أخبار العالماخبار الشرعيهاخبار المقاومةالحوثي جماعة ارهابيةالرئيسيةتقاريرمحليات

استغلال المدارس الدينية في تأجيج حرب اليمن


مركز مالكوم كير- كارينغي للشرق الأوسط- ميساء شجاع الدين:

تشترك السلفية والحوثية في رفضهما للاجتهاد والاختلاف واعتمادهما على النصوص المقدسة فقط

الديناميكية الطائفية زادت من أهمية الولاءات الدينية في اليمن لتصبح عوامل أساسية في الصراع

لعبت المدارس الدينية أدواراً مهمة في تحشيد واستقطاب المقاتلين لدى أطراف الصراع

كانت المعاهد العلمية خط تعليمي موازي للنظام الحكومي سيطر عليه الإخوان المسلمين واصبحت أحد أهم آليات الاستقطاب وتلقت تمويلها من الحكومتين اليمنية والسعودية

العقيدة الإيديولوجية للحوثي تطابقت مع الزيدية في القضايا الرئيسية وخالفتها في قضايا أخرى مثل فكرة القائد العلم

في أعقاب الحرب الأهلية في اليمن، باتت المؤسسات الإسلامية مراكز نفوذ أجنبي، ناهيك عن كونها ساحات قتال عسكرية وسياسية. بيد أنها ستبقى تلعب دورًا مهمًا في رسم مستقبل اليمن.

مقدمة


اندلعت الحرب الأهلية في اليمن نتيجة للتوتر السياسي المتصاعد بين مركز الدولة وأطرافها، وكذا تدهور أوضاع اليمن الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومع استمرار هذه الحرب وتوسعها أصبحت المدارس الدينية وسيلة مهمة للتحشيد والتوجيه لدى الأطراف اليمنية المتقاتلة المختلفة ومموليها الإقليمين.
هذا التوتر السياسي غير المسبوق تلا استيلاء حركة زيدية مدعومة من إيران تدعى “أنصار الله” ومعروفة باسم الحركة الحوثية على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014م، ثم العام التالي بدأ تدخل عسكري من قبل تحالف بقيادة سعودية – إماراتية لمواجهة الحوثيين بتوظيف جماعات دينية مقابلة مثل السلفيين وبالنسبة للسعودية يضاف حركة الإخوان المسلمين، هذه الديناميكية الطائفية زادت من أهمية الولاءات الدينية في اليمن لتصبح عوامل أساسية في الصراع اليمني.
في الواقع اللجوء للتحشيد الديني في اليمن سبق الحرب وبدأ منذ كانت اليمن منقسمة لشمال وجنوب، ففي أواخر الستينات صار الشمال يمثل المعسكر الرأسمالي والجنوب يمثل المعسكر الشيوعي. حينها، انتشرت في اليمن الشمالي المعاهد العلمية وهي مدارس دينية للتحشيد ضد الشيوعية، وبلغ هذا التوظيف السياسي للدين ذروته بعد الوحدة اليمنية عام 1990م، ثم اندلعت حرباً أهلية في عام 1994م اصدرت فيها فتوى دينية رسمية تكفيرية من قبل حكومة صنعاء ضد الحزب الاشتراكي في الجنوب (1).
هذه المرة التوظيف الديني في الصراع السياسي تزايد مع تصاعد الصراع الإقليمي- المذهبي، لذا لعبت ولازالت تلعب المدارس الدينية والتعليم الديني أدواراً مهمة في التحشيد السياسي والعسكري بهذه المعركة التي تمثل الطائفية أحد أهم مستوياتها خاصة على مستوى التحشيد للجبهات والقتال.

التداخل المذهبي والمناطقي

ما لا يدركه الكثيرون عند التعامل مع التقسيم المذهبي باليمن، إن هذا التقسيم مناطقي- قبلي بالدرجة الأولى والبعد المذهبي يأتي لاحقاً بالأهمية. فاليمن تنقسم مذهبياً لقسمين كبيرين جزء شافعي (سني) يقدروا ثلثي السكان وجزء زيدي (ِشيعي) يقدر بنسبة الثلث، لكنه في الأصل تقسيم مناطقي وقبلي يسبق حضور الإسلام باليمن.
فالزيود معظمهم يسكن في مناطق ما كان يعرف باليمن الأعلى، ويقصد به الإقليم الجغرافي الذي يقع شمال جبل سُماره على بعد 164.5 كم(100 ميل) جنوبا من العاصمة صنعاء، وهي تشمل أراضي همدان والمقصود بهمدان هو أسم القبيلة التي تسكن تلك المناطق وتنقسم هذه القبيلة لقسمين كبيرين هما حاشد وبكيل. بينما يشكل السنة (الشوافع) غالبية سكان بقية المناطق، موجودين بكل المناطق الساحلية اضافة لوسط وشرق وجنوب اليمن، وتسكن هذه المناطق قبيلة أكبر تسمى مذحج ولها تفرعات عديدة أبرزها مراد في مأرب والعوالق في شبوة اضافة لقبائل كنده بحضرموت (2)، لكن البُعد القبلي في المناطق الساحلية والوسطى ضعيف نسبياً وبالتالي سهل اخضاعها لسلطة الدولة، بينما لا تزال البنية القبلية متماسكة نسبياً شمال صنعاء وبالشرق وبعض المناطق الجنوبية.
إذن يتداخل القبلي والمناطقي مع المذهبي بوضوح باليمن ويشكل البعد القبلي – المناطقي هو لب الصراع السياسي على السلطة باليمن لعقود طويلة، لكن مؤخراً تصاعد البعد المذهبي وبالتالي تزايد توظيف التعليم الديني في الصراع السياسي الأخير نتيجة لتصاعد التدخل الإقليمي وبالتالي لجوء الأطراف المحلية بشكل أكبر وأكثر وضوحاً للتعبئة الدينية، هذا كله أدى لنشوء اشكال جديدة وغير مسبوقة من التعليم الديني بهدف التحشيد العسكري والسياسي.

الصراعات اليمنية وتعريف الهوية

التوظيف الديني الحالي في الصراع ليس بالطارئ لكنه اتخذ ملامحاً مختلفة، ومن هنا مهم معرفة تاريخ الصراع المناطقي في اليمن والذي اتخذ بعد مذهبي ثابت منذ صعود الإمامة الزيدية في اليمن.
تعد الزيدية أحد تفرعات الإسلام الشيعي التي استوطنت اليمن منذ عام 896م عندما سكن الإمام الهادي يحيى بن الحسين مدينة صعدة ومنها انطلق لتأسيس أول دولة زيدية باليمن، لكنها لم تدوم طويلاً وانتهت قبل وفاة الإمام الهادي عام 911م. عقائدياً لا يختلف المذهب الزيدي عن المذاهب السنية، حتى إن البعض أطلق عليه المذهب السني الخامس وظل شائعاً اعتباره مذهب وسطي بين الشيعة والسنة.
بما إن المذهب الزيدي عاش واستمر منفرداً وسط مناطق سنية، فهو لم يتطور فقهياً وعقائدياً ليكون شخصية مذهبية مستقلة عن المذاهب السنية، لذا أبرز ما يميز المذهب الزيدي هو نظريته للحكم. المذهب الزيدي يعتبر الحاكم إمام وهو مسمى ديني يطلق على من يؤم الصلاة، ويشترك في هذا مع بقية المذاهب الشيعية كما يشترط أن يكون الإمام من آل البيت، وطريقة الوصول للحكم حسب المذهب الزيدي هي القتال، فهو المذهب الإسلامي الوحيد الذي يضفي شرعية لقتال الحاكم طالما لم يتصف بالعدل.
هذه النزعة القتالية للمذهب الزيدي تناسبت مع الطبيعة القبلية لمناطق شمال اليمن، خاصة إنها مناطق فقيرة الموارد قياساً بمناطق ما يعرف اليمن الأسفل. ففي المناطق القبلية بالشمال والشرق معدلات الأمطار فيها لا تزيد عن 250 مللي خلال السنة بينما ترتفع بوسط اليمن وغربه حتى تتراوح معدلات الأمطار 600- 800 مللي (3).
من المهم معرفة إن المذهب الزيدي تواجد في عدة مناطق وأسس عدة دول في العصر الوسيط لكنه لم يستمر حتى الزمن المعاصر إلا في شمال اليمن، حيث تتابع الائمة الزيدية في الإعلان عن أنفسهم وحكم صعدة وبعض المناطق المحدودة بين وقت وآخر حتى القرن السابع عشر عندما نجحوا في تأسيس دولتهم التي تحكمت بصنعاء ثم باقي اليمن لفترة دامت قرابة قرن حتى انشق الجنوب (4)، ثم اصبحت الإمامة الزيدية هي المتحكمة بما صار يعرف باليمن الشمالي حتى قيام الجمهورية عام 1962م.
عندما اندلعت ثورة 26 سبتمبر عام 1962م، كانت في الأصل انقلاب عسكري قام به بعض ضباط الجيش اليمني الذي كان زيدي بالكامل ضد الإمامة لإقامة نظام جمهوري، وبدعم مصري التي تدخلت لدعم معسكر الثوار الجمهوري ضد المعسكر الإمامي الملكي المدعوم من السعودية واستمرت الحرب الأهلية بين الطرفين ما يزيد عن سبع سنوات.
من اللافت إن الصراع بين الثورة الجمهورية والنظام الإمامي كان مقتصراً على المنطقة الزيدية بين صنعاء وصعدة، بينما بقية المناطق التي يغلب على سكانها المذهب الشافعي لم تقاوم النظام الجمهوري بل انخرطت جماهيرها ونخبها في حماس ضمن صفوف الثورة.

