أكثر من أي وقت سبق، تستحق ثورة 26 سبتمبر التحية.
في الدوي الهائل للهزيمة توجب الاحتفال بذكرى النصر العظيم الذي أُنجز في ذلك اليوم العظيم من سبتمبر.
كل هزيمة تجلي النصر، وكل انكسار يعيد خلق الصعود والتقدم، يعيد خلقه في وجداننا، وفي أمانينا، وفي تطلعنا إلى انتزاع الحرية والكرامة مرة ثانية وثالثة وعاشرة.
الدوي الكبير إعلان صارخ على أننا في الهزيع الأخير، وأن الفجر سوف ينبثق من جديد، حتى وإن طالت مدة الهزيع، وأخذ التاريخ دورة واسعة.
هكذا شاهدنا احتفالات اليمنيين هذا العام بذكرى ثورة سبتمبر، على نطاق لم تشهده السنوات الماضية.
احتفل الشعب في القرى القصية والمهاجر النائية.
فوسط الهزيمة المدوية، وفي قلب الظلام الدامس، تجلى سبتمبر ناصع الإشراق بهي الطلعة.
نتذكر أي ظلام انبجس منه النور.
شعب حافٍ وعارٍ، جائع وجاهل، أدمن الأئمة ترويعه وإذلاله.
يكد الفلاح في زراعة الأرض، ويأتي المثمِّر بتقدير الغلة قبل حصادها، لكي يذهب أكثرها إلى مخازن الإمام وخزائنه.
لا.. عليَّ أن أتوقف ولا أمضي، لأنني إذ ادعيت القدرة على وصف حياة اليمنيين قبل ثورة سبتمبر، فإنما أتجرأ على الحقيقة، وأنقلها ناقصة.
ولست وحدي، فإن كل ما كتب لم يكشف البؤس عاريًا، مثلما كان.
بل إن البؤس كلمة تضمر أكثر مما تفصح، وتخفي أكثر مما تفضح. حتى كلمات مثل المهانة والذل والوجع والحرمان، كل المفردات تعجز عن تصوير حال الشعب اليمني في عهود الاستبداد والظلام.
ولقد طالت تلك العهود كثيرًا، ثم جاءت الثورة وأشرقت الشمس.
لقد حررت ثورة سبتمبر الفلاح من سطوة وجبروت المثمِّر والبورزان والطائفي، وأنقذته من الخطاط و… و… مفردات لا تعرف معناها الأجيال التي نشأت في عصر الثورة.
لكن الثورة أيضًا حررت طائفة العبيد، وذلك سفر منسي في تاريخها الحافل.
فقد كانت هناك بالفعل عبودية داخل العبودية.
وكان بعض أفراد الطبقة الحاكمة وكبار الإقطاعيين يملكون عبيدًا بالمعنى الحرفي للكلمة.
وفي 15 أكتوبر 1962 أصدر الرئيس عبدالله السلال قرارًا بإلغاء الرق وتحريم العبودية.
لم تكن قد مرت سوى أيام معدودات على إعلان الثورة، والنظام الجديد لم يرث منظومة قانونية ولا خبراء في القانون والإدارة، وبالنتيجة لم يصدر هذا الإجراء الثوري في قانون يبين كيفية إدماج المحررين من العبودية في المجتمع، وتأهيلهم، واستثمار قوة عملهم في التنمية الوطنية.
إن البدائية التي ورثتها الجمهورية تظهر في صورة قرار الرئيس السلال المنشورة في كتب وثقت للثورة، فالقرار مكتوب بخطه في سطر ونصف، مذيلًا بإمضائه وتاريخه.
مع هذا، فإن ثورية القرار أحدثت صدىً هائلًا خارج حدود اليمن، حتى ليجوز القول دون ادعاء إن ثورة سبتمبر حررت العبيد في المملكة العربية السعودية.
هناك في البلد المجاور سارع النظام إلى إجراء مماثل، فأصدر مرسومًا يلغي الرق ويحرم العبودية.
وفي اليمن، لم يجد النظام الجديد صعوبة في تنفيذ قرار السلال، رغم انشغاله في حرب الدفاع عن الثورة، وعجزه عن إحكام سيطرته على كامل تراب البلاد.
ولقد تيسر التنفيذ لأن ظاهرة العبودية كانت طاغية في مناطق انتشار الملكيات الزراعية الكبيرة، خصوصًا في تهامة.
إن هذا الإنجاز الهائل لا يمنعنا من الاعتراف بأن بعض التحايل قد حصل.
