جدلية الوعي والواقع
في ذاكرة الأمم محطات تظل حاضرة كأجراس لا يتوقف رنينها، وكل ما تعمله هو أنها تعطل تفاعلات هذه الأمم مع متغيرات الزمن لتجاوز المحطة.
يتوصل قادة إيران، في طبعتهم الجديدة، إلى أن اليمن، باعتباره أصل العرب، هو البلد الذي يستطيعون بإسقاطه في أيديهم أن يعيدوا الاعتبار لفارس عما ألحقه العرب بالامبراطورية الساسانية في معركة القادسية.. المحطة التي غيرت مجرى التاريخ؛ جغرافياً من التخوم الشرقية لبلاد العرب حتى حدود الصين الشرقية.. أما حضارياً فقد أشعلت منارة البدء بحضارة إسلامية امتدت لقرون، على الرغم من أنها لم تستطع أن تخمد النزعة القومية لقوميات ما وراء النهر وأكبرها فارس، والتي ظلت تتشكل في أكثر من صورة من صور الصراع.
سيقول البعض هذا لغو وفذلكة..
أقول هذا مكر التاريخ.. تتشكل حلقاته في الوعي الذي يرحل داخل الأمة وفي عمقها، ولا يتغير بما يصيبها من تبدلات عبر الزمن. لعبت “فارس” ما بعد كسرى دورين متناقضين في تلك الحضارة الإسلامية الصاعدة، الدور الإيجابي الذي أثراها بالعلوم والمعرفة من ناحية، والدور السلبي الذي ظل ينخرها من الزاوية التي ظل فيها انكسار الأمة بانهيار الإمبراطورية الساسانية محركاً لانتقام على أكثر من صعيد وبأكثر من وجه من ناحية أخرى.
صحيح أن جانباً من الوعي هو انعكاس للواقع، لكن الواقع هو الآخر يتشكل في جانب كبير منه بما يضخه هذا الوعي إلى الواقع المعاش من أفكار، ومن مخزون تراثي ومعرفي، وكبرياء، وإذلال، وانتصارات وانكسارات، أي أن الوعي والواقع يتبادلان التأثير والتأثر في حركة جدلية لا تهدأ.. وتتشابك هذه الحركة الجدلية عند نقاط معينة، ويتدخل المعنيون بالتاريخ لتسوية آلية عملها.
عملية التسوية تلك، هي مكر التاريخ الذي يبقي وعي الأمة حاضراً عند أهم محطاتها نصراً أو هزيمة، صعوداً أو انهياراً.
هذه المحطة أبقت فارس، المضطرمة والمفعمة بالانتقام، حاضرة في وعي أنظمة الحكم التي تلاحقت في إيران سواء كانت ملكية أو جمهورية، علمانية أو ملالي، سنة أو شيعة.
لا أجد تفسيراً لهذا الإصرار على تدمير اليمن غير ذلك، ولا قيمة لشهادة البعض عن “سلاح إيران” في معركة غزة الأخيرة، إلا أنها مجرد غسيل سطحي لا ينفذ إلى العمق، حيث تتجمع تراكمات لا يغسلها غير مغادرة هذه المحطة من التاريخ.
تكمن المشكلة في الأنظمة التي توظف هذه التراكمات وليس في الأمة أو الشعب.
إيران أمة جارة للعرب، ولا بد أن تغادر هذه المحطة من تاريخ لا يمكن أن يستمر، بمعطياته المنشئة للحواجز النفسية، حاكماً لعلاقة الشعوب والأجيال المتلاحقة ببعضها على هذا النحو المضطرب وغير المستقر.