اقتصاد الحرب شريان يغذي الصراع في اليمن ويرسم خارطة الاصطفاف “صراع على السلطة وتقاسم الثروة وتبادل المنافع المشتركة”
- يحذّر خبراء اقتصاديون وسياسيون من تعاظم اقتصاد الحرب في اليمن وانعكاس دوره على مسار الصراع العسكري وإسهامه في إطالة أمده، إلى جانب تأثيره العميق في إعادة رسم خارطة القوى والاصطفاف في المشهد اليمني على حساب معاناة الشعب، الذي باتت ثرواته تُنهب ويتقاسمها المنخرطون في الصراع الذين يختلفون في الحرب، لكنهم يتفقون على المصالح الاقتصادية.
يشهد معسكرا الانقلاب والشرعية في اليمن صراعا محموما للسيطرة على القطاعات الاقتصادية والمالية الواعدة، وخصوصا قطاعات المال والصرافة والنفط والاتصالات التي تتصدر قائمة المصادر الأكثر إدرارا للأموال والأقل كلفة.
وتشير مصادر يمنية إلى نشوء مراكز قوى في كل من المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين والحكومة الشرعية، تضم شخصيات نافذة تهيمن على هذه القطاعات أو تسعى لإحكام السيطرة عليها، في حين نشأت مناطق مشتركة تتقاطع فيها مصالح شخصيات نافذة من الطرفين، تعمل على ديمومة الصراع والحفاظ على مصالحها التي نشأت في ظل هذا الوضع الاقتصادي والسياسي المعقد والمرتبك.
وتُحكِم قيادات سياسية وعسكرية حوثية من الصف الأول سيطرتها على تجارة المشتقات النفطية واستيرادها، ثم إعادة بيعها عن طريق أسواق سوداء تسيطر عليها قيادات ميدانية من الصفين الثاني والثالث، في الوقت الذي تهيمن فيه قيادات أخرى على المؤسسات العامة والخاصة، من خلال تعيين مشرفين قضائيين وفرض إتاوات تحت مسمى “المجهود الحربي”.
ومع انتهاء الصراع تقريبا على حصص اقتصاد الحرب في مناطق سيطرة الحوثيين، وتوزع خارطة النفوذ بين قيادات الجماعة، تؤكد مصادر يمنية اشتعال صراع محتدم بين قيادات نافذة في الشرعية للاستحواذ على قطاعات اقتصادية ومالية لم يحسم الصراع عليها، وفي مقدمتها قطاع الاتصالات الذي يشهد حربا هي الأعنف بين قيادات سياسية كبيرة تسعى لاستحداث وتفعيل شركات اتصالات في المحافظات اليمنية المحررة، مستغلة الحاجة إلى إنشاء مثل تلك الشركات أو تحريرها من نفوذ الحوثيين في صنعاء لدواع أمنية وعسكرية.
وكشفت المصادر أن الصراع لم يحسم بعد في مناطق الشرعية، في ظل عدم وجود طرف قادر على حسم القرارات المهمة في هذا الجانب، واستمرار كل طرف في تعطيل مصالح الطرف الآخر أو البحث عن حلفاء لحسم الخلاف حول هذا الملف.
وتؤكد المصادر لـ”العرب” نشوء مناطق اقتصادية مشتركة في قطاعات النفط والاتصالات والقطاع المالي والمصرفي على وجه التحديد، تضم شخصيات محسوبة على الشرعية وأخرى تتبع الحوثيين، لتبادل المنافع والمصالح واستمرار بعض القطاعات في العمل تحت مظلة النافذين من الطرفين.
ووفقا لخبراء اقتصاديين، ساهم اقتصاد الحرب المتعاظم في اليمن في تعميق حالة الانهيار الاقتصادي والمالي، في ظل غياب وضعف المؤسسات الحاكمة لهذه القطاعات، إضافة إلى دور هذا الاقتصاد في نشوء طبقة من الأثرياء الذين استفادوا من حالة الفوضى التي أنتجتها الحرب وتداعياتها السياسية والاقتصادية.
وفي تصريح لـ”العرب” اعتبر الباحث الاقتصادي اليمني عبدالحميد المساجدي أن العامل الاقتصادي في الحرب أصبح ركنا أساسيا لاستدامتها وإطالة أمدها، من حيث إعادة تشكيل مراكز القوى الاقتصادية والمالية، ناهيك عن تحول الصراع إلى صراع مزدوج على السلطة و”الثروة التي أصبحت مقصد القوى المتصارعة، وهي بمثابة الصاعقة التي تفخخ كل جولات الصراع”.
ووفقا للمساجدي، فقد “تأسست على ضفتي الصراع اليمني منظومات وشبكات مصالح يتجمع حولها المنتفعون، ليصل الأمر إلى عقد صفقات ثنائية تتضارب في المصالح السياسية وتلتقي في مصالحها الاقتصادية والمادية، فمواضيع الاتصالات والنفط، وبعض الايرادات الهامة تبقى محل استفهام، غير أن ما تحت الطاولة يؤكد أن تجار الحرب يتفقون على مصالحهم، بعيدا عن الصراع العسكري في الجبهات”.
ويشير المساجدي إلى أن “قطاعي النفط والصرافة يعدان أهم المجالات التي تنمو وتترعرع فيها طحالب تجار الحروب في طرفي الصراع، ابتداء من قراري تحرير تجارة واستيراد وتوزيع المشتقات النفطية، لدى الحوثيين والشرعية، وقرارات تعويم سعر العملة الوطنية، وكلاهما قرارات مرتبطة ببعضها أسهمت في تجميد القطاع المصرفي وإنشاء قطاع مواز تسهل معه عملية غسيل الأموال، وشرعنة الأموال المنهوبة او المتحصل عليها من عمليات الإثراء غير المشروع”.
