لا اختلاف في أن قطاع صناعة الكتاب في العالم العربي يواجه تحديات كبيرة، تحديات ضاعفت تأثيرها جائحة فايروس كورونا، ما يستدعي الوقوف عند إشكالات هذه الصناعة الهامة لا اقتصاديا فحسب بل وثقافيا، بما لها من تأثيرات عميقة. وللوقوف على أهم الإشكالات التي يعاني منها قطاع النشر وسبل تجاوزها صدرت أخيرا أول دراسة من نوعها عن حركة النشر ورهاناتها.
كشفت أول دراسة عربية لحركة النشر في الوطن العربي 2015 ـ 2019 عن مفاجأة لا يمكن أن يتم تصورها، وهي أن حركة النشر في الصومال أكبر من حركة النشر في الدول العربية المستقرة، حتى بلغ عدد المنشور في الصومال 2000 عنوان في العام 2018.
كما بينت أن هناك حركة نشر جيدة في ليبيا وأقيم فيها عدد من معارض الكتب المحلية، وهو ما يؤكد وجود حراك فكري في ليبيا. كما كشفت الدراسة عن عودة العراق إلى حركة النشر العربية بقوة حيث تم نشر ما بين 2015 و2019 على التوالي 7650، 7900، 8050، 8200، 8400 عنوان، هذا على الرغم من انتشار تزوير الكتب في العراق وهي ظاهرة إن تم تحجيمها فسوف تزدهر صناعة النشر بالعراق ويصبح رقما مهما في حركة النشر العربية.
عربيا بلغت أعداد الكتب المنشورة في الوطن العربي بين 2015 و2019 على التوالي 54601، 59390، 63830، 66218، 70630 عنوانا، وقد تصدرت كل من مصر بـ23000 عنوان والعراق بـ8400 عنوان، والسعودية بـ8121 عنوانا ولبنان بـ7479 عنوانا والمغرب بـ4219 عنوانا والأردن بـ3920 عنوانا. وهنا نرد المزيد من التفاصيل حول الدراسة ومعدها وناشرها وأبرز ما جاء فيها على مستوى كم وكيفية صناعة النشر.
النشر وازدهار الرواية
بداية يؤكد رئيس اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد أن هذه الدراسة هي أول دراسة تفصيلية عن حالة النشر في الوطن العربي، مشددا على أن إدراك اتحاد الناشرين العرب لأزمة صناعة النشر العربية جعله يسعى سعيًا حثيثًا نحو التعامل مع هذه الظاهرة، خاصة بعد الأزمات الأخيرة التي أثرت سلبًا على هذه الصناعة، فاضطر العديد من الناشرين إما إلى تخفيض عدد الإصدارات السنوية أو إلى تخفيض عدد العاملين في دار النشر، أو إلى التوقف بصورة مؤقتة.
ويقول رشاد “زاد هذا من تفاقم معاناة الناشرين التي بدأت منذ سنوات، كما تم إلغاء أو تأجيل العديد من معارض الكتب العربية، وقد كانت متنفسًا هامًّا لتوزيع الكتاب، فقدها الناشرون. وما نقدمه اليوم هو دراسة عن حالة النشر في المنطقة العربية عن السنوات من 2015 إلى 2019، كشفًا لمدى معاناة الناشرين من التزوير والقرصنة، ليس على صعيد المزور والمقرصن المحدود القدرات فحسب، بل أيضًا على صعيد الشركات الدولية الكبرى، فقد تفاقمت هذه الظاهرة وأصبحت كارثة تدمر صناعة النشر العربي”.
ويكشف الدكتور خالد عزب أن الدراسة ترصد واقع حركة النشر ومشكلاتها طارحة تساؤلات وحلولا، كما ترصد جميع الظواهر لتقدم طرحا عامًّا للمناقشة لتُبنى عليه سياسات طبقًا لواقع الصناعة. وقد رأى مجلس إدارة اتحاد الناشرين العرب أن تخصيص الدراسة لحالة النشر في الدول الأعضاء باتحاد الناشرين العرب تمهيد لبناء مشروع أكبر لإعداد دراسة تفصيلية عن كل دولة بهدف الوقوف على حالة النشر من حيث الازدهار والعثرات.
ويؤكد عزب أن الدراسة، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، توضح أن أولى تحديات حركة النشر العربية هي عدم الاعتراف بالنشر كصناعة في ظل قوانين تتعامل مع الصناعة بوصفها منتجا ملموسا (غذاء، ملابس، أدوات، مركبات، وغيرها من المنتجات الملموسة).
