سيميولوجيا المدينة.. فرجة صنعاء

1-

كيف نقرأ المدينة نصاً بصرياً ولسانياً؟ معمارها، شوارعها، مقاهيها، وفضاءاتها، كتاباتها، وقبل كل ذلك إنسانها، الفرد بالأخص، بمعنى حركة المدينة وتحولاتها تاريخياً، المدينة وتنوعها وعلاقتها بالآخر المختلف ثقافياً، واجتماعياً…الخ؟

إن صورة المدينة في المخيال الثقافي الجمعي، تحمل العديد من المعاني ودلالتها المتكثفة في سياق حياتنا، روحاً وذاكرة، حيث الحميمية والشجن، والنوستالجيا عندما تغيب أو يشوبها التعثر أو تقسو على أهلها خصوصاً عند الأزمات: الحروب والتهجير والمنافي. المدينة روح وفضاء، وإنسان يعمر وينقش وجهها بعدد لا يحصى من الصور البصرية واللسانية: الإنسان جسداً وروحاً، العمارة، الشارع، الحدائق المفتوحة على الخضرة، الحياة والسلامة، والغابات، الممشى، والرصيف، المتحف، والمكتبة، الشرفة، ألوان الملبس وأشكاله، المدارس والجامعات، وأكاديميات العلوم والموسيقى، المزارات، والشعارات، والأصوات، القطارات والسيارات، النظافة، ووجوه النساء المفتوحة على الفضاء وألوان الحياة، والممارسات الثقافية والاجتماعية، مدن خالية من السلاح والمعسكرات. تنقش معالمها وواجهاتها التماثيل والمنحوتات، منثورة في فضاءاتها المطاعم، المقاهي، الساحات الكبيرة لممارسة فنون شتى من الموسيقى والفنون والرقص، والتشكيل والاحتفالات، والتنزه، والمشي ..الخ.

تقرأ معنى المدينة تحضرها من تخلفها، حملها لصفات المدينة من عدمها، من خلال تمدنها من قبيّلتها وريفنتها، وبداوتها، سلامها من حروبها، تماسكها من تشظياتها، انفتاحها من انغلاقها، فنونها متعددة الأديان الثقافات، من انعزالها وانكفائها داخلياً باسم “خير أمة”، و”الأصل والفصل”، “والقوميات، والعروبيات، والنزعات الشوفينية، والهرف من الماضويات باسم القداسة”.

 تعرف سيمياء/علامات المدينة من تعددية أشكال الحياة، فشوارعها المفتوحة: علامات عناوين اللافتات والصور، الطرقات، الأسواق، اللغات وتنوع اللهجات.. كل هذه الإشارات والعلامات، والأيقونات تشكل معنى المدينة.. الخ.

ينصب تركيزي دوماً على تعريف المدينة بالثقافي وبالحداثة. فبجانب أن المدينة فضاء ثقافي- فني متعدد مفتوح على مختلف ثقافة العالم، أيضاً، تُعرف بالديمقراطية، وبالتسامح والتعايش والجمال، تُعرف بالدولة، والمؤسسة، والتكنوقراط، وبمعنى الحرية، والمساواة، تعرف بإعلاء سلطان العقل والعلم والمعرفة، بالفلسفة والمنطق، وعلم الجمال، والأديان المقارنة، والعلوم والتكنولوجيا، صناعة لا متلق استهلاكي بحت.

وتعرف المدينة، بإشاعة روح الأنس والألفة، بأن المختلف من الأقليات مواطنون، لا غرباء، وليسوا كائنات هشة، يبتلعها الأقوى. أو تعيش تحت كنف الحماية القبلية والمؤاخاة، وأعراف “بوجهي”، بل باسم القانون، الفيصل بين الناس على اختلاف أعراقهم، وجنسهم، وأديانهم ومعتقداتهم، وعرقهم، ومهنهم.. الخ من حقوق المواطنة في دستور المدينة، لا أن تعلم في مادتيه الأولى والثانية، بأن الشريعة الإسلامية مصدر كل التشريعات، ودين الدولة الإسلام، ولغتها هي اللغة العربية الوحيدة.. الخ.

تعرف المدينة بحقك في الوجود الآمن والسلامة، والحرية، الحق في البيت، وأن تطل وجوه  النساء من النافذة والشرفة، يتناولن القهوة والموسيقى، ويجدلن زرعاتهن في أصص الريحان والأزهار والنعناع.

تعرف المدينة بالاستقرار، والاستقرار، والاستقرار. هذه المفردة التي لا تعرفها مدينة صنعاء كعاصمة، ولا المدن اليمنية كافة، طوال تاريخ اليمن، إذ يتصارع ويتقاتل فيها أهلها قبل الغرباء. سيمياء المدينة مقرون بالدولة وحضورها الفاعل وأولها البنية التحتية، فبغيابها تنتفي المدينة وأشكال الحياة.

