حاوره – صالح البيضاني
يصف الشاعر والناقد اليمني ورئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الدكتور مبارك سالمين حال المشهد الثقافي اليمني، في ظل الحرب التي تشهدها البلاد بأنه “مشهد معطوب”، ويرجع هذا العطب إلى الخلل في بنية المشهد والذي يكمن على حد وصفه “في معظم الهياكل والسياسات التنموية الثقافية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة على البلاد”.
مبارك سالمين: يتعمق هذا العطب بالتأكيد في ظل الحرب والصراع السياسي، لكننا وحتى قبل الحرب فإن ذهنية العودة إلى الوراء وعدم الاهتمام بقضايا محورية ورئيسية في الحقل الثقافي، (كقضية الهوية الوطنية، والتعليم، والمواطنة، والديمقراطية.. إلخ) كانت السمة البارزة في الاشتغال الرسمي في هذا الحقل، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تهميش الثقافة وإقصاء كل ما له صلة بها في معيش الإنسان في اليمن.
لقد انعدم الاهتمام بالكتاب وأهمل المسرح وأغلقت دور السينما في جميع مدن اليمن، ثم تأتي الحرب وتصادر ما تبقى قيميا وماديا، مصادرة طالت مراكزعديدة للثقافة كمقرات اتحاد الأدباء والكتاب في بعض محافظات البلاد والمكتبات العامة القليلة أصلا.
أي أن الحرب دمرت ثقافيا وقيميا حتى تلك الهياكل الباهتة التي كانت موجودة هنا أو هناك. في المشهد الثقافي. والخلاصة أن المشهد الثقافي يعاني عطبا بنيويا من جهة وقتامة في المآلات من جهة أخرى ويحتاج الأمر إلى جهود وطنية جبارة لإنقاذه من هذه الحالة، جهود معقدة وصعبة، ولكنها ليست مستحيلة.
الرجل المريض
العرب: كيف ترى واقع ودور اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي ترأسه في هذه الظروف الصعبة التي يعاني منها المشهد الثقافي اليمني في ظل الحرب والصراع السياسي؟
مبارك سالمين: الاتحاد، وأقولها بمنتهى الصراحة بات كالرجل المريض اليوم، وقد تسبب في مرضه، أولا: السلطات المتعاقبة التي بذلت جهودا جبارة بهدف تهميش دوره في الثقافة الوطنية وتحويله إلى كيان تابع للسلطة، وثانيا: حجب الدعم المادي عن الاتحاد وتجفيف موارده الأمر الذي انعكس في عدم قدرته على ممارسة دوره الثقافي والتنويري، حيث توقفت مهرجاناته الثقافية وتوقف عن دعم الإصدارات الثقافية وتوقفت عن الصدور مجلته المركزية “الحكمة” ومجلات الفروع “المنارة” و”المعرفة” و”اليراع” و”آفاق”.
وتوجت هذه الممارسات بتوقف ميزانيته التشغيلية الرمزية (كمقرات) وبصورة نهائية منذ 2014 وحتى اللحظة الراهنة، وهي الفترة التي ترأست فيها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وكل حضور للاتحاد على المستوى العربي إنما هو بمجهودات شخصية لبعض من أعضاء أمانته العامة الذين صمدوا في مثل هذه الظروف.
لقد جرى تهميش الاتحاد بصورة قصدية وذلك جزء من السياسات العامة للبلاد التي لا يروق لها الامتثال للحكمة والمنطق، ففي مؤتمر الحوار الوطني مثلا، تم تمثيل الاتحاد بشخصين فقط، لأنه لا ضمانات لهم في أن يكون صوته مع من خطط وأثث للحوار، هم يعرفون أن صوت الاتحاد عبر تاريخه المجيد هو صوت الشعب، صوت الحرية.
ثالثا عدم قدرة الأمانة العامة على عقد أي اجتماع بسبب توقف أكثر من نصف قوامها تلقائيا عن النشاط في مثل هذه الأوضاع، بالإضافة إلى توقّف الدعم الحكومي بصورة نهائية، رابعا: الحرب، حيث رائحة البارود أعلى من رائحة الكتب، الحرب التي ألقت بظلالها على كل شيء في البلاد.
الإقصاء والتهميش
العرب: إلى أي مدى انعكست الحرب وتداعياتها والأزمة الاقتصادية والانقسام على المبدع اليمني؟
مبارك سالمين: مما لا شك فيه أن انعكاسات الحرب وتداعياتها وأزماتها التي شملت الناس كلهم، قد شملت الأدباء وسحقتهم فهم أرق فئات المجتمع وأكثرها حساسية وأنفة وقد عانى الأدباء كثيرا، وعلى مستويات كثيرة سواء على مستوى الحقوق والحريات أو الرعاية الصحية وغير ذلك، وقد سقط بعضهم صرعى بسبب عدم حصولهم على حبة دواء والحديث يتشعب ويطول إذا تحدثنا عن انعكاسات الحرب على الأدباء لأنه حديث مر، وربما يحتاج إلى ندوة أو مؤتمر يعدّ له الاتحاد في قادم الأيام ليكون الحديث فيه مفصلا وموضوعيا.
