أعادت الحرب في اليمن معاناة الأقليات الدينية إلى الواجهة، حيث تفيد شهادات حيّة وتقارير حقوقية أن اليهود والبهائيين يواجهون عمليات اضطهاد وتنكيل ممنهجة ترتقي إلى جرائم الحرب التي يمارسها الحوثيون بحق مدنيين عزّل يرون في المأساة التي تلاحقهم منذ سنوات امتدادا لسياسة النظام الإيراني الذي يخنق الأقليات.
تعرض نديم السقاف وهو بهائي يمني للاعتقال للمرة الأولى هو وشقيقه في العام 2015 بمجرد حضوره إحدى جلسات محاكمة الناشط البهائي حامد بن حيدرة، ويقول في شهادة حول ما تعرض له بعد هذه المحاكمة “وجّه عضو النيابة باعتقالنا وجاءت سيارة من الأمن السياسي (أحد أجهزة المخابرات) وأخذتنا إلى الحجز لمدة ثلاثة أيام”.
ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي يُحتجز فيها السقاف، حيث يؤكد أنه تم اعتقاله مرة أخرى في العام 2016 برفقة زوجته وزوجة أخيه وعدد من النساء والأطفال في إطار حملة اعتقالات واسعة طالت أبناء الطائفة البهائية، ويضيف “وردنا اتصال من الأمن القومي يطلب مني وأخي الحضور لاستلام زوجتينا والعودة إلى البيت، ذهبنا فتم اعتقالنا، بقي أطفالنا في البيت وحيدين وفي حالة رعب، وأثناء ما كنا في الحبس داهمت قوات الأمن بيتنا لتفتيشه وأخذت الكثير من الأغراض والوثائق المتعلقة بملكية بيتنا وبعض الأراضي التي اشتريناها بأموالنا الخاصة وبعد شهر تقريبا أفرجوا عن زوجتينا وتم وضعهما تحت الإقامة الجبرية في البيت، بينما أفرج عني وعن أخي بعد أكثر من ثلاثة أشهر بعد تقديم ضمانات بعدم مزاولة أيّ أنشطة بهائية”.
امتداد لسياسة إيرانية
يؤكد ناشطون حقوقيون يمنيون أن الأقليات الدينية في اليمن عانت حالة متصاعدة من التهميش والتضييق الشعبي والرسمي وصلت ذروتها مع احتدام النزاع السياسي واندلاع الحرب التي شهدتها البلاد في العام 2015، حيث سرّعت خارطة النفوذ التي تشكلت في اليمن في أعقاب انهيار مؤسسات الدولة من مغادرة آخر اليهود اليمنيين تحت وطأة الضغوط وحالة العزلة الاجتماعية والثقافية التي تعرضت لها الطائفة خلال السنوات الأخيرة بعد أن تحولت إلى حلقة ضعيفة في صراع مستعر ذي أبعاد مذهبية وسياسية وأيديولوجية، كما تعرضت الطائفة البهائية إلى موجة حادة من الإقصاء والانتهاك والملاحقات الأمنية.
غير أن المعتقل البهائي السابق نديم السقاف يرفض تحميل الحرب وحدها مسؤولية سياسات الانتهاك الممنهجة التي طالت طائفته، مشيرا إلى أن قضية حامد بن حيدرة والتهم الموجهة إلى البهائيين بدأت قبل الحرب مع بداية سيطرة الحوثيين على صنعاء، مستدركا “صحيح أن الحوثيين بعد اندلاع الحرب صعّدوا من اضطهاد البهائيين بشكل واسع وممنهج بهدف إبادة الطائفة البهائية، إلا أن جميع الدلائل تؤكد ارتباط ما يحدث للبهائيين في اليمن بما يحدث للبهائيين في إيران من اضطهاد وتنكيل”.
وورد اسم السقاف في أبريل 2017 في مذكرة اعتقال أصدرتها النيابة العامة التابعة للحوثيين والتي قضت باعتقال أكثر من 30 بهائيا من بينهم نديم السقاف وشقيقه وزوجتاهما.
ويقول في سياق شهادته عن هذه المرحلة “فعلا اعتقلوا عددا من البهائيين، بينما تركنا البيت وأعمالنا وغادرنا مكرهين، تنقلنا من مكان إلى آخر حتى خرجنا من اليمن، وبعد أيام استولى الحوثيون على البيت ونهبوا كل ما فيه وما يزال حتى الآن معهم، بالإضافة إلى ممتلكات بهائيين آخرين، علاوة على حجز حساباتنا البنكية، بذريعة أننا عملاء لإسرائيل”.