اليمن الجمهوري

رغم إن الثورة الجمهورية عام 1962 وضعت حداً لحكم الإمامة الزيدية إلا إن كل رؤساء اليمن الجمهوري الخمسة كانوا زيود. كما استمرت الهيمنة الزيدية في الجيش وقوات الأمن، ومن اللافت إنه تم دعم النشاط السني السلفي في شمال اليمن من قبل رؤساء زيود وليس سنة، ويمكن تفسير هذا لأمرين: أولهما: ارتباط الزيدية بفكرة الإمامة مما يقوض شرعية الرؤساء الجمهوريين خاصة إنهم من خلفيات غير هاشمية (آل البيت). ثانيهما: كان شمال اليمن يدور في فلك السعودية بشكل ما لأنها تحولت لدولة حاجز بين السعودية ودولة اليمن الجنوبي الشيوعية، حتى بعد الوحدة اليمنية عام 1990م، احتفظت النخبة الشمالية القبلية الزيدية بهيمنتها بعد هزيمة الحزب الاشتراكي في عام 1994م. إذن استمرت الهيمنة الزيدية باليمن لكن بتعريفات مناطقية وقبلية وليس مذهبي- زيدي.


السيطرة الزيدية- الشمالية استمرت حتى عام الانتفاضة الشعبية عام 2011م التي أطاحت بالرئيس علي عبد الله صالح في فبراير 2012م. لحق صالح الرئيس عبدربه منصور هادي الذي كان اول رئيس غير زيدي يحكم اليمن من صنعاء، لكن هذا لم يستمر طويلاً حيث أطاح به تحالف الحوثي- صالح في يناير 2015، ثم يفر الرئيس هادي لعدن في فبراير 2015.
على الرغم من اعتماد صالح على القبيلة خلال رئاسته الطويلة (1978-2021)، لكن فترة حكمه شهدت تغييرات اجتماعية هائلة أدت بشكل كبير لإضعاف القبيلة. هذا يعود لعدة أسباب: أولها: حاول صالح يستأُثر بالسلطة من خلال السيطرة واضعاف كل القوى الاجتماعية والسياسية التي قد تنافسه. لذا استخدم أموال ونفوذ الدولة لتقويض سلطة المشايخ القبليين التقليدين ليحل محلهم مشايخ موالين للسلطة. ثانيها: التحديث والتنمية في اليمن ظلت قاصرة على المدن الرئيسية حيث يعيش المشايخ القبليين برفاهية في المدن بعيداً عن أبناء القبائل الذين استمروا يعيشوا في مناطقهم النائية التي تفتقد ابسط الخدمات كالكهرباء والمياه. هذا الانقسام أضعف البنية القبلية، وبمرور الوقت بدأ هذا يصب لصالح الجماعات الدينية لأن القبيلة كانت تخفف عادة من النزعة الإيديولوجية لأي صراع بحكم طبيعتها البراجماتية.

المدارس الدينية

تاريخياً كانت في اليمن أربع مدارس دينية كبيرة ومؤثرة وهي لا تعبر عن كل الجماعات الدينية والمذهبية باليمن مثل وجود الإسماعيليين والبهائيين واليهود، هذه المدارس هي الشافعية التي صارت ملازمة للصوفية، الزيدية، الشوكانية وهي مدرسة زيدية ذات أصول سنية. كانت هذه المدارس تعتمد النمط التقليدي في التعليم القائم على حلقات التدريس لكل استاذ يدرس ويناقش فيها الكتب المرجعية الرئيسية مثل كتاب الأم لدى الشافعيين أو كتاب الأزهار لدى الزيدية.
المدرسة الشافعية كانت الأكبر في اليمن من حيث الانتشار وهي أحد أكبر المدارس السنية المنتشرة في العالم الإٍسلامي، يليها بالانتشار المدرسة الزيدية وهي مدرسة لم تستمر وتدوم سوى بشمال اليمن وتقريبا لا توجد مجتمعات زيدية كبيرة خارج اليمن.
أما الشوكانية، فهي مدرسة سنية بجذور زيدية وهي مدرسة منفتحة على كل المذاهب فقهياً، فمنذ القرن الخامس عشر تشكل تيار زيدي يتجه نحو مزيد من التسنن حتى وصل ذروته بصعود الإمام الشوكاني (1759-1834)، من حينها تبني مذهبه الأئمة المتعاقبين لأنها كانت مدرسة لا تؤدي لصدام مستمر معهم ولا تدعو للتمرد ضد الإمام العادل كالمدرسة الزيدية التقليدية.
لم يتبق أثر للمدرسة الشوكانية التي حل محلها السلفية بينما لم يتبقى مدارس شافعية بدون الصوفية، بينما تواجه الزيدية التقليدية تهديداً متصاعداً أكبر من تمدد السلفية الذي بدأ منذ منتصف السبعينات، وهذا التهديد يتمثل في انتشار التعليم حسب افكار جماعة الحوثي. في الجزء اللاحق من هذا البحث سوف يتم تناول كل مدرسة من هذه المدارس وما طرأ عليها من تحولات وتغييرات.

المدارس الدينية السنية

لقد ارتبطت الشافعية في اليمن بالصوفية منذ القرن الثالث عشر حتى تطور الأمر مؤخرا وصار من غير الممكن وجود مدارس شافعية خارج إطار الصوفية، وأبرز مراكز تدريس الشافعية هي زبيد على الساحل الشمالي الغربي، البيضاء في وسط اليمن، كذلك تريم في وادي حضرموت بالجنوب (5).
ظلت المدرسة الشوكانية منفردة باليمن وذات تأثير سياسي مهم بسبب دعم السلطة لها الذي استمر حتى بعد سقوط الإمامة وفي بدايات النظام الجمهوري حيث كان ثاني رؤساء اليمن الشمالي من تلاميذ مدرسة الشوكاني وهو القاضي عبدالرحمن الإرياني(1967-1974)، لذا كان أول مفتيين للجمهورية من تلامذة المدرسة الشوكانية وهما محمد زباره ومحمد العمراني (6).
تراجع دور المدرسة الشوكانية في منتصف السبعينات منذ بدأت الحكومة اليمنية دعم المدارس السلفية، مما أدى لتدهور كل المدارس الدينية التقليدية باستثناء مدارس قليلة صوفية وزيدية في ظل هيمنة سلفية متصاعدة نتيجة لتوظيف الدين في الصراع السياسي الذي بدأ منذ تأسس الجمهورية بالشمال والنظام الماركسي في الجنوب بالستينات.