العرب: يوجه بعض الكتاب اليمنيين لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين اتهامات بأنه تخلى عن دوره السياسي، كيف ترد على ذلك؟
مبارك سالمين: الاتحاد ليس حزبا سياسيا، والدور السياسي الذي لعبه الاتحاد قبل الوحدة اليمنية كان صنيعة التاريخ، بمعنى أن وجوده في زمن ما قبل الوحدة كان ضرورة تاريخية وثقافية، وسياسية أيضا، ولهذا فإن الاتحاد في تلك الفترة قد لعب دورا سياسيا بارزا لسبب تاريخي.
لكن إذا أردنا السياسة بمعناها الواسع فإن الاتحاد وإن لم يكن في صدارة المشهد لكنه لم يغادر، غير أن ديناميات الإقصاء والتهميش لكل ما هو ثقافي في الحياة إجمالا ابتداء من التربية والتعليم وصولا إلى المسرح وسائر حقول الثقافة والعمران، تفعل فعلها وقد ألقت بظلالها إلى جانب الحرب على نشاط ودور الاتحاد.
المنارة المغدورة
العرب: هل هناك محاولات تهميش للدور الريادي لمدينة عدن التي تنتمي إليها؟ وكيف ترى واقع المدينة التي كانت منارة ثقافية وتنويرية في اليمن والمنطقة؟
مبارك سالمين: لقد جرى تهميش الدور الريادي لعدن في اليمن والمنطقة بعد وحدة البلاد مباشرة، بطريقة واضحة وفجة وكأنما توحدت البلاد لكي تمسح عدن من الخارطة الثقافية.
قد يكون هذا القول قاسيا لكنني قد لمسته في أكثر من موضع ومكان. لقد كانت عدن عبر التاريخ مصهرا للوافدين إليها، فهي تعدّنهم لكنها تعرّضت للغدر في تاريخها الحديث، وبعد أن كانت عاصمة لدولة تتمتع بعضويتها الكاملة في المجموعتين العربية والدولية، قيل عنها إنها فرع يجب أن يعود إلى أصله، وتم نهبها وتجريف ثرواتها وأراضيها دون وجه حق.
كما إنها تعرّضت لحربين ظالمتين تحت مظلة الوحدة أو الموت في عامي 1994 و2015. وكان من نصيبها الموت فقط. وتلك نكبة حقيقية للمدينة وأهلها. نكبة شملت كل قطاعات الحياة الثقافية، رياضة وتربية ومسرح وفنون ومعارض كتاب.. إلخ.
العرب: هل يمكن أن تستعيد عدن دورها الثقافي؟
مبارك سالمين: هي تتوجس بالضرورة مما سيأتي إليها بعد أن أفاقت ذات صباح أثناء العدوان عليها في عام 2015، على شبكة من الأنفاق السرية تحتها لمحاربتها وقمعها وتدميرها وتشريد أهلها، وعلى ترسانة أسلحة في محيطها استهدفت مواطنيها العزّل.
وحتى بعض من فتحت لهم أبواب الرزق من الوافدين إليها وقفوا ضدّها، ولعل هذا الوضع كان من بين أهمّ الأمور التي سوّغت للتدخل الخارجي.
عدن تتوجس من مستقبلها والسؤال عن استعادة دورها الثقافي سؤال مهم لأن حالة المدينة في غاية السوء، وبعيدا عن التفاصيل فإننا نرى أن هذه الحالة زائلة لا محالة إذا صدقت النوايا وانتصر العقل على هذا الجنون في هذه البلاد. زائلة لا محالة إذا صدقت النوايا واجتمع الناس على كلمة سواء وهذا ما نأمله وندعو إليه كأدباء ومثقفين.
نقد النقد
العرب: قوبل كتابك الأخير الصادر مؤخرا عن دار عناوين بوكس في القاهرة والذي حمل عنوان “نقد الشعر اليمني وشرك المدرسة” إيجابية في الأوساط الثقافية العربية. ما هي مضامين هذا الكتاب؟
مبارك سالمين: هي محاولة للخوض في حقل النقد الأدبي وقد لقت استحسانا كبيرا من الوسط الثقافي.
الكتاب عبارة عن بحث أدبي في ميدان “نقد النقد” وهو محاولة قمت بها لسببين: أولهما أدبي، وثانيهما أكاديمي.
