يمن الغد – زكريا الكمالي:
منذ تموضعها في موقع الوسيط، قبل أكثر من 4 أشهر، لم تحقق إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن النتائج المأمولة من استراتيجيتها الجديدة تجاه اليمن، بل هناك من يرى أنها ساهمت في تعقيد فرص حل الأزمة وتكبيل التسوية السياسية أكثر مما كانت عليه خلال سنوات مضت، بعدما تخلّت عن أدوات ضغط كانت بحوزتها وبمقدورها صناعة الفارق في مسار النزاع اليمني.
وخلال الأشهر الماضية، بدأت الإدارة الأميركية بالتعاطي مع الأزمة اليمنية من منظور إنساني فقط، ظناً منها أنه سيكون الطريق الصحيح لإنهاء النزاع، مع إغفال العملية السياسية الشاملة وأدوات الضغط السياسية والعسكرية والاقتصادية. وبالتزامن مع شطب جماعة الحوثيين من قوائم المنظمات الإرهابية الأجنبية، لدواعٍ إنسانية، اتخذت الإدارة الأميركية حزمة من الخطوات الرامية لإنهاء أزمة اليمن، على رأسها وقف الدعم اللوجستي للتحالف بقيادة السعودية، وتعيين مبعوث خاص إلى اليمن هو الدبلوماسي تيموثي ليندركينغ.
كان الاعتقاد الأميركي أن التحوّل من الموقف العدائي الذي اتخذته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه الحوثيين، سيوفر المناخ الملائم لوقف الحرب، وسيجعل واشنطن قادرة على ترويض جماعة الحوثيين وعزلها عن حلفائها الإيرانيين، لكن تلك المقاربات بدت خاطئة وأفضت إلى نتائج عكسية، ظهرت بتكثيف الهجمات الحوثية على مدينة مأرب النفطية، ورفض التعاطي بشكل مباشر مع ليندركينغ، وانتهاء برفع سقف مطالب وقف الحرب، تبدو أقرب إلى التعجيزية، وتحرف مسار النزاع اليمني إلى مجرد حصار فقط مع السعودية.
لكن مؤشرات برزت أخيراً دلت على أن الخطاب الأميركي الناعم في التعاطي مع الحوثيين لن يستمر طويلاً، مع حديث واشنطن عن أنها ستمارس الضغط على الحوثيين للوصول إلى اتفاق سلام. كما ذكر الحساب الرسمي للخارجية الأميركية على “تويتر”، الخميس الماضي، أن ليندركينغ دان خلال لقاء مع السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر “الهجمات الوحشية المتزايدة للحوثيين في محافظة مأرب وعرقلة الحوثيين لعملية السلام”، في اتهام هو الأول من نوعه للجماعة بعرقلة جهود السلام.
ضغط متواضع
بدت الإدارة الأميركية فاقدة للحيلة أكثر من أي وقت مضى، فبعد جولات مكوكية عقيمة لليندركينغ، بين الرياض ومسقط، كان آخرها الأربعاء الماضي، لم يكن في جعبة واشنطن من أسلحة سياسية سوى إصدار بيانات متكررة، ظهرت في غالبيتها تتوسل الحوثيين وقف الهجوم على مدينة مأرب لما له من تبعات إنسانية، فضلاً عن ضغط متواضع، تمثل بفرض عقوبات محدودة على قيادات عسكرية.
حاولت الولايات المتحدة العودة إلى خيار العقوبات مجدداً وتحديداً منذ 2 مارس/آذار الماضي، عندما أدرجت قياديين رفيعين في القوات الجوية والبحرية للحوثيين، هما منصور السعادي وأحمد علي أحسن الحمزي، في قوائم الإرهاب، وشددت على أنها ما زالت ملتزمة “بتعزيز مساءلة قادة الحوثيين عن أفعالهم التي ساهمت في معاناة اليمنيين غير الاعتيادية”.
لم يكن لهذه العقوبات تبعات ملموسة تكبح الهجمات الجوية على مأرب أو الأراضي السعودية، أو الهجمات البحرية على الموانئ السعودية وخطوط الملاحة، وحسب بيان الخزانة الأميركية حينذاك، فإن القرار سيعمل فقط على “تجميد كافة الممتلكات والمصالح في الممتلكات التابعة لهؤلاء الأشخاص في الولايات المتحدة أو الخاضعة لملكية أو سيطرة مواطنين أميركيين”.