المعاهد العلمية

بدأت المدارس الدينية الحديثة “المعاهد العلمية” والتي أسستها الدولة اليمنية بالشمال في عام 1974م. من المهم معرفة الخلفيات السياسية لهذا القرار، فاليمن كانت حينذاك منقسمة لدولتين بعد تأسيس النظام الجمهوري بالشمال عام 1962م وانتهاء الحرب الأهلية عام 1969م، وتأسيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بالجنوب بعد انتهاء الاحتلال البريطاني عام 1967م وتبنيها للماركسية سياسياً واقتصادياً عام 1969م.
بتأسيس أول نظام شيوعي بالجزيرة العربية والمنطقة في جنوب اليمن أصبح شمال اليمن حائط صد ضد تمدد الشيوعية لباقي المنطقة، وبالتالي صار اليمن الشمالي محط اهتمام دول الخليج بالذات السعودية التي سرعان ما وطدت صلتها بالسلطة اليمنية في الشمال.
بل إن خطر الشيوعية بدأ يهدد اليمن الشمالي الذي شهد حروب عصابات يسارية كانت تعرف باسم (الجبهة الوطنية) في المناطق الوسطى وتلقت دعم من النظام الماركسي في اليمن الجنوبي منذ بداية السبعينات 1971م. هذا دفع رؤساء اليمن الشمالي المتعاقبين إلى دعم الجماعات الدينية باعتبارهم أفضل سلاح أيديولوجي ضد الشيوعية حتى نجحت الدولة أخيراً في القضاء على هذه الجماعات اليسارية عام 1982م، بعد ما استعانت الدولة في أواخر السبعينات بمقاتلين من الإخوان المسلمين الذين شكلوا ما يعرف بالجبهة الإسلامية (7).
في خضم هذا الصراع السياسي تأسس أول معهد علمي عام 1972م في منطقة خولان شمال صنعاء (منطقة زيدية) لكن لم يصدر قراراً للدولة بخصوص تأسيس المعاهد العلمية إلا في عام 1974م. هكذا تطورت هذه المعاهد ونمت لتصل إلى 500 معهد في عام 1982م وبلغت 1200 معهد بعدد طلبة يصل إلى 600 الف طالب عند اغلاقها تماماً عام 2002م، عندما طبقت الحكومة اليمنية قرار إلغاء المعاهد وتوحيد التعليم عام 2001م متذرعة بالتزامها بالحرب ضد الإرهاب بعد حادثة تفجير السفينة الأمريكية كول في ميناء عدن بأكتوبر 2000م وقبل تفجيرات 11 سبتمبر بشهور (8).
كانت المعاهد العلمية خط تعليمي موازي للنظام الحكومي سيطر عليه الإخوان المسلمين بشكل كبير واصبحت أحد أهم آليات التجنيد للانضمام لجماعة الإخوان المسلمين، وكانت المعاهد العلمية تمتد في كل فصول المرحلة التعليمية من الابتدائية حتى الثانوية وتدرس ذات المناهج التعليمية مع مناهج اضافية في اللغة العربية والتربية الإسلامية واحياناً في بعض المراحل التعليمية كانت تضيف كتب في مناهج التاريخ حول تاريخ اليمن الإسلامي كما كانت هذه المعاهد لا تدرس منهج الفلسفة في الثانوية، وكانت فقهيا تدرس كل المذاهب السنية والمذهب الزيدي مع تركيز على المذهب الشافعي.
كانت المعاهد العلمية ادارياً ومالياً مستقلة عن وزارة التربية والتعليم بمصادر تمويل متنوعة، فكانت تتلقي أموالاً من الدولة اليمنية والحكومة السعودية اضافة لتلقيها تبرعات مالية، وحسب مسؤول يمني سابق “الدولة اليمنية في مرحلة من المراحل كانت تنفق على طالب المعاهد العلمية ست اضعاف ما تنفقه على طالب المدارس العامة (9)”، جدير بالذكر إن عدد طلاب المعاهد العلمية كان 13% من اجمالي الطلاب في المدارس العامة (10).
كان معارضي المعاهد متعددين من يساريين وليبراليين وزيود الذين كانوا يعتبرونها أوكار تجنيد اخوانية وجزء من نشاط سعودي لنشر السلفية والتطرف باليمن، بينما مؤيدي المعاهد كانوا يرونها الوسيلة المثلى للقضاء على الفوارق المذهبية وتوحيد المرجعية الدينية لليمنيين.
بالطبع اتهام هذه المعاهد بإنها كانت اوكار تجنيد إخوانية لم يكن بعيد أبداً عن الصحة، فطابور الصباح لم يكن مثل بقية المدارس ينشد فهيا النشيد الوطني وهتاف الجمهورية بل كانت تستبدل بأناشيد الإخوان، فعوضاً عن النشيد الوطني كان نشيد سيد قطب ” هو الحق يحشد أجناده…”، بعدها يهتف التلاميذ بشعار الإخوان المسلمين “الله غياتنا، الرسول قدوتنا، القرآن دستورنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.
كانت هناك ايضاً مخيمات صيفية للطلاب الذكور، وهذه المعاهد الدينية والمخيمات الصيفية كانت تركز كثيراً على مفاهيم النشاط الدعوي والجهاد، مثل القاء محاضرات حول الدعوة النبوية ومراحلها من سرية الدعوة والتنظيم لعلنية الدعوة وسرية التنظيم ثم علنية الدعوة والتنظيم. اضافة للتركيز على التاريخ الجهادي مثل الشخصيات الإسلامية المقاتلة. اضافة للاهتمام بقضايا مثل أهمية الولاء للجماعة والطاعة للقيادة (11).
كما كانت تستوعب المعاهد الكوادر الإخوانية المنفية من مصر وسوريا والسودان وغيرها من مناطق سواء كمدرسين أو مدرسات أو إداريين أو إداريات، بالتالي ارتباط هذه المعاهد بالإخوان المسلمين وتحولها لأوكار تجنيد للجماعة أمر تؤكده كل الشواهد وصعب التشكيك فيه (12).
كانت المعاهد العلمية تدعو لتحريم الموسيقي وتفصل بشكل كامل بين الذكور والإناث، على كل المستويات، الطلاب والمعلمين والإداريين، وفي حال قلة اعداد النساء المعلمات في المعاهد الخاصة بالبنات بالذات في الأرياف كان يتم تعويض هذا النقص برجال متقدمين بالعمر. بالتالي، يمكن القول بسهولة إن هذه المعاهد كانت تعتمد التفسيرات الدينية الصارمة والأقرب للسلفية (13).
هذه المعاهد كانت شديدة الجاذبية خاصة في الأرياف بسبب تباعد المسافات وصعوبة المواصلات وبالتالي صعوبة الوصول للمدرسة، لأنها كانت توفر سكن وتغذية للطلاب الذكور المقيمين في مناطق بعيدة. اضافة لهذا كانت لهذه المدارس سمعة جيدة في الانضباط الاخلاقي والسلوكي لطلابها، غير اهتمامها الكبير بالنشاطات مثل النشاطات الرياضية وبعضها شاق مثل تسلق الجبال وغيرها من انشطة خاصة بالذكور وكذا النشاطات المسرحية والاناشيد (14). أما البنات فكانت نشاطاتهن عمل يدوي وطبخ وايضا تدريب على الأناشيد والعمل الدعوي وليس من بينها رياضة (15).
جدير بالذكر، كان خريجي المعاهد العلمية غير مسموح لهم دخول الجامعات العادية، كانوا يقبلون فقط في المعهد العالي للمعلمين وبعد ثلاث سنوات يأخذوا دبلوم تؤهلهم لتعليم المرحلة الابتدائية، أو بعد خمس سنوات يأخذوا دبلوم عالي تؤهلهم للتدريس في المراحل العليا، مما يعني امتداد تأثير هذه المعاهد للمدارس العامة من خلال المدرسين خريجي هذه المعاهد (16).
كانت تجربة المعاهد العلمية من أهم تجارب التعليم الديني من حيث عدد من التحقوا بها أو طول مدتها (1974-2001) أو من حيث حجم الدعم المادي وبنيتها التنظيمية والإدارية حيث كانت مئات المعاهد ممتدة على كامل مساحة اليمن الشمالي، وكذلك تأثيرها لأنها افرزت جيل كبير من المدرسين والمدرسات المنتشرين في كل المدارس اليمنية ومتأُثرين بأفكارها كما خلقت جيلاً كاملاً من الإخوان أو المتأُثرين بهم.

