شبكة “حقاني” الحوثية!

الحديث عن واقع ما بعد بروز النماذج الأصولية التي انحدرت من الجبال يقود للتساؤل حول مستقبل الجماعتين اللتين لا يبدو صعودهما في منأى عن اتهامات توجه لدوائر غربية. 

الكثير من أوجه التشابه يمكن رصدها بين الحالتين اليمنية والأفغانية، سواء من حيث تعقيدات المشهد أو وعورة التضاريس والتركيبة السكانية والثقافية التي جعلت من البلدين كما يقال مقبرة للتدخلات الخارجية، ولكنها في ذات الوقت مقبرة لأهل البلدين الغارقين في الصراعات القبلية، والتقلبات الأيديولوجية، والتداخلات الإقليمية، والدولية. 

وكما وصفت أفغانستان بأنها “مقبرة الإمبراطوريات”، فقد وصف اليمن كذلك بأنه “مقبرة الأناضول”، وفي كلتا الحالتين شعرت جميع الأطراف، سواء التي جاءت بدعوة أو دون دعوة، أنها تورطت في نزاع بلا محددات وتم جرها لحقل ألغام لا يمكن معه التقدم إلى الأمام وليس من السهولة مغادرة هذا الحقل المثقل بالفخاخ! 

وقد أعادت مشاهد اجتياح عناصر طالبان خلال الفترة الماضية العاصمة الأفغانية كابول، مقابل انهيار مفاجئ وتلاش صادم لمظاهر الدولة الهشة، ذكرى اجتياح الحوثيين لصنعاء في سبتمبر 2014، بشكل مشابه تماما، كما تطابقت بعض مشاهد ممارسات الجماعتين إلى حد كبير ومن ذلك اعتداء عناصر طالبان على طالبات الجامعة في كابول لإجبارهن على ارتداء النقاب التقليدي. مشاهد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بالتوازي مع مشاهد اقتحام الحوثيين للأعراس في صنعاء والاعتداء على المغنين الذين يشاركون في إحياء مثل هذه المناسبات الاجتماعية بالعزف والغناء والرقص الشعبي. 

وخلف هذه المظاهر من التشدد التي تتشابه فيها الجماعتان الأصوليتان، على الرغم من انحدار إحداهما من خلفية سنية والأخرى من خلفية شيعية، توجد العديد من القواسم السياسية المشتركة في مسيرة الحركتين المسلحتين، فقد خاض الحوثيون ست حروب في مواجهة الدولة بين عامي 2004 و2010 وخاضت طالبان حربا طويلة في مواجهة الحكومة المسنودة من الولايات المتحدة والغرب، قبل أن تنهار الحكومات الشرعية المعترف بها دوليا تحت وطأة الفساد وسوء الإدارة والصراع السياسي الداخلي، ليبزغ نجم جماعتي الحوثيين وطالبان اللتين كانتا تلوذان بالجبال وتترقبان الفرصة السانحة والتحولات المتوالية للانقضاض على كيانات الدولة ومؤسساتها، مستعينتين بمبدأ “المطاولة” الأصولي المنشأ الذي يقوم على النفس الطويل في تحمل تبعات وأعباء وتكاليف الصراع. 

وبعيدا عن الخوض في الملابسات والتفاصيل التي أحاطت بوصول طالبان أو الحوثيين في النهاية إلى كابول وصنعاء، إلا أن الحديث عن واقع ما بعد بروز هذه النماذج الأصولية التي انحدرت من الجبال إلى القصور الرئاسية، يقود لطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل هاتين الجماعتين اللتين لا يبدو أن صعودهما في منأى عن الاتهامات التي توجه لبعض الدوائر الغربية حول رغبتها أو ربما دورها في إعادة إحياء نماذج متطرفة من الإسلام السياسي على حساب الدول الإسلامية المعتدلة، وهو ما يجعل من طالبان نسخة سنية من الدولة الإسلامية التي نشأت في إيران بعد أن حطت طائرة فرنسية في العام 1979 في مطار طهران الدولي تقل على متنها الخميني الذي بدأت مع عودته قصة تصدير الثورة الإسلامية وما رافقها من تداعيات أصولية مازالت مشتعلة حتى اليوم. 

وفي حصيلة الصراع الأفغاني واليمني يمكن القول إن طالبان استطاعت بعد حرب استمرت لقرابة عقدين أن تقنع المجتمع الدولي بأنها أمر واقع يتحتم على العالم التعامل معه والتعايش مع سوءاته، وهو ذات الأمر الذي يراهن عليه الحوثيون اليوم لتكريس الواقع الذي فرضوه بقوة السلاح على الأرض، مستعينين بضعف خصومهم المحليين وارتباك الإقليم والعالم أمام سيل التحولات المتسارعة التي تفاقمت مع قدوم الإدارة الأميركية الجديدة التي لا يبدو أنها تمتلك في قاموس سياستها الخارجية سوى تكتيك وحيد بات مثارا للسخرية والتندر، يتمثل في الانحناء أمام تعنت الجماعات المسلحة كما حدث في اليمن وأفغانستان والانشغال بابتزاز الدول والحكومات المعتدلة التي يفترض أنها حليفتها في المنطقة. 

وأمام هذا الكم من المشتركات بين الجماعات الأصولية المسلحة على كافة توجهاتها، تستوقفني كثيرا ملامح الصراع الهادئ الذي يبدو أنه نشأ أسرع مما كان متوقعا بين جناحين في حركة طالبان الأفغانية، الأول تقليدي ترعرع في الجبال على ذات المبادئ التي تأسست عليها الحركة في مطلع التسعينات من القرن الماضي، والآخر خضع كما يقال لتعديلات في شفرته الوراثية وهو الجناح الذي مر بمرحلة غوانتنامو قبل أن ينتهي به المطاف في قصور الدوحة حيث خضع قادته لدورات في البراغماتية السياسية والعلاقات العامة والتجميل الإعلامي، والذي يبدو أن حظه لم يكن وافرا كما كان متوقعا بعد الإعلان عن حكومة طالبان التي سيطر على زمام الأمور فيها تيار شبكة حقاني المتشددة التي لا تؤمن بمبدأ الميكيافلية السياسية التي أرادت واشنطن حقنها في وريد الجماعة عن طريق التيار القادم من الدوحة على متن الطائرة الأميركية التي حطت في مطار قندهار. 

ويمكن تفهم أبعاد ومآلات هذه الحالة من خلال قراءة النموذج المرادف الذي نشأ في اليمن بعد الانقلاب، حيث شهدت الجماعة الحوثية صراعا مماثلا بين التيار الأيديولوجي القادم من جبال صعدة وبين التيار الذي نشأ في “طيرمانات” صنعاء مدفوعا بالرابطة السلالية والعرقية في انتمائه للحوثية، والذي لا يرى مانعا في ترديد شعارات الحوثي والاستماع للأغاني الصنعائية الشعبية بصوت حمود السمة وحسين محب في ذات الوقت، وهو التيار الذي يبدو أنه خسر كذلك المعركة أمام سطوة شبكة “حقاني” الحوثية التي باتت تفرض قواعدها الصارمة في مناطق سيطرة الحوثيين، بطريقة أقرب ما تكون لما تمارسه طالبان بحق المجتمع الأفغاني. 

Exit mobile version