ففي نطاق محدود احتفظت بعض الأسر التقليدية من خدام وكلاء الإمام، بالعبيد في إقطاعياتها بتهامة والمرتفعات المحاذية لها. وفي العاصمة ظلت بعض الإماء في منازل أبناء كبار موظفي الإمام، وبينهم من اشتهر بالدعوة إلى الديمقراطية، وانخرط في منظمات داعمة لحقوق الإنسان.
عندما سمعت، قبل أكثر من 20 سنة، عن وجود العبدة العجوز في منزل ذلك المثابر في نقد الديكتاتورية، لم يخالجني الشك، فقد هيأت لي المعايشة رؤية الوحش الكاسر وراء رقاقة الحمل الوديع.
لكن الذهول أصابني اليوم فقط.. فقد حفزتني الحفاوة الشعبية الزائدة بعيد الثورة، إلى الكتابة عنها، وأردت أن أمر مرورًا عابرًا على أهم قرار ثوري، ورجعت إلى “جوجل” قاصدًا أن أستعيد مضمونه، وكانت الصدمة.
فتحت على تحقيق للصحفيين أحمد الواسعي وأصيل سارية، نشرته في مارس 2017، شبكة “أريج”، بعنوان الرق مايزال حاضرًا في اليمن. وفيه أن وزارة حقوق الإنسان أصدرت تقريرًا في 2010، رصد أكثر من 50 حالة رق في شمال غرب اليمن. أعقب هذا قضية “العبد قناف بن الجارة سيارة”، حيث كشف ناشطون قيام رئيس محكمة كعيدنة (شمال غرب اليمن) بالتصديق على صك بيع وشراء أحد العبيد.
زار الصحفيان مناطق عديدة في محافظتي حجة والحديدة، والتقيا أشخاصًا من سلالات العبيد المحررين، اشتكوا بأنهم يعاملون باحتقار من قبل من سموهم العرب والسادة!
فهم يطلقون عليهم وصف عبيد بني فلان تبعًا لما كان عليه الأجداد.
كما اشتكوا من قائمة محرمات تبدأ بالمنع من تملك الأراضي، ولا تنتهي بتحريم الزواج من بنات العرب والسادة!
بجملة واحدة اختصر أحدهم المأساة: “إحنا حاصلين على حق واحد.. يوم الانتخابات روح صوت لفلان”.
والصحفيان عثرا على حالة عبودية حقيقية على الحدود مع السعودية؛ شاب في الـ28 يمتلكه بالوراثة أحد المشائخ.
لا شك من أن دوشة الحرب لم تترك للمشير السلال وقتًا للتفكير بتعزيز قراره بإجراءات ثورية تحقق التحرير المعنوي بعد التحرير المادي للطائفة التي سُحقت طويلًا، بما يوجب تجريم أي انتقاص أو احتقار بالقول أو بالفعل.
وبعد السلال فقد بات استكمال تحرير العبيد السابقين مستبعدًا تمامًا.
غير المستبعد أن الذين انحرفوا بالثورة بعد 5 نوفمبر 1967، تمنوا لو يقدرون على مسح قرار السلال.
ولعلهم فكروا وقدروا واستقر في يقينهم أن العالم كله سوف يصرخ في وجه الخزي العارم.
إن سطرين بخط المشير السلال قلبا صفحات سوداء كثيرة في تاريخ اليمن والمملكة العربية السعودية.
ولئن بقيت بعض الخدوش في الصفحة الجديدة، فإن ذلك من طبائع الأشياء، ومما يلزم بالمثابرة على التصحيح والتطوير باستمرار.
وأعتقد دون أدنى شك أن إبراهيم الحمدي، في زحمة القضايا التي تصدى لها، لم ينتبه ولم يلاحظ تلك الخدوش.
ولو أن عهده طال وحكمه استمر، لرأى وقدر وأصلح.
إن السطرين اللذين كتبهما السلال، وما أسفر عنهما، يكفي بأي معيار لوضع ثورة 26 سبتمبر في مراتب الثورات الكبرى في التاريخ، لأن العبودية لم تكن مجرد إذلال للمستعبدين وحدهم، وإنما كانت أكثر من ذلك عارًا في جبين اليمنيين برمتهم.
لقد سجل التاريخ بحروف من الذهب اسم سبارتاكوس، قائد ثورة العبيد في روما، ومحمد علي يلتفت بالقدر الكافي إلى الإنجاز الكبير للمشير عبدالله السلال في تحرير العبيد في اليمن والسعودية.