التعليم الديني السلفي

كان أول معهد سلفي باليمن بناه الشيخ هادي بن مقبل الوادعي عام 1979م عندما عاد من المملكة العربية السعودية بعد سجنه بتهمة المشاركة مع جهيمان العتيبي في محاولة الاستيلاء على الحرم المكي عام 1979م. يعد الشيخ هادي بن مقبل الوادعي مؤسس السلفية في اليمن بلا منازع، وهو كان عالم دين زيدي من قبيلة الوادعة في صعده لكنه سافر للسعودية في خمسينات القرن الماضي وتحول عقائدياً من الزيدية للسلفية، وقال الشيخ هادي الوادعي إن أبرز دوافع تحوله العقائدي هو التمييز في المذهب الزيدي بين الهاشميين وابناء القبائل (17).
أسس الشيخ الوادعي معهد “دار الحديث” في قرية دماج التي تقع ضمن أراضي قبيلة الشيخ هادي الوادعي في محافظة صعده “معقل الزيدية”، والتي تكفلت بحمايته وحماية نشاطه ضد تذمر وغضب المرجعيات الدينية الزيدية في المنطقة (18).
كانت تسمية المعهد بدار الحديث أمر ذو دلالة، فالسلفيون بمناهجهم يركزون على أهمية الحديث وبالتالي بمباحث الجرح والتعديل المتعلقة بتقييم شخصيات رواة الأحاديث النبوية، وكانت تطبق مناهج الجرح والتعديل على شخصيات العصر الحالي وبالتالي كانت أداة جيدة بيد السلفيين ضد خصومهم.
هذا أيضاً له علاقة باهتمام السلفيين المطلق بفكرتين أولها: اقتباس كل الأحكام الدينية من نصوص دينية سابقة أو احكام فقهية سابقة للسلف الصالح، والحديث يوسع دائرة النص المقدس بالتالي يمنع أية استنتاجات وأحكام شخصية لأن عقل الانسان تحكمه الأهواء حسب السلفية، بالتالي ترفض السلفية كل المناهج الفقهية المعروفة مثل القياس والاجتهاد وكل ما لا يعتمد على النصوص الدينية حرفياً.
ثانيها: انشغال السلفية الدائمة بفكرة نقاء وتطهير الدين الإسلامي والتمييز بين ما هو مسلم صحيح وغير مسلم. لذا هو منهج يميل للقطيعات ولا يقبل المخالفين، وبسبب عدم وجود الحد الأدنى لقبول الاختلاف فسرعان ما دبت الخصومات والخلافات بين ابناء هذا التيار.
أصبح مركز “دار الحديث” أحد أهم المراكز الدينية التي تستقطب ليس فقط تلاميذ من كل انحاء اليمن بل من كل انحاء العالم، مثل القرن الأفريقي وأمريكا واندونيسيا وأوروبا الغربية والدول العربية مثل مصر والجزائر. فعلى سبيل المثال في منتصف العقد الأول للألفية الثانية بلغ عدد طلاب المركز من حاملي الجنسية الفرنسية فقط لما يزيد عن مئة19، كما كان المركز يوفر سكن وتغذية لبعض الطلاب.
كان معظم مدرسي الدار سبق لهم والتعلم من خلال جامعات المملكة السعودية كما كانوا يعتمدون في مناهجهم على كثير من كتب علماء السعودية مثل ابن باز وابن عثيمين والفوزان واللحيدان وربيع المدخلي (20)، إضافة إن المعهد كان يتلقى أموالاً من علماء سعوديين مقربين من الأسرة المالكة مثل الشيخ ربيع المدخلي.
كان هذا التيار السلفي يدعو لعدم التدخل في السياسة والانشغال بالدعوة فقط، لذا يطلق على نفسه اسم “السلفية العلمية” وهو يحرم العمل الحزبي ويؤمن بفكرة طاعة ولي الأمر بشكل مطلق كما كان يعارض بشده التيارات الجهادية لأنه يحرم الجهاد دون إذن ولي الأمر، بينما كان خصوم هذا التيار يطلقون عليهم تسمية السلفية “المدخلية” نسبة للعالم السعودي ربيع المدخلي.
كانت العلاقة بين المعهد والحكومة اليمنية في عهد الرئيس السابق صالح (1978-2012) جيدة، فالحكومة لم تكن تتدخل فيما يدرسونه، ولم تلتفت لشكوى بعض ابناء محافظة صعده الزيود من هذا المعهد خاصة إنهم كانوا يتجهون لاعتبار الزيدية فرقة ضالة، بل كانت الحكومة اليمنية تتعهد لهم بالأمن والحراسة (21).
بنيت معاهد أخرى على شاكله معهد دار الحديث من تلامذة الشيخ هادي الوادعي أو رفاقه أبرزها معهد دار الحديث في مأرب لأبو الحسن المصري أو المأربي، معهد معبر في ذمار ومعهد الأفيوش في عدن لعبد الرحمن العدني.
استمر معهد دار الحديث بالعمل بعد وفاة الشيخ الوادعي في 2001م بعد نزاع حول خلافته حتى بدأ الحوثيون بمحاصرة قرية دماج منذ منتصف اكتوبر حتى أواخر ديسمبر عام 2011 ثم تلاها حصارهم الثاني أواخر عام 2013 والذي انتهى في يناير 2014 بعد إجلاء سكان القرية الذين كان عددهم حينذاك قرابة 15 ألف (22).
جدير بالذكر إن دماج لم تكن مجرد قرية تستضيف معهد علمي، بل اصبحت مكاناً تأسس فيه مجتمع متعدد الجنسيات قائم على أسس دينية صارمة ومتشددة، استوطنه بعض اليمنيين وغير اليمنيين، وتعذر الحوثيون بوجود الأجانب عند محاصرتهم القرية وإنهم يطالبون بإخراج الأجانب من دماج.
لم تكن صعدة المكان الصدامي الوحيد لتواجد السلفيين، فبعد الوحدة اليمنية عام 1990م بدأ نشاطهم في تريم بمحافظة حضرموت الجنوبية وتريم هي معقل الصوفية في اليمن، وبدأوا ينشطوا في المساجد بتريم مثل مسجدي التوحيد والسنة لأبو الحسن المأربي وهو أحد تلاميذ هادي الوادعي (23)، مما تسبب في انقسامات وتوتر إذ يعتبر السلفيون الصوفيين مجرد فرقة ضالة.
شهدت التسعينات نشاطاً واسعاً للسلفية وانتشرت كتبهم وأشرطة التسجيلات الخاصة بهم، وظهرت تيارات سلفية أكثر نشاطاً، مثل تأسيس جمعية الحكمة في تعز عام 1990 حيث كان يرفض الشيخ الوادعي العمل الخيري معتبراً إنه شكل من اشكال الحزبية، وبدأت جمعية الحكمة تتلقى أموالاً ودعم من الجمعية الكويتية “احياء التراث الإسلامي لصاحبها الشيخ السلفي عبد الخالق عبدالله، ثم انقسمت جمعية الحكمة وتأسست منها نسخة جنوبية تسمي جمعية الإحسان في حضرموت عام 1992م (24)، وكانت تتلقى أموالاً من قطر(25).
أبرز نتائج تشكل هاتين الجمعيتين إنهما نشطتا بالعمل الخيري وتأسيس مراكز تحفيظ القرآن الكريم مثل مركز “عاصم” ومركز “المنار” في صنعاء كما اسست معاهد ومساجد مثل “الفرقان” بتعز و”البيحاني” في إب وغيرها مما زاد من انتشار السلفية في بقية انحاء الجمهورية (26).
كما تأسست في بداية التسعينات جامعات سلفية مثل جامعة الإيمان في صنعاء عام 1993 برئاسة الشيخ عبدالمجيد الزنداني وكانت تدرس علوم شرعية وقضاء، ومن المهم معرفة إنه لم يكن مسموح لطلاب هذه الجامعة الانخراط في سلك القضاء بعد تخرجهم (27). كذلك جامعة الأحقاف بحضرموت التي تأسست عام 1994 والتي كانت فيها تخصصات هندسة وعلوم كمبيوتر اضافة للعلوم الشرعية (28)، وكانت هذه الجامعات تتلقى دعماً وتمويلاً من جمعيات ومشايخ سعوديين ومثلها مثل بقية المعاهد السلفية بعضها يوفر للطلاب سكن وإعالة.

العلاقة مع السعودية

منذ بداية نشاط السلفية في اليمن في مقتبل السبعينات كانت علاقتها قوية بالسعودية بسبب تلقي معظم اتباعها لأموال من مشايخ سعوديين واعتماد معظم معاهدها على كتب ألفها علماء سعوديين، لكن هذا لا يعني إن العلاقة كانت على وفاق تماماً أو لم تكن تتأثر بتذبذب العلاقة بين اليمن والسعودية.
فمثلأ كانت العلاقة فاترة بين الشيخ هادي بن مقبل الوادعي والحكومة السعودية بعد أن طردته بتهمة كتابة رسائل جيهمان العتيبي اثناء استيلائه الحرم المكي عام 1979م، وظل الوادعي يوصف السعودية بأرض الحرمين ونجد وليس السعودية مشككاً بشرعية آل سعود (29)، لكن هذا لا يعني إنه لم يكن يتلقى تمويلاً سعودياً من بعض العلماء السعوديين مثل ربيع المدخلي وعبدالعزيز بن الباز المقربين من الأسرة المالكة اضافة إنه كان يتلقى أموالاً من مؤسسة الحرمين الخيرية والتي تأسست عام 88 (تقريباً) واغلقت عام 2004 بتهمة تمويل الإرهاب (30).
كانت العلاقة أيضاً تتأثر بطبيعة العلاقة المتوترة بين اليمن والسعودية، ففي عام 1990 وبسبب اصطفاف اليمن مع العراق عادت جالية يمنية تصل لقرابة المليون من السعودية لليمن بسبب التشديدات على إقامتهم، مما خلف مرارة شديدة لدى الكثير من اليمنين خاصة لدى ابناء منطقة حدودية مثل صعدة كانت تشهد يومياً عودة الالآف بممتلكات بسيطة وأموالاً قليلة بعد سنوات طويلة من العمل في السعودية. هذا ربما ما دفع الوادعي للهجوم على الأسرة المالكة السعودية والملك فهد لأنهم (حسب وصفه) يخلقون العداء بينهم وبين اليمن بأخذ الثروة لأنفسهم. ثم توترت العلاقة مرة أخرى في الحرب الأهلية اليمنية عام 1994م، عندما قررت السعودية دعم الانفصال الذي دعي له الحزب الاشتراكي في الجنوب، حينها اتهمهم الوادعي بدعم الشيوعيين بالجنوب والقبائل الزيدية بالشمال (31).
في مطلع الألفية الثانية عندما مرض الوادعي، استقبلته السعودية للعلاج وكانت أول مرة يزورها منذ خرج منها مطروداً عام 1979م وألتقى بالأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود وانفقت السعودية على علاجه في ألمانيا وأمريكا، هذا وظلت أمريكا في رأي الشيخ هادي حتى بعد زيارتها للعلاج مجرد وكر للكفر والفساد.
ثم عاد الشيخ هادي للسعودية التي توفي فيها عام 2001 ليدفن في ذات المقبرة التي دفن فيها كبار علماء السعودية مثل بن باز وغيرهم في مكة، لهذا اثناء تلقيه للعلاج بالسعودية دعا الوادعي طلابه للتخلص من كل محاضراته وشرائطه التي كان ينتقد فيها السعودية بل ودعاهم للوقوف مع السعودية ضد اعدائها (32).
من الصعب افتراض إن هناك انفصال بين السلفية والسعودية في اليمن، لكن هذا لا يعني إن السلفيين لا يتأثرون بحساسيات وتعقيدات العلاقة بين الدولتين الجارتين السعودية واليمن وتنعكس على آرائهم تجاه السعودية المتقلبة بين التأثر والنقد والإعجاب والنقمة في ذات الوقت.