ويضيف “لكن الكتاب أيضًا مادة ملموسة، لكنه لا ينتج إلا في دار نشر، تتلقى أو تخطط لتلقي منتج إبداعي في المجالات كافة، لتقديمه ثم تحريره ثم تصحيحه لغويًّا ثم تنتجه على الحاسب الآلي في هيئة كتاب، ثم طبعه أو طرحه على شبكات الإنترنت رقميًّا، ليخرج لنا هذا المنتج مارًّا بمراحل متعددة، هي ما يمكن أن نسميه خط إنتاج الكتاب. كم من يد عاملة شاركت في إنتاج الكتاب؟ إن أي كتاب مر على الأقل على 6 من المتخصصين لضبطه وإخراجه، ناهيك عن طباعته، لذا فإن عدم الاعتداد بالكتاب وصناعته مثَّل قصورًا في العقود الماضية عن فهم آليات الإنتاج المعرفي”.
ويشدد على أن “عملية النشر صناعة ثقيلة ومركبة وعميقة وبعيدة التأثير وواسعة المجال، وبالتالي نستطيع أن ندرك لماذا هناك قصور في التعامل مع هذه الصناعة الصعبة؟ صناعة ثقيلة: لأنها تضم أطرافًا متعددة وتحتاج إلى تجهيزات قد يستغرق إنتاج الوحدة منها (الكتاب) عامًا وليس يومًا أو ساعة أو دقيقة. وصناعة مركبة: لتباين أطرافها من حيث التخصصات بدءًا من مدير الإنتاج (النشر) إلى المصحح اللغوي إلى الإخراج الفني إلى الطباعة، إلى صناعة الورق والأحبار، أو منتجي البرمجيات ومفعليها إلى المسوقين، حتى يصل هذا الإنتاج إلى المستهلك، هذا دون إضافة المؤلف صاحب الفكر والعلم، إما أن يكون فردًا أو عدة أفراد”.
ويتابع “كما أنها صناعة عميقة لأنها تتطلب فكرًا وعلمًا، هذا الفكر والعلم لا بد أن يكونا في كل وحدة منتجة على حدة، أي في كتاب مختلف يطرح الجديد عن كل ما سبقه من كتب، فالمنتجات هنا ليست تكرارية، بل إن كل كتاب له موضوع قائم بذاته؛ من هنا فإن التنوع هو سمة هذه الصناعة، وعند إنتاج أي كتاب فإنه تطبع منه كمية يدفع بها الناشر ويحاول أن يقنع القارئ لكي يستحوذ على نسخة من كل كتاب، وبالتالي تأتي مرحلة التسويق للكتاب”.
ويرى عزب أن الدراسة تكشف عن أن الاتجاه العام هو النمو المتزايد في حركة نشر الرواية المطبوعة، هذا الاتجاه يشهد نموًّا مطردًا في السنوات الأخيرة خاصة منذ العام 2006 إلى الآن، ولعل فن الرواية هو المحفز الأقوى حاليًّا لاستمرارية حراك النشر العربي، فالأجيال الجديدة التي اعتادت على الدردشة على شبكة الإنترنت تعتبر الرواية عالمًا آخر موازيًا من الحكايات يجذبها، كما أسهم انتقال بعض المتفاعلين على شبكة الإنترنت من هذا الفضاء إلى الكتاب الورقي في الدفع بأجيال جديدة إلى عالم الكتاب الورقي على غرار ما يحدث في مطبوعات بمعرض الكويت الدولي للكتاب ومعرض الشارقة ومعرض الرياض. لكن هذا الاتجاه نراه في مصر أيضًا في عدد من دور النشر التي نحت هذا المنحى، ويبقى السؤال الأصعب: هل لهذا النمط مستقبل؟”.
ويتابع عزب “في حقيقة الأمر إن هذا النوع من الأدب هو أدب وقتي يختفي كتابه مع الزمن، هذا ما يذكرنا بظواهر أدبية صاحبت صعود نجيب محفوظ وأدبه، فاختفت هذه الظواهر وبقي أدب نجيب محفوظ، وقد أدركت بعض دور النشر هذا الأمر، فنظمت ورشًا متخصصة في الكتابة الإبداعية، أفرزت نتائج إيجابية”.
