تكشف الهجمات المستمرّة التي يشنّها الحوثيون (أنصارالله) في كلّ أنحاء اليمن، مع تركيز خاص على مدينة مأرب، مدى تعلّق إيران بالبقاء في اليمن. تعتبر إيران اليمن استثمارا رابحا استطاعت من خلاله إيجاد موقع لها في شبه الجزيرة العربيّة بكلفة قليلة نسبيا. نجحت، أقلّه إلى الآن، حيث فشل الاتحاد السوفياتي سابقا. استطاع الاتحاد السوفياتي إيجاد موطئ قدم في ما كان يعرف باليمن الجنوبي. غيّر نظام الحكم فيه بعد استقلاله عن بريطانيا في العام 1967 بعد انقلابات متلاحقة. سعى من خلال الانقلابات التي توجت بأن أصبح اليمن الجنوبي “جمهورية اليمن الديمقراطيّة الشعبيّة”، في ظل نظام الحزب الحاكم (الحزب الاشتراكي)، لأن يكون قادرا على ممارسة ضغوط في اتجاه الدول العربيّة الخليجيّة من جهة وكلّ منطقة القرن الأفريقي من جهة أخرى.
عزّز الاتحاد السوفياتي وجوده في بلد قريب من منابع النفط في دول الخليج العربي. أصبح ميناء عدن، الذي كان في مرحلة معيّنة من أكبر موانئ العالم بمثابة قاعدة سوفييتية. عزّز وجوده أكثر بعد أن أصبح في إثيوبيا التي بقيت طويلا جرما يدور في الفلك السوفياتي في عهد منغستو هايلي مريام. وحدها الأيّام ستكشف هل سيكون حظ “الجمهوريّة الإسلاميّة” في اليمن أفضل من حظّ الاتحاد السوفياتي. لكنّ الثابت إلى الآن أن ليس في الإمكان الاستخفاف بما حقّقته إيران في اليمن عبر الحوثيين الذين يسيطرون على صنعاء منذ 21 أيلول – سبتمبر 2014… كما يسيطرون على ميناء الحديدة.
ليس ما يدلّ على أهمّية اليمن بالنسبة إلى إيران أكثر من الصواريخ والطائرات المسيّرة التي تطلق يوميا في اتجاه الأراضي السعودية من أجل إثبات أن اليمن بات قاعدة صواريخ إيرانيّة. ليست الصواريخ الإيرانية رسائل إلى المملكة فحسب، بل هي أيضا رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية التي بات مبعوثها إلى اليمن تيموثي ليندركينغ يقول إن الحوثيين موجودون كأمر واقع في أيّ مفاوضات مقبلة في شأن مستقبل اليمن. الحوثيون موجودون على الأرض. هذا أمر لا يستطيع دبلوماسي مثل ليندركينغ تجاهله خصوصا أنّهم يثبتون وجودهم كلّ يوم بطرق مختلفة.
ليس الموضوع موضوع الاعتراف بالحوثيين، الذين هم جزء لا يتجزّأ من الشعب اليمني، بمقدار ما أنّه مرتبط بما حقّقه هؤلاء على الأرض، خصوصا منذ 21 أيلول – سبتمبر 2014 تاريخ سيطرتهم صنعاء. ما سيكون مهمّا مستقبلا هل سيتمكن الحوثيون من إعلان قيام دولة مستقلّة تقع تحت سلطتهم، أي سلطة إيران، في اليمن… أم سيقبلون بأن يكونوا جزءا من صيغة تسوية تشمل اليمن كلّه بشماله وجنوبه ووسطه؟
من الواضح، أن الحوثيين ينفّذون أجندة إيرانيّة في اليمن. كلّ رهان على خروجهم من هذه الأجندة، أقلّه في المدى المنظور، رهان فاشل. الأمر الوحيد الذي يمكن أن يجعلهم يعيدون النظر في مواقفهم، تغيير جذري ذو طابع عسكري في موازين القوى. هذا ليس واردا في المفهوم الأميركي. الأمر الوحيد الوارد في هذه الأيّام منع “أنصارالله” من دخول مدينة مأرب ومحيطها في انتظار بلورة صيغة التسوية التي لا مفرّ من أن تأخذ في الاعتبار كلّ مكونات التركيبة اليمنيّة بتعقيداتها الكثيرة وأبعادها المختلفة.