سيولة السلفية

تعد السلفية حالة سائلة فهي فكر منتشر بسبب بساطته ومباشرته لكنه لا يحمل أي شكل من اشكال التنظيم، وبسبب التزام السلفية الصارم بمبدأ طاعة ولي الأمر لم تنخرط يوماً في معارضة سياسية فعلية ضد النظام السابق، بل إن نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح كان يوظفهم سياسياً في بعض الأوقات مثل حرب 1994م أو حرب صعده ضد الحوثيين.
تغير الوضع بعد انتفاضة2011 والتي تسببت في انقسام السلفية في موقفها تجاه هذه الانتفاضة. يمكن القول إن الغالبية العظمي من السلفيين كانوا معارضين لهذه الانتفاضة باستثناء جمعية الإحسان وإلى حد ما جمعية الحكمة في تعز، وانبثق منهما اثناءها ائتلاف “الإحسان الإٍسلامي” (33).
بعد 2011م تعرضت السلفية لانقسام آخر حول المشاركة السياسية وتكوين أحزاب، ومن اللافت إن أول حزب سلفي تأسس كان حزب “النهضة الإسلامي” الذي تشكل في مارس 2011م وكان يدعو لانفصال الجنوب (34)، ثم تشكل حزب “الرشاد” في مارس 2012م ومعظم مؤسسي الحزب كانوا ينتمون لجمعية الإحسان، بينما انبثق حزب “السلم والتنمية” من جمعية الحكمة (35).
بعد الحرب ازدادت السلفية انقساماً وتوزعت على جميع الأطراف، فاستقطبت الإمارات سلفيين يقاتلون معها أبرزهم هاني بن بريك أحد تلامذة الشيخ هادي بن مقبل وصار الآن قيادي في المجلس الانتقالي الجنوبي، أما السعودية فقد استقطبت سلفيين أبرزهم أبو الحسن المأربي وهو أيضاً تلميذ للوادعي، كما استقطبت قطر بعض السلفيين مثل جمعية الاحسان في حضرموت، حتى الحوثيين نجحوا في استقطاب بعضهم مثل محمد طاهر أنعم من حزب الرشاد ومحمد عزالدين الحميري من حزب السلم والتنمية (36).
كما ترك الحوثيون بعض المعاهد السلفية تعمل مثل دار الحديث بدماج الذي لايزال يعمل لكن يقتصر تلاميذه على ابناء المنطقة خاصة ابناء قبيلة وادعة قبيلة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي (37)، وكذلك معهد معبر في ذمار، ويمكن تفسير هذا السلوك من الحوثيين الذين اغلقوا المعاهد الزيدية ومنعوا حلقات التدريس الزيدي في المساجد ببراجماتية جماعة حاكمة في التعامل مع السنة الذين يمثلون جزء كبير ومهم من السكان الواقعين تحت سيطرتهم وكذلك استعراض لانفتاحهم على الآخرين وعدم تعصبهم المذهبي.

المدارس الصوفية

صارت المدرسة الصوفية هي الحاضن الأخير للمذهب الشافعي باليمن، والصوفية ليست مذهب فقهي بل مدرسة سلوكية وتربوية تركز على الجوانب الروحانية فيما يعرف بمرتبة الإحسان والتزكية في الدين الإسلامي.
لازالت المدارس الصوفية موجودة وحاضرة في بعض مناطق اليمن مثل تهامة وتعز والبيضاء وعدن وحضرموت، بينما تحتفظ مدينة تريم في وادي حضرموت بموقعها كمعقل للصوفية باليمن.
تعرضت المدارس الصوفية بالجنوب وفي حضرموت وتريم تحديداً للإغلاق وعلمائها بعضهم سجن أو قتل اثناء مرحلة الحزب الاشتراكي (1969- 1990)، ثم تعرضت أَضرحتهم للتدمير في عامي 1994- 1995م من قبل ميلشيات مسلحة تابعة للإسلاميين الذين شاركوا مع قوات حكومة صنعاء في حربها ضد الحزب الاشتراكي في حرب 1994م (38).
من اللافت إن في حرب 1994م قرر كثير من الصوفيين الاصطفاف مع الحزب الاشتراكي رغم تنكيله بهم (39)، مما فسره البعض انحيازاً للسعودية كما يمكن تفسيره إن معظم قيادات الانفصال في تلك الحرب كانوا ينحدرون من أسر هاشمية حضرمية مثل علي سالم البيض وحيدر العطاس وعبدالرحمن الجفري وغيرهم.
منذ منتصف التسعينات بدأ النشاط الصوفي وتأسس عام 1996 دار المصطفى وكان ضمن مؤسسيها الحبيب علي الجفري وهو ابن السياسي اليمني عبدالرحمن الجفري رئيس حزب “الرابطة” وهي حركة انفصالية جنوبية كانت تدعمها السعودية، والحبيب الجفري من مواليد السعودية وقضي جزء من عمره في الإمارات. أما المؤسس الثاني للدار هو الحبيب عمر بن حفيظ الذي قتل والده من قبل الاشتراكيين عام 1972م لتلجأ أسرته للشمال في البيضاء حيث تلقى تعليمه من الشيخ الصوفي الشهير حسين محمد الحيدر(40).
ثم أصبح الحبيب عمر بن حفيظ المسؤول الأساسي عن دار المصطفى التي صارت مركز عالمي للصوفية يدرس فيها ما يتجاوز الأربعين جنسية والآف الطلاب من الخارج، وكانت هذه التجربة لاقت بعض المعارضة من الصوفية التقليدية بسبب تجديدها للمناهج والأساليب التعليمية لكنها استمرت حتى الآن بنجاح غير مسبوق. المدارس الصوفية عادة تتلقي دعمها من الجاليات الحضرمية المهاجرة في الخليج وشرق آسيا(41).
بعد انتهاء حرب 94م وتخلص الرئيس علي عبدالله صالح من خصمه الاشتراكي بالجنوب، بدأ صالح يتيح المجال ويدعم أكثر المدارس الدينية الأخرى غير السلفية والإخوانية لكي يضعف من شوكتهم. لذا بعد خروج حزب الإصلاح من ائتلاف الحكومة عام 1997م، بدأ يظهر التقارب الصوفي- الحكومي وأصبح الشيخ الصوفي محمد علي مرعي عضو في حزب المؤتمر الشعبي العام وأسس في عام 2000م كلية العلوم الشرعية في الحديدة، وكان بعض الإخوان المسلمين يدعون إن خريجي هذه الكلية يجدون وظائف حكومية بسهولة مما يعني دعم حكومي لهم.
منذ عام 2002م بدأ الرئيس السابق صالح زياراته لدار المصطفي وبدأ مؤسسي الدار الحبيب الجفري والحبيب بن محفوظ يظهران في بعض برامج التلفزيون الرسمي اليمني، وفي انتخابات البرلمان لعام 2003م نشط مشايخ الصوفية في حضرموت وغيرها لدعم مرشحي حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم.
هكذا بدأت تظهر غلبة التيار الصوفي، ففي مركز المدينة بتريم صار يفرض على المراكز السلفية مثل مكتبة محمد بن عبد الوهاب اغلاق ميكروفوناتها ليلة كل يوم اثنين احتراماً لتجمع مشايخ دار المصطفى (42).
كما إن الصوفية باليمن وعلى عكس الزيدية المعزولة والهامشية النسبية لتيار السلفية باليمن، تمتلك شخصيات مؤثرة بالخارج مثل الحبيب الجفري والحبيب عمر بن الحفيظ الذين لديهما اتباعاً خارج اليمن، اضافة لاستقطاب المدارس الصوفية اليمنية لآلاف الطلاب من شرق آسيا وأفريقيا.
في بداية الحرب الحالية عام 2015 اعلنت القاعدة سيطرتها على المكلا عاصمة حضرموت وبعض مناطق وادي حضرموت، وتعرضت أضرحة الصوفية مجدداً للتدمير ومن اللافت تماهي السلفيون مع القاعدة. في المقابل، لم يصدر أي رد من قبل المرجعيات الدينية الصوفية التي ترفض تاريخياً الانخراط في العنف فبحسب عرفهم لابد من ” حفظ اللسان من الذم وحفظ اليد من الدم”(43). في شهر أبريل 2016 تمكنت قوات الحكومة اليمنية بدعم من التحالف من القضاء على داعش في حضرموت، لتعاود الصوفية صعودها وتأُثيرها السياسي والاجتماعي.
مع تزايد حدة الصراع بالجنوب وتصاعد المطالب بالانفصال عن الشمال بدأت تظهر المخاوف في محافظة حضرموت (اكبر محافظات اليمن مساحة) من مستقبلها كمكون اجتماعي ووحدة مناطقية ضخمة وذات ثروة بترولية، لذا شارك الصوفيون والسلفيون كغيرهم من المكونات الاجتماعية الحضرمية في مؤتمر حضرموت الجامع بأبريل 2017م، وكان ابرز من مثل الصوفية حينها الشيخ عبدالرحمن باعباد ومن جانب السلفية كان الشيخ صالح الشرفي. يقول أحد الصحفيين في حضرموت إن الرغبة في لملمة الوضع الداخلي في حضرموت وتوحيد الجبهة الحضرمية لتحقيق طموحات الحضارم في المزيد من الاستقلالية والحصول على سلطة أكبر أدى لهدوء سلفي- صوفي، بمنطق “كلنا حضارم” (44).
يعد الحبيب الجفري أحد أبرز رموز الصوفية في العالم الإسلامي وأكثر شيخ صوفي يحتفي به الإعلام منذ سنوات طويلة، ولقد دعمته الإمارات العربية المتحدة التي تمول مؤسسة طابة التي أسسها ويديرها الحبيب الجفري منذ عام 2005م، ولها نشاطات في عدة دول أبرزها مصر(45). مؤخراً صار الحبيب الجفري يتخذ مواقف سياسية معلنة ومثيرة للجدل مثل زيارته للقدس في 2012 ثم دعمه للسيسي بمصر (46).
مع تصاعد دور الإمارات في الجنوب ودعمها للانفصاليين هناك وانقسام الجنوب تجاه سياسة الإمارات وحلفائها، يتحول الحبيب الجفري من رمز صوفي فوق الانقسامات لشخصية مثيرة للجدل في اوساط الصوفية بحضرموت، لذا يؤكد بعضهم إن الجفري فقد الكثير من شعبيته ومصداقيته بسبب ارتباطه المادي بالإمارات ونشاطه السياسي غير المقبول لدى الكثير من الصوفية (47). بينما اعتبر البعض الآخر إن مكانته لم تهتز خاصة إنه لم يخوض في قضايا سياسية جدلية كما إن شعبية الإمارات وحليفها المجلس الانتقالي جيدة بساحل حضرموت بينما الأمر يختلف في حضرموت الوادي (48).
هكذا تتفاوت الآراء الشخصية حول الحبيب الجفري حسب موقفها من سياسة الإمارات في الجنوب أو موقفها من تدخل رجال الدين عموما في الشأن السياسي. إجمالاً، لازالت المدارس الصوفية بعيدة عن السياسة، وإن كان هذا لا يعني إن كل علماء الصوفية ملتزمين بهذا التوجه. كما إن من المحتمل مستقبلاً أن تواجه المدارس الصوفية تحديات كبيرة بسبب تزايد الصراع الإقليمي بالجنوب وتحديداً حضرموت، خاصة من قبل السعودية والإمارات اللتان تستخدمان الدين في تدخلاتهما السياسية.