بعد هذا، فقد اقتحمت ثورة 26 سبتمبر الطريق لتحرير الجنوب، فأنشأت مصلحة تختص بشؤون أبنائه، تولاها قحطان الشعبي، قبل أن يعين مستشارًا للسلال لشؤون الوحدة، ومن بعده أُسند المنصب لمحمد علي الأسودي الذي خرج لاجئًا إلى القاهرة بعد 5 نوفمبر.
وفي فبراير 1963 أعلن في صنعاء عن قيام الجبهة القومية لتحرير الجنوب، برئاسة قحطان الشعبي، من حركة القوميين العرب، ونائبه ناصر السقاف، ممثل الجبهة الناصرية.
وتقاطر إلى تعز أبناء الجنوب للالتحاق بمعسكرين للتدريب أقيما في الحوبان وصالة.
كما ابتعث الكثير من القادة والكوادر العسكرية للدراسة والتدريب في مدرسة الصاعقة في مصر.
شكلت تعز مركز القيادة الرئيسي، بينما قاد الجبهة الأمامية في الضالع وردفان عبدالله المجعلي الذي أصبح قائدًا للتنظيم الشعبي الثوري بعد انقسام الجبهة القومية في 1966.
وكان السلاح والرجال يتدفقون إلى الجنوب من تعز ومن إب عبر قعطبة.
وفي تعز ألف الناس وجوه بعض من تولوا مناصب عليا بعد الاستقلال، وأبرزهم الرئيس سالم ربيع علي الذي كان مع آخرين ضيوفًا على جلسات شاي في صيدلية العطاب المشهورة عند سور مدرسة ناصر في شارع 26 سبتمبر.
كان ملحوظًا الحضور الكثيف في تعز لأبناء الجنوب، بزيهم المميز. وكانت مدارس المدينة تكتظ بأولادهم، حتى إنه عقب الاستقلال شغرت مقاعد طلابية في المدارس أتاحت لبعض المتفوقين الانتقال من الصفوف الدنيا إلى العليا.
بالتأكيد سبقت 14 أكتوبر إرهاصات وانتفاضات عديدة، لكن الثورة الشاملة لم تكن متاحة بدون ثورة 26 سبتمبر وقيام النظام الجمهوري، ثم دور مصر في دعم الثورتين.
ولقد كان مقدرًا أن يؤدي رحيل الاستعمار إلى وحدة فورية بين الشمال والجنوب، لولا حدثين تركا أثرًا سيئًا في مسار التاريخ اللاحق لليمن:
الأول انقسام الجبهة القومية إلى فصيلين انخرطا في حرب أهلية، قبل أن تتعمد بريطانيا تسليم الاستقلال للفصيل ذي النزعة اليسارية.
والثاني نجاح اليمن الجمهوري في صنعاء بإطاحة الجناح المتصلب وطنيًا ذي التوجه القومي، برئاسة المشير السلال.
وهكذا تسلمت الحكم في عدن قيادات شابة طائشة ومتهورة ظنت أنها تستطيع حرق المراحل من غير قواعد ورواحل مادية تمكنها من اجتياز التاريخ إلى عصر الاشتراكية، فاختصرت فكرة الثورة في العنف الثوري.
حدث ذلك بعد أسابيع قليلة من أيلولة السلطة في صنعاء إلى عناصر متجهمة قادمة من أقبية الماضي، وكانت هي الأخرى تتصرف بطيش، وإن لم تغلف عنفها برداء ثوري صارخ الألوان.
ولقد انزلق النظامان إلى حرب سياسية وإعلامية تخللها صدام بالسلاح في 1972 و1979، فصلت بينهما استراحة قصيرة في وجود إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي.
أدى هذا الصراع إلى تأجيل الوحدة حتى مايو 1990.
غير أنه في الطريق إليها فاتت على اليمن فرص ثمينة، وخسرت رجالًا من أخلص وأكفأ أبنائها.
وهم لم يذهبوا في المواجهة بين النظامين، بل راحوا ضحايا قسوة النظام في نطاق سلطته، وبعضهم استهدفته الانقلابات.
على أنه، رغم الانكسارات والصعود والارتداد في حركة التاريخ، فإن اتجاهه العام كان إيجابيًا، فلم ترجع الحياة إلى انحطاطها في زمن الإمامة وعهد الاستعمار.
ويكفي ازدهار التعليم وتخريج عشرات الآلاف من الجامعات والمعاهد العليا.
هؤلاء الذين يحملون المشاعل جيلًا بعد جيل، وهم الذين سيغذون الخطى من أجل أن يستعيد سبتمبر وأكتوبر روحيهما، وفي سبيل أن يبقى اليمن واحدًا موحدًا.
- عن المشاهد نت