تشرّفت بوضع مقدّمة لكتاب، صدر قبل أيّام، للزميل صالح البيضاني عن آخر تطورات الوضع اليمني. عنوان الكتاب “باب الردى – قصة الحرب في اليمن”. استفدت من طلب الزميل كتابة المقدّمة كي أدلي بدلوي مرّة أخرى في موضوع حاولت طوال ما يزيد على ثلاثة عقود ونصف عقد سبر أغواره منذ زرت اليمن للمرّة الأولى في العام 1986. كان ذلك مباشرة بعد أحداث اليمن الجنوبي في الثالث عشر من يناير – كانون الثاني 1986، وهي أحداث ارتدت طابعا دمويا انتهت بإطاحة علي ناصر محمد الذي كان يجمع بين رئاسة الدولة وموقع الأمين للحزب الاشتراكي الحاكم.
كانت أحداث الثالث عشر من يناير 1986 مقدّمة لسقوط النظام الذي كان قائما في جنوب اليمن ولتحقيق الوحدة اليمنيّة في أيّار – مايو 1990. زرت وقتذاك الغرفة التي وقعت فيها المجزرة التي أودت بحياة عدد من أعضاء المكتب السياسي وكبار المسؤولين في الدولة بينهم نائب الرئيس علي عنتر وصالح مصلح قاسم وزير الدفاع وعلي شايع وزير الداخليّة. أمّا الشخصيّة البارزة الرابعة التي قتلت وقتذاك، فكانت عبدالفتاح إسماعيل الذي خرج حيّا من مكان وقوع المجزرة، لكنّه جرت تصفيته في ظروف لا تزال غامضة.
في ما يأتي مقدمة كتاب “باب الردى”، وهي مقدمة لا تغني، بالطبع، عن ضرورة قراءة الكتاب الذي يمكن وصفه بأنّه كتاب جديد… بل مغامرة أخرى تتمثّل في خوض موضوع في غاية التعقيد:
قصة الحرب في اليمن
تحتاج الكتابة عن اليمن إلى أخذ مسافة من القوى المتصارعة ورؤية المشهد من زاويته الواسعة. تحتاج مثل هذه الكتابة إلى جهد كبير. يعود ذلك إلى التعقيدات اليمنية التي ليس معروفا لا أين تبدأ ولا أين يمكن أن تنتهي. كلّ ما هو معروف، أقلّه إلى الآن، أن اليمن على كف عفريت وأن اليمن الذي عرفناه، بعد الوحدة في العام 1990، لم يعد قائما. لم يعد اليمن قائما لا بشكله الموحّد ولا ككيانين (الجمهوريّة العربيّة اليمنية واليمن الديمقراطيّة الشعبيّة) مستقلّ كل منهما عن الآخر، كما كانت الحال في مرحلة ما قبل الوحدة.
يقوم الزميل صالح البيضاني بمحاولة جدّية لتفسير ما جرى ويجري في اليمن وذلك عبر كتابه الجديد “باب الردى – قصة الحرب في اليمن”. تكمن أهمّية الكتاب في خلفياته وفي محاولة تستهدف الإحاطة بالظروف التي أدّت إلى الانفجار الداخلي في اليمن الذي توّج بتقديم علي عبدالله صالح، الرئيس منذ صيف 1978، استقالته في شباط – فبراير 2012 استنادا إلى المبادرة الخليجية… وصولا إلى الوضع الراهن الذي لا يمكن التكهّن بما سيؤول إليه.
يعرض الكتاب الأحداث ويحاول تشريحها كما يتعرّض إلى الشخصيات التي لعبت دورها منذ أحداث شتاء 2011 التي جاءت في سياق ما سمّي “الربيع العربي”، ثمّ محاولة اغتيال علي عبدالله صالح في الثالث من حزيران – يونيو 2011 في مسجد النهدين الواقع داخل حرم دار الرئاسة الذي كان يمارس الرئيس السابق منه صلاحياته كرئيس للجمهوريّة اليمنيّة.