مدينة تُعلم باستقلال القضاء فيها، لا قضاء فاسد يقف مع من استقوى، ويجير لصالح الديني والكهنوتي والمشيخي. مدينة تُعرف بالزهور، والتشجير، والغابات، والبحر والنهر، والجدول، لا مدن، متروسة بالقمامات والخردوات، والسوق السوداء، ومعتقلة بالعصابات والمليشيات في كل شبر منها، مدن السلاح فيها أكثر من الماء والشجر والغاز والتراب.

نعم، علامة المدن، المياه واللقمة النظيفة، لا أن تختلط مياه المجاري بمياه الشرب، وتسقى الخضار والفاكهة بها، يتوفر فيها الطريق الآمن ووسائل المواصلات المختلفة.

هكذا يكون حال المدينة، صورتها ولسانها، إنسانها، واستحقاقه لمطلب الحق في الحياة، والحق في مدينة تضمن العيش الكريم.

2-

مع وصول “العِكبار”

سأبدأ مقالتي هذه بقراءة الصورة واللغة لمدينة صنعاء، منذ يوم مغادرتي لها، يوم الخميس 23 مارس 2017. ولن أدخل في تفاصيل إحساس “معنى أن تغادر مدينتك خوفاً وقهراً، مدينتك التي تعشق كل شيء فيها بشرها، وشجرها وحجرها، حتى وإن قست عليك في بعض الأحيان، مدينتي التي احتضنت شبابي وتعليمي الجامعي، وتأسيس أسرتي، ونشاطي الثقافي”.

أستعير مقولة “ثمة مكان جيد لفهم الحاضر، ولطرح الأسئلة حول المستقبل، وهو أديم الأرض، مع السفر فوقها بأبطأ ما يمكن” ( ص9، انتقام الجغرافيا).

ومن يوم السفر أبدأ، ففيه غادرت البيت والركن والشرفة، وكوب القهوة وصوت فيروز، والحارثي، والموسيقى، وأصص الريحان والشذاب والبعيثران، والزبودة، والبردقوش/ الأزاب، والرنجس، والعطرة، والصباريات، وزهرة المسيح، غادرت المطبخ، التي مازالت روائحه تلاحقني، وليس بآخر، المكتبة، رئتي التي أتنفس بها، كتب أقتنيتها منذ أن كان عمري 15 عاماً، رفوف الكتب المصنفة، واللوحات التشكيلية، درج “المقارم”، و”الزنة” و”الدرع”، والبخور، وليس بآخر جزئي الذي تركته، بل روحي: فضتي، من الياقوت والكهرب حتى لو كانت أكثرها غير أصلية، لكنها سكنتني منذ أن عرفت معنى الفضة في مراهقتي، أتجمل بها في كل وقت، وفي كل مكان. ومنذ كان مصروفي بضعة ريالات أيام الدراسة أواخر الإعدادي، أصرف جزءًا منها على شراء الكتب، وبعضها الآخر: عقد، وخاتم، وقرط، وإسوارة، ويشهد باب الكبير في تعز، وباب اليمن في صنعاء، على ذلك.

من غادر الآخر، أنا، أم صنعاؤنا واليمن، لم أعرف حتى اللحظة من تخلى عن الآخر؟

كل ما أعرفه، غادرتُ الشبابيك، وخربشاتي في الدفاتر، وأقلامي التي أعتقد أنها تعطيني الأفكار، غادرت جيراني الأعزاء بعضهم سلمت عليهم، وأكثرهم لم أسلم عليهم خوفاً وخشية أن يتسرب خبر المغادرة، فالمليشيات كانت تغرق حوشنا، وشارعنا، ونفوسنا الهشة تخاف كل شيء، بما فيه ظلنا، غادرت دون أن أحضن أطفال الحوش الذين لعبت معهم، والتقطت لهم الصور وهم يلعبون ويضحكون، غادرت الشارع والبوفية، ومن كنت أتبادل معه التحايا والابتسامات الصباحية، في طريقي إلى العمل، ويردون على التحية بأكرم منها: تفضلي عصير ليمون يا أستاذة، لم أسلم على عم شرف، وهو يقول لي كل صباح، ومساء من 2011، ارجعي بيتك يابنت أحسن لك، ثورتكم ثورة قبايل وعسكر ومشايخ، وفقهاء، وأنا أضحك، وألتقط له صور بمشقر الريحان، وهو يؤشر بسبابته، اغضبي الشيطان يابنت عثمان، ماهيش ثورة، “بورة” يا بنتي، وبعد أشهر والحرب في شوارعنا والبيوت من “طاقة لطاقة”، وتهجير السكان، ومحله المغلق، وآثار الخراب على البيوت ووجوه الناس، قابلته، وابتدرني قائلاً: مش قلت لك، ما صدقتيني، ثورة ولا مش ثورة يا بنت عثمان، ونضحك معا حتى يتشغررين عيوننا بالدموع.