وإلى جانب تصدر قضية البهائيين اليمنيين سجل الانتهاكات كأقلية دينية في اليمن، برزت في سنوات الحرب اليمنية معاناة طائفة أخرى يعود تاريخ وجودها في اليمن إلى فترات موغلة في القدم، وتعود أول موجة نزوح ليهود اليمن في العصر الحديث إلى القرن التاسع عشر في اليمن، حيث تعرضوا إلى الترحيل الإجباري من قبل الإمام المنصور الذي اتخذ قرارا بتهجيرهم من صنعاء إلى تهامة، قبل أن يسمح لهم لاحقا بالعودة إلى صنعاء.
الهجرة حلّ للهرب من بطش الحوثيين
وشهد العام 1948 أكبر موجة نزوح لليهود اليمنيين قامت بها الوكالة اليهودية العالمية وشملت ترحيل حوالى 52 ألفا من اليهود إلى عدن ومن ثم نقلهم إلى إسرائيل جوا بواسطة عملية عرفت باسم “بساط الريح”، غير أن هذا النزوح الكبير أخذ بعدا سياسيا في المقاوم الأول، على خلاف ما تعرضت إليه الطائفة في آخر مواقع تواجدها في أقصى شمال اليمن في العام 2007 وخلال فترة ما يعرف بحروب صعدة (2004 – 2009) بين الجيش اليمني والجماعة الحوثية آنذاك، حيث أجبر الحوثيون الذين يرفعون شعارا يتضمن عبارة “اللعنة على اليهود”، يهود منطقة “آل سالم” في محافظة صعدة على النزوح إلى العاصمة اليمنية صنعاء، بعد توزيع منشورات في قريتهم تمهلهم أياما فقط للمغادرة قبل أن يتعرّضوا للإيذاء .
وتؤكد رئيسة مركز إنصاف للدفاع عن الحريات والأقليات إيمان حُميد أن الحرب في اليمن خلفت جماعات وميليشيات متعددة الأيديولوجيات والولاءات استهدفت بعضها لكنها استهدفت كذلك الأقليات الدينية بشكل مباشر عبر إجراءات ممنهجة تضمنت محاكمتهم واعتقالهم وتهجيرهم قسريا من وطنهم.
وتشير حُميد وهي ناشطة يمنية معروفة بدفاعها عن الأقليات الدينية في اليمن إلى أن هناك أبعادا سياسية ودينية، تقف خلف عمليات التضييق والتهجير التي تتعرض لها الأقليات الدينية وإنها كما في حالة اليهود، تأخذ منحى تاريخيا حيث قامت الدولة المتوكلية خلال فترة حكم آسرة آل حميدالدين والتي تعتبر – وفقا لحُميد – من نفس سلالة الحوثيين، “بتهجير اليهود عنوة إلى إسرائيل وذلك للاستيلاء على أملاكهم وخصوصا أن الكثيرين منهم كانوا من التجار وأصحاب الأراضي والممتلكات”.
ولفتت إيمان حُميد إلى أن “ما يقوم به الحوثيون اليوم بحق الأقليات وخصوصا اليهود والبهائيين يندرج في سياق استراتيجية أوسع للتغيير الديموغرافي”.
وتأمل الناشطة اليمنية في عكس نتائج التهجير التي تعرض لها اليهود اليمنيون أو الطائفة البهائية، بعد انتهاء الحرب وإحلال السلام، ونشوء نظام ديمقراطي، وتستدرك “لكن في ظل وجود ميليشيات خارجة عن القانون وجماعات دينية متطرفة، لا يمكن باعتقادي أن تستعاد حقوق اليمنيين بمختلف فئاتهم، فما بالك بالأقليات التي تعد الفئة الأضعف”.
ويأمل المعتقل البهائي السابق نديم السقاف في أن يتمكن من العودة مع رفاقه المهجّرين إلى منازلهم ووطنهم واستعادة ممتلكاتهم والسماح لهم بممارسة أنشطتهم دون أيّ مضايقات ويقول “نطالب فقط بحقنا في المواطنة والمشاركة في بناء مجتمعنا اليمني وتحقيق السلام والتنمية المستدامة وندعو الجميع لمناصرتنا في مطالبنا حتى نعود ونستعيد حقوقنا وممتلكاتنا”.