ويضيف “في مجالات النشر العام هناك ازدهار نسبي خاصة في أدب السيرة الذاتية الذي ينحو نحو نوع من الحكي حول ما دار في عالم السياسة، مع تصاعد وتيرة الأحداث السياسية في الوطن العربي والحنين إلى القادة السابقين في بعض الدول. وتظل السياسة بمختلف موضوعاتها تشد القراء مع إيقاعها المتسارع، لكن تبقى الفلسفة هي الإبداع الذي ما زال بكرًا في الوطن العربي، ومن المتوقع أن يجذب المزيد من القراء في ظل أزمات الهوية والمستقبل والصراعات العرقية والدينية، فضلاً عن الكتب الاجتماعية والتاريخية بدعوى الحنين إلى الماضي، في حين يظل الكتاب الديني محققًا أو مؤلفًا منافسًا يزاحم الرواية على مكانتها في تصدر محتوى النشر العربي”.
ويقول إن غياب الأدلة السياحية من خارطة العديد من دور النشر العربية إشكالية كبرى، خاصة أنها طوق النجاة لحركة النشر العربية؛ ففيما عدا المغرب، وبصورة نسبية مصر وتونس، لا تساهم دور النشر العربية في إنتاج أدلة سياحية وما يصاحبها من منتجات مطبوعة للسياح، بلغات متعددة مثل الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والصينية وغيرها. هذا ما يعني ضرورة إعداد ورش كتابة هذه الأدلة التي لها مواصفات محددة، كما أن الأدلة تعتمد على سوق توزيع كبير، فضلاً عن التنوع في العديد من البلدان التي تعد حركة السياحة فيها أساسية على غرار دبي التي تنتج أيضًا أدلة بعدد من اللغات بصورة جيدة.
كتب الأطفال
يوضح عزب أن إجراء مسح عربي للمحتوى العربي يكشف عن قصور وصعود في موضوعات محددة، ولا توجد صياغة واضحة لطبيعة المحتوى المقدم وماهيته إلا عبر مؤسسات رسمية محددة بإطار عملها وتمويلها، فضلاً عن غلبة الطابع الأدبي الإبداعي على مضمون النشر لدى بعض دور النشر، أو النشر الديني لدى بعض دور النشر الأخرى.
ويبيّن أن التجديد في حركة النشر العربية لم يحدث فيه عبر سنوات طويلة اختراق محدد وواضح، إلا في حالات محدودة، على نحو ما حدث في مشروع عواصم الثقافة العربية الذي أطلقته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)؛ إذ رأينا الدول تدفع لإنتاج محتوى غير مسبوق لهذه العاصمة أو تلك، على غرار ما حدث حين اختيرت صنعاء عاصمة الثقافة العربية، وتلمسان عاصمة الثقافة العربية، ثم الجزائر عاصمة الثقافة العربية، حيث أُنتجت كتب تاريخية وأثرية وثقافية عن الجزائر العاصمة، ثم اختيرت قسنطينة عاصمة الثقافة العربية لعام 2015 والتي صدر عنها بهذه المناسبة 30 عنوانا. لقد كانت هذه التظاهرات أداة جيدة لحراك في نشر الكتب آتى أكله إذ قدم كُتاب جدد ومعارف جديدة وأحدث رواجا للمدينة المنشور عنها وهو ما أتاح لها نموا سياحيا، فضلاً عن التعريف بها.
ويستدرك عزب “يبقى المحور الأهم في صناعة المحتوى هو الطفل، فطفل لا يقرأ كتبا كتبت له لن يقرأ كتبا في المستقبل، خاصة أن صناعة كتب الأطفال تراجعت بصورة كبيرة عربيا، فقد تراجعت بنسبة تقدر بـ35 في المئة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وبصورة متصاعدة، مما أصبح يهدد صناعة كتاب الطفل التي تعد ركيزة العديد من دور النشر خاصة فى لبنان ومصر والأردن وسوريا”.
ويعود هذا إلى تفضيل الأطفال ألعاب الفيديو على شبكة الإنترنت والبرامج ثلاثية الأبعاد وأفلام الكارتون على الشبكة ذاتها، فضلاً عن البرامج التفاعلية الجاذبة، وهي مجالات لا ترهق الأسرة ماديا، وفي الوقت ذاته ترتفع كلفة كتاب الطفل لحاجته إلى الإخراج الجيد والألوان الجاذبة والرسومات المناسبة لكل فئة عمرية، لكن يبقى الأمل في أن يتعايش الناشر مع هذه الحالة عبر المزيد من التشويق والإبداع في كتاب الطفل خاصة إذا أدمج مع منتج رقمي يتصفحه الطفل في المنزل فيكون جاذبا له لشراء قصة أو كتاب يكمل ما يشاهده على الشاشة، هذا ما أدركته ديزني حين تطرح أفلام كرتون مع كتب وألعاب مصاحبة لها كلها من المضمون ذاته، فصناعة كتاب الطفل صناعة معقدة ومتعددة ويمكن أن تكون قاطرة لصناعات إبداعية عديدة في المنطقة العربية.