لم أودع الإسكافي، وصاحب البسطة، والعمة قبول عاملة النظافة، ومجنون حارتي الذي يجلس في الطرف القصي من شارعنا، بالضبط عند إحدى جداريات الجرافيتي، لـ”لون جدار شارعك”، لصورة إنسان “سيزيف اليمن”، باللون الأسود، يحمل صخرة على ظهره من علو منحدر. غادرت الرصيف الضيق المهشم، والقمريات، وأنس كان هناك وهناك، وإن قل كثيراً في لجة الحرب وتوحشها، لم أسلم على حراس بوابة المجمع. غادرت عمري الذي كنته في صنعاء منذ أن كان عمري 19 عاما، منذ أن وطأت أرضها منتصف 1984، لدراسة الفلسفة في كلية الآداب جامعة صنعاء. وصورة اعتداد بالنفس: طالبة “سوق الصميل” بتعز إذ تحل على جامعة صنعاء. حاجة مدهشة آنذاك مصحوبة بـ”فشرة” خفيفة!

في ذلك الصباح، حشرت نفسي وابنتي في الدباب الأبيض، أو ما يطلق عليه في تعز “العكبار”، بين جموع المسافرين، رجالاً ونساءً، وعفشهم الذي يزاحمنا في مقاعدنا، وبين أرجلنا، وفي كل شقوق “العكبار”، ناهيك عن سقفه التي كانت حمولته حمولة قاطرة.

كان صباحاً دافئاً، من أيام الربيع، لم أنم ليلتها، ولياليها من قبل ومن بعد أيضاً، ما بين توجس، يتعالى بالخوف، ضياع الهدف، إلى أين، ولماذا، وكيف..الخ، أسئلة بلا إجابة حتى اللحظة. ما بين وداع، وتأمل وتألم، وآهات أسكبها هنا وهناك، على الجدران، والمكتبة والكتب، والفرش، والمخدات، وطاولة الكتابة، والمطبخ، وركن الصحون الزجاجية والأكواب التي لم أستخدمها، أنتظر الحفلة التي لم تأت حتى اليوم. أغرس نفسي بين ثنايا الصور، واللوحات، والركن الصغير لمكتبي. طعفرة نفسية وذهنية وجسدية، تشظيات “أسافر/ ما أسافرش”، وتفتيت المفتت الذي عشته سنوات ويعيشه كل اليمنيين، ذهانيات أسئلة الحرب والاقتلاع اللانهائية!

**

في ذلك اليوم على الساعة السادسة صباحاً تقريباً، رن زمور/هاون دباب الرحلة، أنزلنا الأغراض، شنطتان، واللابتوب والكاميرا، ووثائق الهوية، وكان السؤال في لجة ما نشاهده ونسمع به، تلك البولسة المريضة لذهنية المليشيات المستعرة والمنتشرة كالذباب في الطرقات والنقاط التي لا تعد ولا تحصى، فلو نجوت بالصدفة من مليشيات الحوثي، فلن تنجو من مليشيات بما يطلق عليها “المقاومة، أو عصائب الانتقالي، إنهم مهوسون بأجهزة التليفونات، والكمبيوتر والكتاب، والكاميرات والصور، إنهم يقبضون على عقلك قبل جسدك، يا ترى، أين أخفيهم، هل بين الملابس في الحقيبة، أم داخل شنطة اليد؟ أم تحت الشرشف”، لكنها كاميرا، ولابتوب فيه كل شيء يخص عقلي وروحي؟ أين أخفيهم ياربي؟

وفي لحظات الضعف، عملت كما يعمل كل ضعيف وهش، أن أدخلهن في الحقيبة وعلى الله، فالله الحافظ، وعليه توكلنا. وكما طمنّي أحد المقربين، من أن (بعض) المليشيات لا تفتش شنط النساء، وكله يعتمد على الحظ، (أضحكني نصحه، وهو يهمس لي، أول ما تشوفي المليشيات، اقرئي المعوذتين، قل أعوذ برب الفلق، وسيذوبون).

لكن هل توقفت الطعفرة؟

  كانت حالتي مغيبة: “هلني ومهلنيش”، أو كما قال غليانو”أنا حفنة من ألياف ممزقة”، حيث ظللت مثل المجنونة، أطلع وأنزل ثلاثة أدوار، من الشقة إلى الدباب، مرات عديدة، لا أدري لماذا، هل أبحث عن شيء ما نسيته؟ لا أعرف حتى اللحظة؟ فقط عيوني تصور وتخزن كل شيء.