وتعرضت الطائفتان اليهودية والبهائية في اليمن إلى حالة من التضييق والملاحقة الأمنية والقضائية وحتى الإعلامية منذ اندلاع الحرب في اليمن، ودفعت هذه الإجراءات إلى رحيل آخر اليهود اليمنيين، كما غادر عدد من قادة الطائفة البهائية بعد أحكام جائرة بالسجن ومصادرة الأموال من قبل الحوثيين.
ويعتقل الحوثيون منذ مارس 2016 اليهودي اليمني ليبي سالم موسى مرحبي بتهمة تهريب مخطوطات أثرية إلى خارج اليمن، ويقول مركز إنصاف للدفاع عن الحريات والأقليات إن جهاز الأمن القومي (المخابرات) التابع لجماعة الحوثي رفض إطلاق سراح مرحبي على الرغم من صدور حكم قضائي بالإفراج عنه.
وقال المركز في تقرير له “ليبي يعاني من ظروف صحية سيئة في المعتقل، ومشاكل في الكلى والرئة، إضافة إلى فقدان كل أسنانه”.
وعلى غرار عمليات التهجير الممنهجة التي تعرضت لها الأقلية اليهودية في اليمن، قام الحوثيون في أواخر يوليو 2020 بترحيل عدد من أتباع الطائفة البهائية في اليمن، بعد سنوات من احتجازهم ومحاكمتهم.
وقال بيان صادر عن الطائفية البهائية في اليمن، حينها إن المعتقلين البهائيين “تم نقلهم من السجن إلى خارج البلاد بصورة قسرية دون مقابلة أهلهم وذويهم”.
وعقدت محكمة في صنعاء خاضعة لسلطة الحوثيين في الثاني والعشرين من أغسطس 2020 جلسة لمحاكمة أكثر من 20 بهائيًا بتهم وصفتها الجامعة البهائيّة العالميّة آنذاك بالكيدية و”ذات دوافع دينية”، مشيرة إلى أن أجهزة النيابة وصفت البهائيين الذين تم إخراجهم من السجن وإبعادهم عن البلاد في يونيو 2020 بأنهم “هاربون من وجه العدالة”.
ضحايا الحرب
يحمّل عبدالله العلفي وهو ناشط يمني والمتحدث الرسمي باسم الجامعة البهائية في اليمن، الحرب مسؤولية تدهور حال الحقوق والحريات في البلاد، مشيرا إلى أنها “خلّفت كارثة مروّعة على جميع اليمنيين”، ويستدرك “نحن البهائيين اليمنيين مثل كل اليمنيين نعيش هذه الكارثة بكل جوانبها وتفاصيلها، غير أننا علاوة على ذلك نواجه حرب إبادة جماعية من قبل الحوثيين بسبب إيماننا بالدين البهائي”.
ويؤكد العلفي أن البهائيين في اليمن لا تربطهم أيّ علاقة بالحرب الدائرة في اليمن وأنهم ليسوا طرفا فيها ولا يتدخلون في مجرياتها، باستثناء جهودهم في دعوة جميع الأطراف إلى السلام، بالإضافة إلى نشاطهم في إشاعة ثقافة السلام والتعايش من خلال الفعاليات المختلفة التي ينظمها البهائيون اليمنيون منذ عقود.
ويلفت العلفي إلى أن الحوثيين الذين استولوا على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر 2014 قاموا بحملة اعتقالات في أغسطس 2016 استهدفت الرجال والنساء والأطفال، حيث “زعموا أن دعوة البهائيين للسلام في هذا التوقيت مخطط خطير غايته تحريض الشباب على الاستسلام للعدوان بدلا من حث الشباب على الجهاد وتحشيدهم للذهاب إلى الجبهات”.
ويرجع الناطق باسم الجامعة البهائية في اليمن ما يصفها ببداية اضطهاد البهائيين إلى حادثة إحالة البهائي حامد بن حيدرة الى المحكمة في يناير 2015، ويقول إن الحوثيين “لفقوا له تهما لا أساس لها من الصحة وزعموا أن البهائيين ينفذون مخططا إسرائيليا يستهدف الدين الإسلامي من خلال نشر الديانة البهائية وإقناع المجتمع اليمني لاعتناقها”.
