مثّلت التصريحات الأميركية التي أطلقها المبعوث الأميركي إلى اليمن تيم ليندركينغ والتي وصف فيها الحوثيين بأنهم “لاعب شرعي” في اليمن، نقطة تحول لافتة في موقف واشنطن إزاء الأزمة اليمنية والتي غلب عليها طوال الفترة الماضية الارتباك وعدم الفهم العميق لطبيعة الصراع اليمني في الكثير من الأحيان.
وبالرغم من تراجع وزارة الخارجية الأميركية خطوة إلى الوراء من خلال إصدار بيان توضيحي يؤكد التزام واشنطن بمواقفها المعلنة تجاه الحكومة الشرعية كطرف شرعي وحيد يمثل الدولة اليمنية، إلا أن التوضيح ذاته حمل إشارات عن استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة والتي تقوم على سياسة إغلاق الملفات والتعامل بواقعية مفرطة مع المعطيات على الأرض.
ومن أبرز الرسائل التي يمكن التقاطها من تصريحات المبعوث الأميركي إلى اليمن وتوضيح وزارة الخارجية تعقيبا على ردود الأفعال التي جاءت عقب التصريح، أن واشنطن لا يمكن أن تمضي قدما في التورّط في الحرب اليمنية، في الوقت الذي تسعى فيه حثيثا لإغلاق ملف تورّطها في أفغانستان وصولا إلى رغبتها في التوصل إلى اتفاق جديد مع النظام الإيراني حول الملف النووي لا يبدو أنه يراعي كثيرا مصالح حلفاء أميركا في المنطقة.
وما يحدث اليوم من تداعيات في مسار الأزمة اليمنية، ليس مفاجئا على الأرجح، فقط تحدثت تقارير وتسرّبت الكثير من المعلومات في أواخر عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، تحمل تحذيرات بأن التأخر في تغيير المعطيات العسكرية على أرض اليمن وانتظار وصول إدارة جديدة للبيت الأبيض قد يحملان في طياتهما تحولا في الموقف الدولي إزاء الحرب التي يراد لها اليوم أن تتوقف بأي شكل ووفقا لأي نتائج، انطلاقا من دواعٍ إنسانية في الظاهر ورغبة في تقديم هذه الخدمة كتضحية في سبيل نجاح مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي مع طهران.
وقد أدرك التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، خطورة التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة التي يمكن أن تعصف بالملف اليمني، وهو ما دفع الرياض إلى عقد جولات من الحوار بين الأطراف التي تجتمع في مناهضة المشروع الحوثي، وتحديدا الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي. لكن تلك المساعي التي كانت تهدف إلى تقوية معسكر المناوئين للحوثي اصطدمت بالعديد من العقبات في ظل حالة من انعدام الثقة والتباين الأيديولوجي الذي عززته قوى إقليمية وعملت على تغذيته بهدف تقديم خدمة مجانية للمتمرّدين الحوثيين الذين التقطوا إشارات التحولات الدولية وألقوا بكل ثقلهم العسكري في الجبهات لتكريس سياسية الأمر الواقع التي عملوا على أن تكون ورقتهم الرابحة في مواجهة ورقة “الشرعية الدستورية” التي تمتلكها الحكومة اليمنية والتي لم تستطع أن ترفدها بانتصارات ميدانية على الأرض تعزز من حظوظها في مشاورات الحل النهائي التي يعمل عليها المبعوثان الأممي والأميركي إلى اليمن وتصطدم بعقبتين رئيسيتين اليوم.
العقبة الأولى تتمثل في شعور الميليشيات الحوثية بنشوة القوة وقدرتها على استغلال حالة الارتباك الدولي وتوظيف الصراع داخل بنية الشرعية، إضافة إلى جموحها نحو تحقيق انتصار خاطف في معركة مأرب الاستراتيجية وبأي ثمن، قبل الدخول في مشاورات يبدو أن نتائجها ستعكس موازين القوة على الأرض وليس في أضابير القرارات الأممية.
أما العقبة الثانية برأيي، فتتمثل في رفض الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا تقديم أي تنازلات إضافية، عدا تلك التي قدمتها على مذبح الجهود الأميركية والأممية التي أفضت في نهاية المطاف إلى إنتاج خطة لوقف إطلاق النار تلبي أبرز مطالب الحوثيين خلال السنوات الماضية والذين تعاملوا مؤخرا مع تلك التنازلات السياسية كمكتسبات لم تعد تلبي طموحاتهم المتصاعدة وتشبع نهمهم السياسي.
وبينما تتكئ الحكومة الشرعية اليوم على قائمة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن ومن أبرزها القرار 2216، يستمر الحوثيون في ممارسة لعبتهم المفضلة في تبادل الأدوار بين جناح عسكري يواصل هجومه على مأرب، وجناح سياسي يبدّد الوقت ويتلاعب بالوسطاء ويستغل التناقضات الدولية إزاء الحرب اليمنية.
وفي ظل هذه التعقيدات التي أفرزت معسكرين، الأول للشرعية يخوض صراعا داخليا بين أطرافه، ويراهن على شرعيته كطرف معترف به دوليا، أما الثاني فهو معسكر الحوثي المنقسم في الظاهر بين أجندتين عسكرية وسياسية غاية في الانتهازية والقدرة على التلاعب بالوسطاء والخصوم، لا يبدو أن الرهان على المجتمع الدولي بات أمرا يستحق الركون عليه كما تقول الوقائع والتطورات المتسارعة، ما لم تنتج تفاعلات جديدة على الأرض تخلق في نهاية المطاف، كما يأمل المجتمع الدولي، طرفا قابلا للتطويع وتحمّل تكاليف خسارة الحرب لصالح طرف آخر ليس لديه ما يخسره وليس لديه ما يمكن تقديمه من تنازلات في نفس الوقت. وهي المعادلة التي لا يبدو أنها مكتملة اليوم وكاملة العناصر في مشهد شديد التعقيد يمتزج فيه السياسي بالعقائدي بالجهوي، ولم تنضج فيه بعد أيّ من شروط الحرب أو السلام أو حتى الاستسلام.