بالنسبة لقيادات عسكرية حوثية تعيش في الظل وتتحرك في نطاق محدود داخل الأراضي الخاضعة لنفوذ الجماعة شمالي وغرب اليمن، لا معنى لهذه العقوبات، خصوصاً أن لا تعاملات لهذين القياديين في الغالب داخل الولايات المتحدة أو عمليات تمر عبرها.
أواخر مايو/أيار الماضي، كررت الإدارة الأميركية هذا النوع من العقوبات على قياديين آخرين، هما محمد عبدالكريم الغماري، رئيس هيئة أركان الحوثيين، ويوسف المداني، القائد العسكري الأول للمنطقة العسكرية الخامسة في القوات الحوثية وأحد المقربين من زعيم الجماعة، عبدالملك الحوثي. اتهمت الخزانة الأميركية، الغماري بـ”تدبير هجوم واسع النطاق على مأرب والأراضي السعودية ومفاقمة الأزمة الإنسانية داخل اليمن”، فيما تم اتهام المداني بـ”ارتكاب أعمال إرهابية تهدد سلامة المواطنين الأميركيين أو أمن الولايات المتحدة الوطني وسياستها الخارجية أو اقتصادها”.
على الأرض، لم تنجح هذه الضغوط أيضاً في تحقيق فوائد عسكرية ووقف هجوم الحوثيين على مدينة مأرب التي تضم أكبر تجمّع نازحين على مستوى اليمن، أما في الملعب الدبلوماسي، فقد تحوّل ليندركينغ إلى نسخة شبيهة من المبعوث الأممي مارتن غريفيث، العاجز منذ مارس/آذار 2018 عن اختراق جدار الأزمة المعقد.
عقب سقوط عشرات المدنيين في هجمات صاروخية دامية على مدينة مأرب، حاولت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، تذكير واشنطن بضرورة إعادة إدراج الحوثيين ضمن الجماعات الإرهابية. وتقول الحكومة إن الشطب الأميركي للحوثيين من قوائم الإرهاب، أعطى ضوء أخضر للجماعة في تصعيد هجماتها وارتكاب انتهاكات شنيعة ضد المدنيين في مأرب، وخصوصاً بعد فهم قرار الشطب بشكل خاطئ.
وحسب مصدر حكومي يمني، فقد كانت الشرعية تعوّل كثيراً على الدور الأميركي في “كبح الإرهاب الحوثي، والتفوّق على الجهود الأممية، لكنها للأسف تحوّلت إلى رديف لها”.
وتابع “النظرة الأميركية القاصرة للملف اليمني سببها التضليل الأممي الذي صوّر لإدارة بايدن أن أزمة اليمن هي أزمة إنسانية فقط، وأن قرار إدراج الحوثيين ضمن الجماعات الإرهابية بمثابة حكم إعدام على اليمنيين بشكل كامل، فضلاً عن الدور الخجول للسفير الذي انتهت ولايته، كريستوفر هينزل”.
وبعد أشهر من نقاشات ظلت تدور في حلقة مفرغة، يقابلها تعنّت من الحوثيين إزاء مبادرات السلام ومواصلة هجماتهم المميتة في مدينة مأرب، كان من الواضح أن الإدارة الأميركية قد توصلت إلى قناعة بعدم امتلاكها أي وسائل نفوذ حقيقية لكبح العنف الحوثي.
لجأت واشنطن إلى سلطنة عمان، ثاني أقرب الأطراف الإقليميين لجماعة الحوثي بعد إيران، من أجل إنقاذ الموقف، وغداة مكالمة هاتفية بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظيره العماني بدر البوسعيدي، سافر وفد عماني رفيع إلى صنعاء، في 6 يونيو/حزيران الحالي، لكن نتائج الزيارة التي استمرت لمدة أسبوع، لم تظهر إلى العلن حتى الآن.
محاصرة اقتصاد الحرب
في ظل الانسداد الحاصل ومماطلة جماعة الحوثيين تجاه الجهود الدولية والإقليمية حتى يتسنى لها الانقضاض على مدينة مأرب، لم يكن أمام الإدارة الأميركية سوى اللجوء إلى وسائل ضغط أكثر جدوى من أجل ردع المليشيات المدعومة من إيران.