ويضيف “لأن حامد بن حيدرة من أبناء جزيرة سقطرى ورجل أعمال في مجال المقاولات العامة، ونفذ للدولة العديد من مشاريع التنمية في الجزيرة، ادعى الحوثيون أن البهائيين اليمنيين يخططون للاستيلاء على جزيرة سقطرى وإعلانها وطنا قوميا للبهائيين. كما اتهموا البهائيين بالردة عن الإسلام وتحريض المسلمين على الردة من خلال الأعمال الإنسانية والتظاهر بمكارم الأخلاق ومكافحة الأمية وغيرها من الأنشطة التي يقوم بها البهائيون بدافع خدمة المجتمع والمساهمة في التنمية المستدامة كمواطنين يمنيين”.
ويشير العلفي إلى أن “العشرات من البهائيين تعرضوا لاعتقالات جماعية، كما أن البعض منهم تعرضوا إلى التعذيب قبل إحالتهم لمحاكمات تعسفية تفتقر لمعايير العدالة، إضافة إلى أنهم واجهوا أحكاما بالإعدام وأغلقت مؤسساتهم الإدارية والتنموية وشُرّدت أسر بأكملها من منازلها وصادر الحوثيون ممتلكاتهم وأجبروا البعض على الهجرة القسرية من اليمن بعد الاستيلاء على منازلهم وأموالهم، إلى جانب نفي عدد من المعتقلين، فيما لا زالت السلطة الحوثية تجري محاكمات غيابية بحق 24 بهائيا بينهم نساء وطفلة”.
وعن الإجراءات العقابية الجماعية التي تعرض لها البهائيون في اليمن، يضيف الناشط عبدالله العلفي “علاوة على ما سبق يقوم الحوثيون بالتضييق على البهائيين اليمينيين في مصادر عيشهم، من خلال حجز حساباتهم البنكية وتعميم قائمة سوداء بأسماء أكثر من سبعين شخصا من البهائيين وأصدقائهم على شركات الصرافة لمنعهم من استلام أو تحويل أيّ مبالغ مالية، الأمر الذي أدى إلى حرمانهم من فرص عمل كانت متاحة لهم، وخلاصة القول، يعيش البهائيون وضعا مأساويا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى تحت وطأة اضطهاد ممنهج يرقى إلى جريمة حرب”.
ويؤكد تقرير صادر عن مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية على أن حالة الاحتكاك بين السلطات في صنعاء والمنتمين للأقلية البهائية تعود إلى ما قبل سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية في 2014، ويقول التقرير الذي جاء تحت عنوان “البهائيون في اليمن: من الظل إلى الاضطهاد والنفي” أن علاقة البهائيين في اليمن بنظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح كانت سلمية نسبيًّا، إلا أن المشاكل الرئيسية الوحيدة التي واجهتها الطائفة البهائية في شمال اليمن نشأت خلال الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينات القرن العشرين، حيث أصبح البهائيون خلال تلك الفترة موضع شك بسبب أصولهم الفارسية، ولكن السلطات اليمنية فهمت في النهاية أن البهائيين لم يكونوا داعمين لإيران.
ووفقا للتقرير فقد “سُمح للبهائيين كونهم أقلية دينية لم تتدخل في السياسة بممارسة معتقداتهم بحرية في أغلب الأحيان. وفي حالة استثنائية واحدة، عام 2008، اعتقل مكتب الأمن القومي (المخابرات) خمسة بهائيين لنحو أربعة أشهر بناء على شكوك حول صلاتهم بإيران. وجاءت هذه الاتهامات في فترة شهدت توترًا بين إيران والرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، الذي اعتقد مسؤولو استخباراته أن الطائفة البهائية هي خلية إيرانية، مما أدى إلى تشديد قيود الإقامة على البهائيين غير اليمنيين في البلاد. في ذلك الوقت اتهمت شخصيات دينية محافظة من حزب الإصلاح الإسلامي الذي يُعتبر الحوثيون تهديدًا مباشرًا لهم، البهائيين بالتعاون مع إيران لدعم قوات الحوثيين ضد الجيش اليمني في صعدة”.
وفي افتتاحية له في يونيو 2021 تحت عنوان” حماية الأقليات بات ضرورة ملحة في اليمن” قال مركز صنعاء للدراسات إن “الحرب الحالية التي تشهدها اليمن أعادت محنة الأقليات إلى الواجهة بشدة”. وأضاف “ففي حين يعاني جميع اليمنيين تقريبًا من النزاع، إلا أن معاناة المجموعات المهمشة والضعيفة أمسى تهديدًا وجوديًّا عليهم”.