يكشف البيضاني تفاصيل كثيرة عن الأحداث التي رافقها طوال سنوات في كتابه الذي يتضمن ثلاثة فصول. يتطرق الفصل الأوّل إلى الخلفيات الثقافية والسياسية والتاريخية للحدث اليمني. يتحدث الفصل الثاني عن أبرز اللاعبين في الحرب خلال العقد الأخير. بين هؤلاء الحوثي وحزب المؤتمر الشعبي العام الذي أسّسه علي عبدالله صالح والحراك الجنوبي. يتطرّق في هذا المجال إلى دور طارق محمد عبدالله صالح، ابن أخ علي عبدالله صالح الذي يواجه الحوثيين على جبهة الحديدة منذ ما يزيد على أربع سنوات. أمّا الفصل الثالث فإنّه يعالج المواقف الإقليميّة والدوليّة تجاه الأزمة اليمنيّة وتدخلات قطر وتركيا والمجتمع الدولي والأمم المتحدة.
عنوان الكتاب “باب الردى” مأخوذ من قصيدة للشاعر اليمني الأكثر شهرة، هو الراحل عبدالله البردوني. يقول البردوني في قصيدته “الفاتحو باب الردى لا يملكون الآن قفلا”. يقول العنوان الكثير وهو يعكس بصدق حال الضياع التي تواجه كلّ من يحاول التنبؤ بمستقبل اليمن.
بدأت الحرب في اليمن في 2011. كان الصراع قبل ذلك على كلّ اليمن وهو ما حصل في حرب صيف 1994 التي سمّيت حرب الانفصال. ما يميّز انفجار 2011 هو أن بدايته كانت في صنعاء التي انقسمت أحياؤها بين قسم يسيطر عليه علي عبدالله صالح وقسم آخر صار تحت سيطرة خصومه، في مقدّم الخصوم كان الإخوان المسلمون الذين عملوا ضمن إطار حزب التجمع اليمني للإصلاح. بعد الذي حصل في شتاء 2011، انتقل الصراع في اليمن إلى صراع على المركز، أي على صنعاء التي خرج منها الجميع وبقي الحوثي وحده فيها ابتداء من الحادي والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014. حجم التغيير كبير. إنّه بمثابة عودة إلى ما قبل السادس والعشرين من سبتمبر 1962 تاريخ إطاحة الحكم الإمامي…
تغيّر المشهد اليمني بعد 2011 وبلوغ المعارك حي الحصبة الذي فيه منزل الراحل الكبير الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، زعيم حاشد القبيلة الأكثر تماسكا ونفوذا في اليمن. في عشر سنوات تغيّر كلّ شيء في اليمن، بما في ذلك دور القبيلة الذي كان دورا محوريا، خصوصا في الشمال. من كان يحسب يوما أن الحوثيين يمكن أن يقيموا كيانا خاصا بهم، عاصمته صنعاء، وأن يتحولوا إلى لاعب أساسي ليس في اليمن فحسب، بل في منطقة تتجاوز اليمن؟
ما أقدم عليه البيضاني، من خلال كتابه الجديد، مغامرة أخرى تستهدف المساعدة في فكّ ألغاز اليمن. إنّه بلد في غاية التعقيد يعجز من زاره عشرات المرات عن سبر كل أغواره. كل ما يستطيع المرء، الذي دخل في تفاصيل اليمن، قوله أنّه كلما عرف البلد… كلّما أدرك كم إنه يجهله!
هنا تنتهي المقدّمة. ما لم ينته هو الأسئلة المرتبطة بما سيؤول إليه اليمن الباحث عن صيغة جديدة لم يتحدّد بعد أيّ من معالمها باستثناء أن اليمن الذي عرفناه قبل الوحدة وبعدها صار من الماضي…
*إعلامي لبناني