السبب الأدبي رغبتي الأكيدة في المساهمة في حقل من حقول الأدب المهملة نسبيا، وهو حقل النقد وبالذات (نقد النقد). أما السبب الأكاديمي فيتمثل في تقديم مساهمة متواضعة لتنبيه طلاب الدراسات العليا من خطورة الوقوع في شرك المدرسة – المنهج عند اختيارهم المناهج المؤطرة لأبحاثهم. إذ يجب أن يختار الباحث منهجه القرائي بالاستناد إلى درجة ملاءمته للأثر الأدبي المراد دراسته، وهو الأمر الذي يتطلب من الباحث أن يقرأ ويستوعب ويتمثل ثم يختار منهجه ليكتب نصه الموازي للأثر الأدبي وهي خطوة أعتقد أنها تقلل كثيرا من احتمال الوقوع في شرك المنهج –المدرسة وحبائلها.
أما اختياري للناقدين الدكتور سعيد سالم الجريري والأستاذ عبدالرحمن إبراهيم في هذه المحاولة التطبيقية، فليس إلا من باب توجيه التحية لهما فقط.
أما بالنسبة إلى الجزء الثاني من الكتاب فهو عبارة عن مجموعة من المقالات المتنوعة في ميدان علم الاجتماع الثقافي ومجال الأدب (ملاحظات سريعة) متبوعة بـ”بانوراما” مقالات عن اليمن وعدن مختومة بعدد من المقالات تحية لمصر، لأنها الأم التي احتضنتني أثناء مرحلة التفرغ العلمي في جامعة أسيوط وهي الفترة التي كتبت فيها معظم المقالات المنشورة في هذا المصنّف. كتبتها في مصر ورتبتها تنضيدا وتبويبا في عدن. أتمنى أن يجد القارئ فيه قسطا ولو يسيرا من المتعة والفائدة.
لا نشر في ظل الحرب
العرب: كيف ترى واقع النشر في اليمن اليوم؟
مبارك سالمين: لا نشر ولا كتاب تحت أسنة الحراب، إذ تنشر الحرب الأسى والجوع والدمار وتنشر الرذيلة والظلم والموت فقط.
توقفت المطابع وزغردت البنادق وتوقفت حركة النشر وأغلقت مطابع ودور نشر عديدة. حاولنا كاتحاد للأدباء والكتاب أن نقيم علاقة مع بعض دور النشر في البلدان العربية بصفة شخصية وعبر بعض الاتحادات العربية التي وعدت بأنها ستساهم في فك الحصار عن الأدب اليمني لكن للأسف لم تف بوعودها.
وقامت مشكورة وزارة الثقافة اليمنية، قبل ضمها مع الإعلام والسياحة في وزارة واحدة بالتنسيق لمشروع طباعة مئة عنوان في العاصمة المصرية لم يُكتب له أن يستمر، إذ توقف بسبب التمويل بعد عشرة إصدارات فقط ولا يزال هذا الوضع بالنسبة لقضية نشر الكتاب كما هو، حيث لم يعد الكتاب أولوية في أنشطة الحكومة المسافرة دائما.
مشاريع مؤجلة
العرب: كيف تقيم العلاقة بينك وبين العمل الأكاديمي والنقابي؟ وهل استفدت إبداعيا من هذه التجربة؟
مبارك سالمين: لم أستفد كثيرا إن لم يكن قد خسرت. الشعر والأدب عموما يعتد بالتمرد والمغايرة بينما الأكاديمية والنقابة يقومان على العقلانية والمنطق، لكنني حاولت على قدر استطاعتي التوفيق بينهما ولم يكن الأمر سهلا… وخاصة في بلد غير مستقر كاليمن.
العرب: ما هي أعمالك القادمة؟
مبارك سالمين: حاليا أحاول أن أعود إلى مجرى تخصصي الدقيق في مجال “علم الاجتماع الثقافي”، والذي هجرته كثيرا بسبب ترؤسي لاتحاد الأدباء والكتاب في عدن ثم في اليمن وما تمليه هذه لمواقع من التزامات، لشخص غير متفرغ، وترؤسي أيضا لقسم الخدمة الاجتماعية في كلية الآداب لست سنوات وهو قسم حديث النشأة في جامعة عدن ويحتاج إلى جهد كبير وعمل يومي يأخذ كل الوقت في بعض المواسم الدراسية.
وقد تركت رئاسة قسم الخدمة لكنني بسبب الحرب وعدم انعقاد المؤتمر العام للاتحاد لم أترك رئاسة الاتحاد، غير أني أحاول أن أتوفر على الوقت الذي يمكن أن أشرع فيه في العمل على بعض الأبحاث العلمية في تخصصي.
حاليا أعمل على بحث بعنوان “سوسيولوجيا العزاء في اليمن”، غير أن كلفة إنجازه، بما يتطلبه من أسفار داخل اليمن، وربما خارجه، غير متيسرة حيث لا تقدم الجامعة أي دعم في مجال البحث العلمي، وأعتبر أن الإجابة عن هذا السؤال من باب البحث عن ممول (طبعا اقصد مراكز البحوث العربية).