قال أحد الظرفاء مرة: “الناصريون” “إخوان”.. لكن يشربون السجائر.!
وبالمثل: “الاشتراكيون” “إخوان”.. لكن ينادون بعضهم: يا رفيق.!
صحيح. هي تعميمات كاريكاتورية، لكنها لم تأتِ من فراغ: “تأخوُن” أحزاب اليسار في اليمن. ظاهرة مشهودة، منذ انخراطها مع الإخوان، في تكتل “أحزاب اللقاء المشترك”. 2003م.
“المشترك” حفرة حفرها اليسار للحزب الحاكم، فوقع فيها تحت مؤثرات إخوانية جذرية شاملة: فكرية وسلوكية وأخلاقية.. لا سياسية فقط كما يُفترض في الحالات التقليدية للتحالفات المرحلية.!
اشتدت وتيرة العملية منذ أحداث 2011م. لتصبح بمثابة “ثقب أسود” لنجوم وكواكب اليسار الذي خسر ذاته وكيانه وبوصلته وقضاياه.. لصالح العدو الوجودي لليسار والقيم اليسارية.!
التحالف مع “الشيطان” لا يمكن أن يتم بلا ضرائب وتبعات، وهي قاعدة مجربة قد تعيشها بنفسك، لو انقدت للأحقاد العمياء. وسلمت أمرك لعدو عدوك الذي ليس صديقك بالضرورة.
من الصعب تخليصك حينها من سيطرته. حتى “إبراهام لنكولن”. كان سيعجز اليوم عن تحرير أحزاب اليسار هذه من سيطرة جماعة الإخوان. وتأثيراتها الأيديولوجية والسلوكية والسياسية..
بالكاد. تمكن “الحزب الناصري” من التحرر من هذه الربقة. لكن سياسيا فقط. إذ ما تزال آثارها ماثلة عليه على الجوانب الأخرى. بحيث لا تدرك هل هذا الحزب حالياً: حزب علماني يساري قومي.. أم يميني ديني إسلامي.. من شيعة جمال عبد الناصر. أم من أشياع الناصر صلاح الدين؟!
المفارقة أكثر بروزا على صعيد “الحزب الاشتراكي”. اكتب منشوراً تنتقد فيه إدارة التوحش الإخواني في “تعز الغربية”، والأرجح أن أول من سيشتمك شخص يساري من أتباع الشيخ “ياسين سعيد نعمان”.!
من يصدق أن هذا الحزب الشيوعي العريق طالب بأسلمة الدستور قبل “التجمع اليمني للإصلاح”؟!
انظر رؤية الحزب المقدمة لـ”مؤتمر الحوار الوطني”، ومواقف الحزب خلال العشر السنوات الماضية على الأقل، للتأكد من أن “الحزب الاشتراكي اليمني”:
• لم يعد حزباً: بات من الصعب التمييز بين لغة ومطالب وقضايا.. كوادر وقيادات هذا الحزب، وبين نظائرها لدى كوادر وقيادات جماعة الإخوان.
مقرات هذا الحزب أصبحت مجرد فروع لمقرات كيانات أخرى: “التجمع اليمني للإصلاح”. في تعز، والحوثي في صنعاء، والانتقالي في الجنوب.!
• كما لم يعد اشتراكيا: الاشتراكيون في العالم كله يتبعون تعاليم ماركس ولينين وموتسي تونج.. وفي اليمن يتبعون تعليمات فؤاد دحابة ومحمد الحوثي وشوقي القاضي.!
ليس من السهل على حزب شيوعي مخضرم التحول من شعار “لا إله والحياة مادة” إلى شعار “الله غايتنا”، ومن “الدين أفيون الشعوب” إلى “الإسلام هو الحل”.!
لكن هذا هو ما حدث رمزياً لهذا الحزب الذي كان يتغنى بقبعة “جيفارا” وبات يتغزل بمسوح “راسبوتين”.!
هذا الحزب فقد كل شيء تقريبا باستثناء كوادر قليلة عظيمة. رجالاً ونساءً، الواحد منهم بحزب. عمالقة في كيان يتقزم باضطراد في طريقه إلى الانقراض.!
مشهد الختام هو برود أو نسيان هذا الحزب لقياداته -مثل أيوب الصالحي وأكرم حميد- المعتقلة في سجون الإخوان، وحماسه في المطالبة بإطلاق القيادي الإخواني “محمد قحطان” من سجون الحوثي.!
إطلاق سراح سجناء الرأي، والمعتقلين السياسيين، بمختلف انتماءاتهم، مطلب إنساني نبيل، المهم أن لا يتم بانتقائية، خاصة على حساب معتقلي الحزب نفسه، وبالذات لصالح الحزب الذي اعتقلهم.!
هذا العبط يجعلنا أمام النعامة الحمقاء التي قال فيها الشاعر:
“كتاركةٍ بيضها بالعراء .. وملبسةٍ بيض أخرى جناحا”.
بالمناسبة. هذه خرافة تراثية.. فحتى النعام لا تفعل ما تفعله أحزاب اليسار في اليمن، والتي انتقلت لخدمة مشاريع اليمين، وتركت الحياة السياسية في اليمن عرجاء مائلة.!