وتابع “هناك خلل واضح في عملية توزيع الثروة كأحد مظاهر اقتصاد الحرب القائم على استئثار جماعات وشخصيات بنسبة كبيرة من موارد البلاد، حيث تتحصل جماعة الحوثي على موارد هائلة من الجبايات والإتاوات والأموال المنهوبة، في مقابل إفقار المجتمع، بحيث لم يعد أمام الغالبية سوى منفذ واحد إجباري للحصول على فرصة عمل وهو الانخراط في جبهات القتال”.
ولفت إلى أن جماعة الحوثي أسست إمبراطوريات اقتصادية وشركات كبيرة عابرة للحدود، مقابل تحجيم ومحاربة البيوت والشركات التجارية، وإبقائها تحت رحمة وضغط الإتاوات الحوثية، مشيرا إلى أن حتى مصالح من تبقى من القطاع التجاري في مناطق الحوثي أصبحت تمر عبر الجماعة، وهو ما يضطرها إلى الخضوع والانقياد والانخراط في المنظومة الاقتصادية الجديدة، ويتم استخدامها لتفادي أي رقابة دولية على الجماعة في تنفيذ التعاملات المالية أو استيراد الوقود والسلع الغذائية.
وعن الاستراتيجية الحوثية في تحريك اقتصاد الحرب، أضاف “تم توظيف الأموال المتحصلة من الجبايات والإتاوات والأموال المنهوبة في ثلاثة مسارات، يتعلق الأول بإنشاء شركات وإمبراطوريات اقتصادية لتبييض هذه الأموال وإضفاء الشرعية عليها، فيما وظفت الجماعة جزءا من تلك الأموال في عملية الكسب السياسي، والسيطرة على الشخصيات والوجاهات في مناطق نفوذها، ناهيك عن الإنفاق على عمليات الحشد والتعبئة، وتنظيم الاحتفالات والفعاليات الطائفية، وفي المسار الثالث فإن جزءا من الأموال يتم إنفاقه لشراء الذخائر والأسلحة والوقود وتموين جبهات القتال”.
ويكشف المساجدي عن وجود صراعات محمومة كذلك في جبهة الشرعية حول الموارد، حيث تتعدد أشكال هذه الصراعات، إذ هناك جناح يسعى بكل جهد لإفشال عمل مؤسسات الدولة المتعلقة بإدارة الملف الاقتصادي، لاستمرار احتكار استيراد المشتقات النفطية، أو الاستئثار بعقود تزويد محطات الكهرباء بالوقود، أو احتكار عقود الكهرباء المؤجرة، وإبقاء مصافي عدن متوقفة لاستمرار الاعتماد كليا على الوقود المستورد.
وارتبطت مصالح هذا الفريق مع فريق سياسي يعبّر عن المصالح المشتركة لكليهما، ويدافع عنها ويضغط في ظاهره بمطالب سياسية، وفي حقيقته لتحقيق مكاسب نفعية اقتصادية ومادية، مدفوعا بالمصالح التي تم تشبيكها مع شركات ورجال أعمال بنوا ثرواتهم أو ضخموها خلال فترات الحرب، فيما هناك فريق آخر يسعى للإبقاء على الوضع الاقتصادي كما هو عليه في صف الشرعية، كونه مستفيدا من الاستئثار بموارد السلطات المحلية سواء في تعز أو مأرب أو شبوة، ومن هناك تشكلت خارطة السيطرة بناء على ارتباطها بتجار الحروب.
ويشير الباحث السياسي اليمني فارس البيل إلى انعكاس اقتصاد الحرب على المشهد السياسي اليمني بصورة لافتة، موضحا أن “البحث عن المصلحة في ظل غياب الدولة، والرغبة الجامحة في الحصول على المنفعة وترتيب الوضع الشخصي في ظل انهيارات مستمرة واضطراب المشهد السياسي، جعلا الكثير من المنخرطين في الصراع السياسي يضعون مواقفهم رهن مصلحتهم، ومن ثم فإن القوى السياسية تعمل بذات النهج”.
ويؤكد البيل في تصريح لـ”العرب” أن اقتصاد الحرب أسهم بدرجة كبيرة في انبعاث الصراع وتمدده وتعددت جبهاته واتجاهاته.
وعن دوافع وخلفيات نمو هذا الاقتصاد، قال إن “المنفعة الذاتية صارت هي المهمة، ففي ظل خفوت الأمل بمشروع وطني جامع يعيد تأطير الناس والعمل السياسي في إطار الدولة ومؤسساتها، بغية خدمة الوطن والشعب بأجندات وطنية خالصة، فإن دخول الكثير من اللاعبين في المشكلة اليمنية حفز هذه القوى والأفراد على العمل بأي أجندة مهما كانت غير وطنية وبها ضرر بالغ للدولة والشعب والهوية، من أجل المصلحة وترتيب المستقبل الشخصي وحسب”.
ويشير البيل إلى أن “حالة التنازع الخارجي خلقت اصطفافا داخليا وهو بدوره خلق تكتلات هامشية داخلية، وكلها تدور في فلك المصلحة والذاتية، مما أسهم بدرجة أساسية في تعقيد الحل، وتعدد أطراف المشكلة وخلق خارطة قوى جديدة متشابكة ومتنازعة في آن، كلها لا تمتلك مشروعا وطنيا خالصا وجامعا، وتتحرك أغلبها في إطارات تكتيكات مؤقتة تحكمها المصلحة وقلة التقدير”.