اتجهت واشنطن إلى محاصرة الأدوات الحوثية التي تقف وراء إطالة أمد الحرب، وأعلنت في العاشر من يونيو الحالي، فرض عقوبات على سعيد أحمد محمد الجمل وأفراد وكيانات آخرين منخرطين في شبكة دولية يستخدمها الجمل لتقديم دعم مالي بلغ عشرات الملايين من الدولارات إلى الحوثيين بالتعاون مع كبار المسؤولين في “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني.
ووفقاً لبيان الخزانة الأميركية “يقوم هؤلاء الوسطاء وهذه الشركات الوهمية الذين ينتمون إلى شبكة الجمل ببيع السلع، مثل النفط الإيراني، في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه، ثمّ يحوّلون جزءاً كبيراً من الإيرادات إلى الحوثيين في اليمن”.
كما فرضت الخزانة الأميركية 11 عقوبة في ذات الوقت، طاولت أفراداً وشركات وسفينة، لكونهم يلعبون أدواراً رئيسية في هذه الشبكة غير المشروعة، التي تضم أيضا شخصا يدعى هاني عبد المجيد محمد أسعد، وهو محاسب يمني سهّل التحويلات المالية إلى الحوثيين؛ وجامع علي محمد، أحد المنتسبين إلى الحوثيين والعضو في “فيلق القدس” الذي ساعد الجمل في شراء السفن وتسهيل شحنات الوقود وتحويل الأموال لصالح الحوثيين.
وبعيداً عن الحيثيات التي كانت تسوّقها عند فرض العقوبات السابقة، والتي لا تتعدى “المخاوف من تبعات الأزمة الإنسانية”، بدأت الإدارة الأميركية هذه المرة بالحديث عن “محادثات سياسية”، وذلك بالقول إنه “لا يمكن حل الأزمة الإنسانية إلا باتفاق سلام”، كما شددت على أنها “ستواصل ممارسة الضغط على الحوثيين بكل السبل، بما في ذلك العقوبات المستهدفة، لتحقيق هذه الأهداف”.
ووفقاً لخبراء، فإن العقوبات الأميركية المفروضة حتى الآن على قيادات حوثية، لا تكاد تُذكر ولن تكون كفيلة لوحدها بإجبار الجماعة على الانصياع لدعوات السلام، وشددوا على ضرورة أن تمتد العقوبات إلى القادة الحوثيين أو المتعاطفين معهم الذين يقيمون خارج اليمن، ويتحدثون عنهم في المحافل الدولية.
ورأى نائب المدير التنفيذي في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، أسامة الروحاني، أن العقوبات التي تُفرض على مستوى فردي وخصوصاً في الجانب المالي هي “أداة ضغط مهمة جداً تربك الحوثيين” وتجفف أحد منابع الجماعة.
ولفت إلى ضرورة أن تُكثّف بشكل أكبر، حتى تتحوّل إلى وسيلة ضغط فعلية، وتحديداً تجفيف اقتصاد الحرب والحد من التهريب وفوق ذلك “تقليص المساحة المفتوحة لهم في مسقط”، وخصوصا أنها تمنح الحوثي نقاط قوة.
وفيما أشار إلى أن العقوبات الحالية هي “قطرة من بحر” خصوصاً في ظل وجود الكثير من المنابع والممرات التي يستفيد منها الحوثيون، شدد الروحاني على أن الحالة اليمنية “بحاجة إلى آلية واضحة، ومواقف أكثر جرأة وصرامة، تتحكم فيها أدوات الضغط وليس العاطفة”.
وانتقد الروحاني التعاطي الأميركي مع الأزمة اليمنية من منظور إنساني فقط، معتبراً أن “الإدارة الأميركية تحاول أن تُظهر للعالم أنها تعالج المشكلة الإنسانية وهذه مقاربة غير صحيحة تُعقّد الوضع وتعطي الحوثي قوة أكثر مما ينبغي أن يُعطى. وخلال الفترة الأخيرة كافة الجهود كانت متوجهة نحو الحوثي، ومسار السلام أصبح الآن على هوى الحوثي فقط، وخصوصاً بعد تحويل النزاع إلى مشكلة حصار للميناء والمطار بين السعودية والحوثيين، مع تجاهل الدور المحلي لباقي القوى”.
ورأى أن على الأميركيين عدم التموضع في موقع الوسيط لعملية السلام، بل ترك هذه المهمة لمكتب المبعوث الأممي والاكتفاء بالوقوف في الخلف لتوفير أدوات ضغط تدفع نحو وقف الحرب.