحسب، بل حتى الطفل والمرأة يدفعون ضريبة حرب تعز الطويلة، الحرب التي تبدو كما لو أنها وصلت إلى طريق مسدود.
ويرى مراقبون، أن معاناة القنص لم تتوقف عند هذا الحد من الجرائم، وعند هذه الأرقام، بل عدد الضحايا مستمر في الازدياد باستمرار الحرب وبقائها مفتوحة دون حسم عسكري أو سياسي.
وبالرغم من ارتفاع جرائم قناصة الحوثيين إلا أن الأمم المُتحدة تستمر في غض الطرف عن هذه الجرائم المُتزايدة، ما يجعل ميليشيا الحوثي تندفع للمضي أكثر في هذه الجرائم بهدف إخضاع المدنيين.
إلى جانب عدد من أحياء منطقتي “صالة” و “الشقب” اللتين زارهما مُوفد “الساحل الغربي”.. هناك أحياء أخرى تقع على خطوط التماس: عدد من أحياء منطقة “زيد الموشكي” القريبة من معسكر الأمن المركزي، الذي يتمركز فيه الحوثيون.. ومنطقة “كلابة” وحي “التوحيد”، و”الكريفات” شرقي تعز، بالإضافة إلى مناطق “الدفاع الجوي” شمال تعز، والتي تُعتبر أكثر مناطق التماس التي تعرض قاطنوها للقنص.
حرب وحصار وقناصة، ثالوث الموت في تعز.. المدينة المخنوقة بميليشيا الحوثي، والتي على أطرافها حدثت جرائم عدة وما زالت تحدث بشكل متواصل بحق أطفال ونساء مدنيين.. وذلك لترهيب أبنائها وكسر صمودهم، وتحويل تعز إلى مدينة طاردة للسكان وغير قابلة للحياة.