المدارس الزيدية

المذهب الزيدي موجود بشمال اليمن منذ أكثر من ألف عام، وكان يدرس بالشكل التقليدي بالمساجد والمدارس الدينية التقليدية، حتى قامت الثورة ضد الإمامة الزيدية وبدأ يتعرض علماء الزيدية لمضايقات خاصة إن معظم علماء الزيدية من هاشميين كانوا مؤيدين للإمامة ضد النظام مما اثار الشبهات حولهم وبعضهم تعرض للقتل والسجن اثناء الحرب الأهلية بين الطرفين (الجمهوري- الملكي)، والتي استمرت قرابة ثمان سنوات (1962-1970).
كما سبق ذكره، منذ منتصف السبعينات بدأ التمدد السني- السلفي في كل انحاء شمال اليمن بما فيها المناطق الزيدية بدعم الحكومة اليمنية وتمويل السعودية، مقابل عدم قدرة المدرسة الزيدية للتطور حيث ظلت محصورة على حلقات المساجد خاصة في صعدة مثل مسجد الإمام الهادي والجامع الكبير في صنعاء.
أبرز ما يميز الزيدية كمدرسة دينية هو اعتمادها على العقل والمنطق بحكم إنها ذات اصول معتزلية (المعتزلة هم مدرسة فلسفية اسلامية)، لكنه مذهب لا يمتلك شخصية فقهية مستقلة وتأثر بشكل أو بآخر بالمدارس الفقهية السنية خاصة الحنفية، والزيدية في هذا الإطار لا تلتزم كثيراً بالأحاديث وتتبع قاعدة أخذ ما يتفق منها مع القرآن، كما تفتح باب الاجتهاد واسعاً. لذا يعتبر الكثيرون المذهب الزيدي مجرد نظرية سياسية للحكم أبرز مفاهيمها، تبرير الخروج على الحاكم الظالم وتمنح أفضلية لآل البيت.
الطبيعة السياسية للمذهب الزيدي تسببت في قلق الحكومات الجمهورية المتعاقبة من أي نشاط لها، وفي المقابل توسعت السلفية مما أدى لخلق مشاعر قلق وغضب لدى بعض المرجعيات الزيدية التقليدية وهي هاشمية في معظمها وعبرت عنه عندما بدأ الانفتاح في المجال العام وفتح الباب للممارسة السياسية الحرة وتأسيس الأحزاب مع بداية الوحدة اليمنية عام 1990، حينها تأسس حزب إسلامي سني كبير وهو حزب “التجمع اليمني للإصلاح” وحزبين إسلاميين زيديين هما حزب “الحق” وحزب “اتحاد القوى الشعبية”.
جمع حزب “الحق” معظم الشخصيات الزيدية المهمة وأبرزها العلامة الزيدي الأبرز منذ قبل ثورة سبتمبر 1962م وبعدها وهو الشيخ مجد الدين المؤيدي والذي كان مدرس الشيخ بدر الدين الحوثي، وكان من أبرز ما أعلنه الحزب في بداية تأسيسه هو اصدار بيان يوضح إن الحزب يحارب الامبريالية الأميركية التي تتجسد بالوهابية السعودية (49).
لم يكن التحرك مجرد سياسي بل أصبح أيضاً تعليمي، لذا بدأ تأسيس بعض المعاهد الزيدية أشهرها معهد السماوي في صعدة ومعهد بدر للشيخ المرتضى المحطوري، الأبرز والأهم هو محاولة محاكاة المعاهد العلمية للإخوان المسلمين بتأسيس مخيمات صيفية للشباب الزيدي أطلق عليها مخيمات ” الشباب المؤمن”.  جدير بالذكر إن ابناء بدر الدين الحوثي حسين ومحمد وحميد سبق ودرسوا في المعهد العلمي بصعدة ورغم إنه كان مثل غيره تحت اشراف الإخوان المسلمين، فهو كان المعهد الوحيد باليمن الذي يدرس مناهج دينية زيدية نظراً لخصوصية المدينة (50).
لمواجهة انتشار السلفية في المناطق الزيدية بدأ بعض علماء الزيدية ورموزها تأسيس مخيمات دينية زيدية بداية التسعينات تقريبا عام 1993م عندما تأسس أول مخيم في منطقة الحمزات بصعدة وهي منطقة هجرة، والهجرة هي مناطق محمية من القبائل اليمنية ولا يجوز القتال فيها. هكذا وصل مرتادي هذه المخيمات من الشباب ما بين 10 الف- 15 الف ما بين عامي 1994-1995، ثم بدأت تتوسع لتشمل محافظات أخرى غير صعدة مثل عمران وحجه والمحويت وذمار بل وفي بعض المناطق الشافعية تقريبا مثل إب وتعز (51).
تلقت هذه المخيمات دعماً مالياً بسيطاً من الحكومة اليمنية التي وجدت فيهم وسيلة لتخفيف قوة السلفيين والإخوان في المناطق الزيدية خاصة بعد تراجع أهميتهم لدى الحكومة اليمنية بعد حرب 1994 وهزيمة الحزب الاشتراكي بالجنوب.
كانت هذه المخيمات الصيفية تحاكي المعاهد العلمية ومخيمات الإخوان من حيث الاهتمام الكبير بالنشاطات الفنية والرياضية، اضافة لتدريس المناهج الدينية وهي كتيبات دينية صغيرة لا تثير أية قضايا سياسية أو مذهبية، تقدم مجرد معرفة دينية مبسطة. تكمن أهمية هذه المخيمات إنها أسست لأول مرة مجتمع شاب تجمعه فكرة الهوية الزيدية، ابناء قبائل وهاشميين، كما استطاع من خلالها بعض الشخصيات الزيدية اكتساب تأثير ونفوذ على هؤلاء الشباب.
استمرت هذه المخيمات بالعمل حتى عام 2000م عندما عاد الأبن الأكبر لبدر الدين الحوثي وعضو البرلمان لمرتين، حسين الحوثي، من دراسته في السودان وبدأ الخلاف بينه وبين بعض مؤسسي المعاهد مثل محمد عزان حتى انقسمت هذه المخيمات في عام 2002م لقسمين، قسم يتبع عزان وقسم يتبع الحوثي (52). القسم الذي كان يتبع الحوثي بدأ بتبني مواد دراسية سياسية كانت مرفوضة من قبل بعض المؤسسين. اغلقت هذه المخيمات كلياً بعد اندلاع حروب صعدة بين جماعة حسين الحوثي والقوات الحكومية في عام 2004م.