في انتظار صيغة التسويّة، التي قد ترى النور يوما كما قد لا تراه، من المفيد معرفة لماذا استطاع الحوثيون التحوّل إلى الرقم الصعب في المعادلة اليمنيّة مستفيدين من كلّ التناقضات؟
كان الحوثيون المستفيد الأوّل من الانقلاب الذي نفّذه الاخوان المسلمون على عدوّهم الأوّل علي عبدالله صالح الذي ما لبثوا أن غدروا به في الرابع من كانون الأوّل – ديسمبر 2017. الثابت أن علي عبدالله صالح كان وراء بروز الحوثيين في البداية عندما احتاج إلى ما يوازن به الإخوان المسلمين والحركات الإسلاميّة المتطرّفة الأخرى بعد حرب صيف 1994 مع الحزب الاشتراكي اليمني. افتقد الرئيس الراحل، بعد حرب 1994، لعبته المفضّلة القائمة على التفرج على خصومه يتناطحون في ما بينهم مكتفيا بلعب دور الحكم. لذلك، فتح للحوثيين الذين سمّوا أنفسهم في البداية “الشباب المؤمن” خطا مع إيران. اكتشف متأخّرا أن ولاء هؤلاء صار لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، فخاض معهم ست حروب بين العامين 2004 و 2009.
بقي الحوثيون محصورين في منطقتهم (صعدة وجوارها) إلى ما قبل 2011 عندما استغلّ الإخوان المسلمون “الربيع العربي” للتآمر على علي عبدالله صالح. عمل هؤلاء، منذ التخلّص من علي عبدالله صالح، على التوسّع في كلّ الاتجاهات. لعبوا كلّ أوراقهم بدهاء ليس بعده دهاء مستغلّين سذاجة الرئيس المؤقت عبدربّه منصور هادي الذي كان لديه هاجس علي عبدالله صالح في كلّ وقت والخوف من الإخوان المسلمين بين حين وآخر.
في مثل هذه الأيّام، قبل سبع سنوات بدأ الزحف الحوثي في اتجاه صنعاء. لم يتصدّ له الرئيس المؤقت الذي كان يسيطر على الجيش، على الرغم من نصائح علي عبدالله صالح. كان ملخّص النصائح أنّه إذا لم يتوقف تقدّم الحوثيين في محافظة عمران، ستكون صنعاء في متناولهم.
في رحلتهم من صعدة إلى صنعاء، التي احتاجت إلى نحو شهرين، غيّر الحوثيون مفاهيم يمنيّة كثيرة. من بين ما غيّروه التركيبة القبليّة في شمال اليمن. قضوا على آل الأحمر، زعماء حاشد واحتلّوا بيوتهم أو هدّموها. قضوا أيضا على نفوذ الإخوان المسلمين في المؤسسة العسكرية عندما أسقطوا اللواء 310 في محافظة عمران واغتالوا، عن سابق تصوّر وإصرار، قائده العميد حميد القشيبي!
انطلاقا من صنعاء بنى “أنصارالله” قاعدة قويّة وثابتة. صحيح أنّ التحالف العربي أخرجهم من عدن والمخا، أي منعهم من السيطرة على مضيق باب المندب، لكنّ الصحيح أيضا أنّ الحوثيين صاروا جزءا من المعادلة اليمنية مستقبلا. هل هم يمنيون أم هم في خدمة إيران؟ هذا هو السؤال الكبير الذي سيطرح نفسه. هذا هو اللغز الذي يواجه المبعوث الأميركي تيموثي ليندركينغ الذي يسعى لاكتشاف اليمن وخباياه. سيحتاج إلى مزيد من الوقت ليكتشف أنّ الحوثيين استثمار إيراني في اليمن لا أكثر وأنّ على الإدارة الأميركية الجديدة أخذ ذلك في الاعتبار في حال كانت تريد بالفعل التعاطي بجدّية مع الموضوع اليمني بتعقيداته التي يصعب تعدادها.
لم يخرج الاتحاد السوفياتي من اليمن الجنوبي قبل أن تظهر بوادر على انهياره من الداخل في العام 1986. هل من أمل في ظهور بداية انهيار داخلي في إيران للكلام عن احتمال خروجها من اليمن يوما؟