المجتمع المدني
حول تأثير بعض الكيانات الثقافية على غرار الأندية الأدبية في السعودية يقول عزب “منذ أن نشأت الأندية الأدبية في المملكة العربية السعودية وهي حاضنة الأدب والثقافة في المملكة العربية السعودية، وقد نضجت حركة الأندية الأدبية بعد عودة المبتعثين للخارج إلى المملكة واحتراف البعض مهنة النقد الأدبي وظهور تيارات أدبية حديثة، وكلما تقادم الزمن على هذه الأندية رسخ وجودها واتسع نشاطها، لكن على صعيد النشر في المملكة نجد أن الأندية تولت نشر عدد من الإبداعات الأدبية وكُتب النقد وغيرها، والأمر ذاته في البحرين التي شهدت سنة 1969 تأسيس أهم ناد ثقافي هو ‘أسرة الأدباء والكتاب’ الذي ضم قلة من صفوة مثقفي وكتاب البحرين ومنهم قاسم حداد وعلي خليفة ومحمد جابر الأنصاري”.
ويتابع “إن ما سبق يعكس أهمية دور المجتمع المدني من المثقفين والأدباء والمفكرين في إحداث حراك للإبداع والفكر، لذا فإن المملكة المغربية مثلا أحد داعمي الحراك الثقافي فيها والإنتاج الفكري هو دور المجتمع المدني الذي نستطيع أن نربط بين نموه ونمو حركة النشر وانتشار المعرفة بالتوازي”.
دراسة بالأرقام
يؤكد عزب أن كل المؤشرات تشير إلى تراجع القصة القصيرة نشرا أمام الرواية، وتلاشي نشر المسرحيات أو الإبداع المسرحي، لكن على جانب آخر نرى بدايات لازدهار كاتالوغات الفنون، خاصة الفن التشكيلي مع ظهور عدد من المعارض المعنية بهذا الفن وازدهار حركة بيع لوحات الفن التشكيلي التي لها مكانة مميزة في مصر والمغرب ولبنان، لكننا في السنوات الخمس الأخيرة نرى صعودا متناميا لها في المملكة العربية السعودية ومن أمثلتها نايلا جاليري وجاليري الفن النقي ودار صفية بن زقر ومؤسسة مسك للفنون وغيرها.
كما أن الإمارات العربية المتحدة قاطرة لهذا المجال خاصة دبي والشارقة وأبوظبي التي تنتج كاتالوغات فنية باللغتين العربية والإنجليزية أساسا، وهذا يشير إلى أن الصناعات الإبداعية إذا تكاملت يمكن أن تعضد وجودها على الساحة.
ويضيف “لكن على جانب آخر فإن النشر في مجالات العلوم التطبيقية كالزراعة والهندسة والطب والعلوم الأخرى شهد تراجعاً، ومن المتوقع أن يزداد هذا التراجع، لأن المهتمين بهذه المجالات يجدون سيلا من المعلومات على مواقع متخصصة محدثة أولا بأول على شبكة الإنترنت، لذا فإن الاتجاه في هذا المضمار لن يبقي في أفضل الفرضيات إلا على الكتب المبسطة للعلوم بشرط جودة الإخراج الفني”.
وهنا تبرز كما يقول “قضية الكتاب الجامعي الذي كان عماد النشر في عدد كبير من دور النشر، وفي حقيقة الأمر إن اتجاه العديد من الجامعات إلى اعتماد التعليم الرقمي يذهب بالكتاب الجامعي إلى المقبرة، هنا لا بد من الحديث عن تحول دور نشر الكتاب الجامعي إلى نشر المحتوى الرقمي التعليمي، وهو أمر يقتضي تعاون هذه الدور للحد من المنافسة بين العشرات منها وحصره في عدد أقل، خاصة أن تكلفة هذه المواقع الأساسية تبدأ مع بنائها وتقل تدريجيا إلى الإبقاء على تحديثها كمتطلب أساسي”.
تضمنت الدراسة جداول تكشف بالتفصيل حركة النشر في الوطن العربي ككل، وفي كل دولة على حدة، وضمت جداول تكشف حركة الترجمة بالأرقام، وكذلك طبيعة المضمون المنشور، ولأول مرة يتم إجراء دراسة بالأرقام لمعارض الكتب العربية.