التيار الحوثي

الحوثيون حركة زيدية يعود اسمها لاسم عائلة مؤسسها حسين الحوثي الذي نشط سياسياً من خلال نقد الحكومة وتحشيد الجماهير منذ عام 2000م. حسين الحوثي قتلته القوات الحكومية في أول جولة قتال من حروب صعدة في سبتمبر 2004، ثم اندلع القتال خمس مرات تالية ما بين 2004-2010، بعدها بأربع سنوات القوات الحوثية استولت على العاصمة صنعاء.
العقيدة الإيديولوجية للحوثي كانت متطابقة مع الزيدية في القضايا الرئيسية مثل شرعية اسقاط الحاكم الظالم والمستبد ومنح أفضلية لآل البيت، لكنهم اتخذوا مواقف مغايرة للزيدية في قضايا أخرى.
أولها: تبني الحوثيون آراء مستلهمة من خطاب الثورة الإيرانية مثل محور المقاومة ضد قوى الاستكبار، فيما يعد خطاب معادي للإمبريالية.
ثانيها: يعتبر الحوثيون نظرية ولاية الفقيه التي تبناها الخميني تأثر بالمذهب الزيدي، لأنها نظرية مختلفة عن النظرية الشيعية الاثنا عشرية التقليدية التي تقضي بانتظار المهدي المنتظر، بينما ولاية الفقيه كالزيدية تدعو للخروج على الحاكم الظالم وتولي الحكم. في المقابل، تأثر الحوثيون بالوضعية المقدسة لولي الفقيه الذي يأخذ الكثير من صلاحيات وسلطات الإمام الغائب والمعصوم عن الخطأ، وفكرة العصمة عن الخطأ تناقض تماما الزيدية وفرضية الحكم فيها لأنها تفترض إن الإمام قد يكون ظالم مما يسمح بالخروج عليه.
ثالثها: فكرة العلم والقرآن، يركز الحوثي على فكرة القائد العلم وهي فكرة رغم جذورها الزيدية لكن تركيز الحوثي عليها غير مسبوق مع اضفاء فكرة ربطها بالقرآن. العلم كمفهوم يعني العلامة المميزة التي تقود الناس لا يختلف عن تعريف الحوثيين للكلمة لكن مع إضافات مهمة. فالحوثيين طوروا المفهوم التقليدي للعلم كقائد ملهم وأضفوا عليها قدر من القدسية بربطها بالقرآن. بالتالي الزيدية التقليدية ترى العلم هو قائد الأمة بينما الحوثية يرون فيه الشخص الذي يجسد القرآن مما منح لقائدهم قدسية لم يمتلكها أي إمام زيدي سابق.
في هذا السياق، من المهم معرفة إن الحوثي لا يعترف بأي نص مقدس سوى القرآن كما يرفض التعامل مع كل كتب التراث الإسلامي، بسبب رفضهم فكرة التعامل مع النصوص البشرية بكل أشكالها من منطلق الحفاظ على نقاء الدين، مما يتناقض كلياً مع المذهب الزيدي.
ثالثها: فكرة الطاعة والولاء والوحدة، كأي جماعة دينية حركية سياسية بالدرجة الأساسية ينشغل الحوثيون كثيراً بالتأكيد على ضرورة وحدة الأمة، وهذه الوحدة حسب الفرضية الحوثية لا تتأتى إلا بطاعة القائد رغم إن مفهوم الطاعة المطلقة للحاكم تناقض الزيدية التي تشرعن التمرد على الحاكم الظالم.
رابعها: التركيز على التشيع ومعاداة السنة، من المهم في هذا الإطار معرفة إن الزيود في اليمن لطالما اعتبروا أنفسهم اتباع مذهب لا هو سني ولا شيعي، وهذا كله مفهوم لأقلية عاشت طويلاً وسط بحر من السنة. في خطابات حسين الحوثي مؤسس جماعة الحوثي والتي تعد الأدبيات الاساسية لجماعة الحوثي يتم التركيز دوماً على الزيود كجزء من الشيعة مركزاً على تقاربهم مع شيعة إيران وغيرهم، اضافة لآرائه الصدامية تجاه السنة ورموزها بما يخالف التيار الزيدي السائد في اليمن المتسامح مع الرموز السنية مثل الصحابة (53).
الخلاف بين الحوثي والزيدية التقليدية حاضر لكنه خافت بسبب الخوف ومن أبرز علماء الزيدية المعارضين لتوجههم هو العالم يحيى الديلمي، ومن خلال حوارين مع اثنين من علماء الزيدية الذين رفضوا ذكر أسمهم اتهموا الحوثيين بالتضييق أكثر من النظام السابق الذي أولى اهتماماً بالتعليم السلفي على حساب الزيدية لكنه لم يعطل نشاطهم ولم يحاول سجن وتهجير بل وقتل المعارضين له من علماء الزيدية مثلما يفعل الحوثي. فحسب كلامهم تم اغلاق المراكز التعليمية الزيدية بقوة السلاح من قبل الحوثيين بحجة إنه لا ضرورة لهذا الدراسة والكتب كلها التي قد تشتت اهتمام الناس عن القرآن (54).

الدورات الحوثية

يسيطر الحوثيين على كل المناطق الزيدية باليمن، وبعد اغلاقهم للمراكز التعليمية الزيدية وتهميش المراجع الدينية الزيدية التقليدية وتصعيد أخرى بديلة مثل شمس الدين شرف الدين وهو مفتي الجمهورية حالياً المعين من قبل الحوثيين، يهيمن الحوثيون الآن على الخطاب الزيدي وينشرون افكارهم من خلال تغييرهم مناهج التعليم والدورات الثقافية.
الدورات الثقافية هي دروات اجبارية على موظفي القطاع الحكومي وعلى الشباب الذاهبين للجبهة أو لجذب شباب آخرين إضافة لائمة المساجد والنساء خاصة مديرات المدارس، هذا غير استهدافهن بمجالس النساء في المنازل مثل تجمعات العزاء وغيرها.
هذه الدورات تستمر من عشر أيام لعشرين يوماً، وفيها يقدم للمتلقين خطابات حسين الحوثي الذين يعتبروه أصح ما قيل بعد القرآن ومعظمها خطب تركز على الولاية والجهاد وأفضلية آل البيت. هذه الدورات لا تخلو من اساءات مذهبية للسنة، رغم إنهم قد يجبرون على المشاركة فيها موظفين حكوميين سنة، مثل الإساءة للصحابة ببعض التسجيلات والأشرطة والتشكيك في معتقداتهم الدينية.
كما يقدم فيها محاضرات بعض المقاتلين الحوثيين القدامى ليشرحوا كيف كانوا فئة مستضعفة وبتمكين إلهي أصبحوا قوة ضاربة لا يستهان بها، اضافة لبعض التسجيلات الإيرانية حول معارك علي بن أبي طالب ومذبحة كربلاء التي وقعت في ذريته (55). كذلك بدأ الحوثيون استهداف الأطفال من 6-12 سنة بمخيمات صيفية لتدريس أفكارهم كما تشمل بعض الأنشطة، تحديداً الرياضية.

الأصالة والهوية

بينما شهدت السلفية صعوداً كبيراً باليمن بسبب الدعم والتمويل السعودي منذ منتصف التسعينات اضافة للتأثير الثقافي الذي انعكس على اليمنيين من وجود ملايين المهاجرين في السعودية، ظلت الزيدية والصوفية تقدمان أنفسهما في مواجهة السلفية بصفتهما فكران يمنيان أصيلان في مواجهة فكر وهابي مستورد من السعودية.
في المقابل، فإن السلفية كانت تتهم الزيدية والصوفية بأنها مدارس تعطي امتيازات لآل البيت ( السادة في حالة الزيدية) (الحبايب في حالة الصوفية) وإن آل البيت (الهاشميين) هم غير يمنيين، فاليمنيين هم عرب الجنوب ممن يطلق عليهم (القحطانيون) بينما الهاشميين هم من قريش أي عرب الشمال (العدنانيون)، وهذا عداء تاريخي قديم بين الطرفين يستثيره السلفيون ويلقى شعبية لدى بعض اليمنيين.
كما تنخرط كل من الصوفية والزيدية في علاقات هاشمية تتجاوز اليمن، فمثلاً الحبيب الجفري ينتمي للرابطة العلوية التي تمتد من بريطانيا لأندونيسيا مروراً بمصر والسودان وسوريا والسعودية، فعلى سبيل المثال، قامت نقابة الأشراف في مصر برفع قضية لمنع كتاب لكاتب يمني بعنوان “القبيلة الهاشمية.. ألف عام من الدماء” بحجة الإساءة للهاشميين (56).
هذا ويلاحظ الكثير من اليمنيين وجود ما يشبه التراضي بين الصوفيين والحوثيين، حيث لا يهاجم الصوفية الحوثيين ويرفضون الإشارة لهم سلباً مما عزاه البعض للمكانة المتميزة للهاشميين لدى الطرفين وطبيعة نفوذهم وتأثيرهم في كل من الجماعتين، من الممكن أيضاً اضافة وجود عامل العداء المشترك للسلفية والوهابية.
في المقابل تحاول السلفية اليمنية الرد على اتهامها بالفكر المستورد بأن ترجع جذورها للعلامة اليمني الشوكاني، بصفته الذروة لمدرسة دينية يمنية أصيلة بدأت من ابن الوزير في القرن الخامس عشر مروراً بعلماء مثل اسماعيل الأمير وصالح المقبلي والحسن الجلال، وهذا يتضح من تسمية كثير من المعاهد السلفية بإسم “ابن الأمير” أو “الشوكاني” وتدريس بعض المعاهد السلفية لكتب للشوكاني. من الصعب افتراض إن السلفية امتداد للشوكاني الذي كانت مدرسته تؤمن بالاجتهاد والقياس كأدوات منهجية في استخلاص الفتاوي، مما يخالف السلفية ومعتقداتها.
كما كانت الكثير من المعاهد ومراكز العلم السلفية تنكر عنها صفة الانغلاق والوهابية من خلال تدريسها لبقية المذاهب خاصة المذهب الشافعي، كما إن جامعة الإيمان كانت تدرس حتى المذهب الزيدي (57).
تختلف الزيدية عن الصوفية والسلفية بأنها محصورة باليمن، معاهدها لا تستقبل طلاب من خارج اليمن وتعد حالة خصوصية يمنية، لذا تركز الزيدية على خصوصيتها اليمنية في خطاب الهوية الذي تركز عليه، فمثلاً أبرز الصحف الرسمية للحوثي تسمى “الهوية”، وهم يتصورون إن هذه الخصوصية اليمنية للمذهب الزيدي يميزهم عن غيرهم من المذاهب ويجعلهم معبرين أصيلين عن الهوية اليمنية.
وفي حديث الهوية، لا يمكن تجاهل إن مختلف التيارات الدينية متشددة أو معتدلة تمتدح القبيلة وتتماهي مع الهويات دون الوطنية مثل القبيلة والمنطقة والمذهب وتدعو للوحدة الإسلامية، لكنها قد تنخرط بسهولة في توجهات انفصالية ضمن الدولة القطرية مثل حزب النهضة الإسلامي في الجنوب وكذلك السلفيين المقاتلين مع المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً.
تبدو العلاقة مع السعودية أيضاً مشتبكة لدى جميع الأطراف وليست قاصرة على المدرسة السلفية التي تتبناها، فالسعودية استضافت بعض الأسر الهاشمية الحضرمية بعد استقلال الجنوب وصعود الاشتراكية في عام 1967، على سبيل المثال الحبيب الجفري من مواليد السعودية، كما كانت قناة “إقرأ” السعودية تقدم برنامج اسبوعي للحبيب الجفري (58).
الحال مشابه مع الزيدية، فالسعودية استضافت الكثير من الأسر الهاشمية الزيدية بعد تأسيس النظام الجمهوري بالشمال في عام 1962، أبرزهم آخر أسرة يمنية مالكة وهم بيت “حميد الدين” بل واستضافت بعض علماء الزيدية البارزين مثل مجد الدين المؤيدي وبدر الدين الحوثي الذين عاشا في مدينة نجران الحدودية وكانا يلقيان دروس ومحاضرات هناك (59).
هذا لا يلغي تاريخ من الصدام بين الدولة السعودية وهذه المدارس الدينية، فالدولة السعودية الأولى (1774-1818) توسعت نحو حضرموت ودمرت أضرحة الصوفية فيها لأول مرة، كما دخلت في صراع مع الدولة الزيدية سواء اثناء الدولة السعودية الأولى أو الدولة السعودية الحالية (الثالثة) مثل معركتها في الثلاثينات ضد الإمام يحيى باليمن.
من اللافت أيضاً، إن كل من الزيدية والسلفية انخرطا في خطاب معادي للإمبريالية. هذا يتضح من خلال بيان حزب الحق وخطابات حسين الحوثي التي ربطت أيضاً بين السعودية وأمريكا واعتبارها للوهابية وجه من وجوه الإسلام الإمبريالي (60)، بينما السلفيين كانوا ينخرطون في خطابات معادية لأمريكا وسياساتها في المنطقة وبعضهم مثل الشيخ الوادعي انتقد السعودية بشدة اثناء حرب الخليج الأولى عندما قبلت بالوجود العسكري الأمريكي على أراضيها (61). كما انتقد كلاهما (السلفية والزيدية) سياسة الحكومة اليمنية وتعاونها مع أمريكا في مكافحة الإرهاب.
اضافة لهذا، فإن المدارس الدينية الحديثة يمثلهما السلفية والحوثية تشتركان في اهتمامها بمفهوم تطهير الدين الإسلامي وتوحيد المسلمين، ولأجل الوحدة الإسلامية يرفض كلاهما الاجتهاد ويعتمدان على النص ويرفضان الاختلاف، هذا بالمناسبة يسهل تسيس تلك المدارس لأن عادة رموزها ليست مرجعيات دينية مهمة بسبب انفصالها عن الإرث الإسلامي الضخم والمعقد واعتمادها على النصوص المقدسة فقط.
هكذا نلاحظ إن الجدل بين هذه المدارس ليس فقط ديني بل ينخرط في مضمون الهوية اليمنية ليثبت أيهما أكثر أصالة وتعبيراً عن اليمنيين، وهذا يتداخل كثيراً مع النشاط السياسي لأتباعهم في اثبات إنه الفصيل الأكثر وطنية.

خلاصة

الفارق الأساسي بين المدارس الدينية التقليدية والمعاصرة يكمن في الهدف منها، فالتقليدية تسعى لتعليم الطلاب وبالتالي وظيفتها هو تطوير المعرفة، مما يجعلها أكثر تسامحاً مع بقية المدارس، بالتالي كانت العلاقة بين المدارس المختلفة مبني على اعترافهم ببعض وبالتالي احترام اختلافاتهم. في المقابل تسعى المدارس الدينية المعاصرة للتحشيد السياسي، لذا ينصب اهتمامها في خلق ولاء طلابها، لذا الإساءة للمدارس الأخرى يعد ضرورة في مهمتها التحشيدية مما يتسبب بصراع بينهم.
لعبت المدارس الدينية، السلفية والإخوانية تحديداً، أدواراً هامة بالسياسة اليمنية في التحشيد منذ منتصف السبعينات على وقع انقسام البلد لشمال وجنوب يتوزعان على طرفي المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، لكن الرئيس السابق صالح ببراجماتيته المعروفة بدأ بالاستغناء عن السلفيين والإخوان وحاول يقلص من نفوذهم بعد استنفاذ أهميتهم إثر هزيمة الحزب الاشتراكي في عام 1994م.
زاد من هذا التوجه هو انخراط الحكومة اليمنية في التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية لمكافحة الإرهاب بعد حادثة كول عام 2000م ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر في 2001، بالتالي توجه الدعم الحكومي بشكل ما نحو الصوفية خاصة إنها ليست ذات نشاط سياسي واضح، بينما كانت الزيدية تمثل تحدي سياسي معادي للحكومة أما السلفيين والإخوان فلقد كانت لديهم علاقة ملتبسة دوماً بالتنظيمات الدولية للعنف الجهادي مثل القاعدة.
في الصراع الحالي، هذه المدارس بدأت تؤتي ثمارها وهي لاتزال في مرحلة توسع على كلا الاتجاهين، فالمقاتلين السلفيين يتوزعون على مختلف الجبهات ضد الحوثيين وكذلك الإخوان حاضرين في بعض الجبهات، وفي المقابل تقوم الدورات الثقافية للحوثيين بدورها في التحشيد والتعبئة للحرب. بينما لم تتضح حتى الآن انعكاسات الصراع السياسي في الجنوب على المدارس الصوفية حتى الآن لكن ليس من المستبعد أن تظهر مستقبلاً.


*نشرت الدراسة في موقع مركز مالكوم كير- كارينغي للشرق الأوسط بعنوان : “استقطابات التعليم الديني في حرب اليمن”.

زر الذهاب إلى الأعلى