 لم أستطع تفسير سر خفة ذلك الطلوع والنزول، وأنا أعاني من ألم العظام، بسبب الحبسة لما يقارب من سنتين وثلاثة أشهر في الشقة. حتى اللحظة لم أعرف لماذا بعد أن كنت أستقل مقعدي في الدباب وأجلس، وفجأة أقفز بين العفش، أقول للسائق والركاب لحظة من فضلكم، ثم أنزل، وأهرول نحو البيت، ثم أرجع بعد قليل أصعد مرة أخرى، وهكذا، كأنني ألعب “ملاحقة” أنا ونفسي. أما السائق ظل يتكظم. وأخيراً، كان صوت هاون الدباب عالياً، وبنبرة غضب، تأخرنا يا والدة، هيا بسرعة، هل في شيء أضعتيه؟!

كان السائق والركاب ممتعضون، فقد تأخر الوقت، وبالتأكيد لم يجدوا جواباً لسر “اللهفة” المضاعفة التي انتابتني لحظة وصول “العكبار”. وفي الأخير، اكتشفت أني أخذت المفاتيح معي، وكتاب “مشعته” من أحد رفوف المكتبة، كيف أخذت المفاتيح، ومازال منصور في البيت؟ إنها لسان اللامغادرة، الروح الملتصقة بالجدران، لقد سكنت هناك، علها بين أوراق رواية، وديوان شعر، وأساطير وحزواي الشعوب، أو سجادة “الزعل المأربية”، نعم الروح مازالت باقية، لسان حالها “نعم سأغادر، وسأرجع بعد ساعة، سأذهب إلى باب اليمن ربما، أو شارع حدة، وأرجع كالعادة”، لكني، لم أرجع حتى اليوم، ها نحن سندخل السنة السادسة، والمفاتيح في قعر الحقيبة، نعم، لم نرجع. “راجعين، ياهوى راجعين”، لم يكن سوى صوت فيروز الصباحي في المنفى، يبدد قليلاً من وحشة، معنى اللابيت، ومعنى اللا”صنعاء”، أن تكون عار منهما. فحبل المليشيات يغلظ ويخنق ويفتك، هكذا تقول المفاتيح المنسية، والتفتيش المهووس بالصور كل يوم وكل ساعة، بمعنى اتركيني أنام، عاد المراحل طوال، ربما، لا نهائية، نعم، لسان حالها، ليس ثمة ضوء في آخر النفق، ولسان آخر، لن أسامحه، لقد “زدت علينا يا فتحي أبو النصر وأنت تردد كل ساعة سـ”ننجو”.

ظل “العكبار” يترنح بنا طوال الرحلة، من شدة تكدس العفش والركاب، وظل يواصل مشاويره في الشوارع والحارات، يأخذ طرود الناس من رسائل وعفش، ونحن خائفون من دورانه المارثوني، نحدثه بأن يكف عن ترس الدباب بالمزيد من الحمولة والأثقال، لكنه لا يسمع فهو متعود على ذلك التكدس، فـ”كله على الله”، فسائقنا مدين لأسر بأكثر من نفس، وفي رقبته العديد من الضحايا، منها قريبة لنا. كان التعاقد معه أن يوصلنا الى “الراهدة”، ومنها انطلق مع ابنتي الى “عدن”.

3-

صورة صنعاء من نافذة “العِكبار”:

السماء تمطر جثثاً في شارع “الستين”:

“لا تقول المدينة: إنها نادته، المدينة: التي في النهار تأكل الضوء، وفي الليل تبصقه، تنجب الحياة ليلاً وتدفنها نهاراً” (غليانو، الأغنية التي لنا، ص144).

وأنا أدلف العكبار ملفعة بالشرشف، مع مريم ذات الـ 12 عاما، محجبة لأول مرة، ومسدلة جزء من المقرمة على وجهها كلثام. طار بنا العكبار من شارع الزبيري في اتجاه شارع الستين، كان الوقت آنذاك صباحاً متخففاً من الزحام، سوى الدبابات الكثيرة عند الجولات، والعربات وشاصات نقل عام، والموتورات وأصواتها الكابحة، وعكفة المليشيات المذرذرة في الطرقات. حيث كانت الصدمة، فالشارع الواسع والممتد، بل وأحد أهم الشوارع الجديدة في صنعاء واليمن، تكسوه خضرة وصفرة الموت، وحشة “زؤوبة” المياتة، صور جثث بدت مطلية بلون الإسفلت الساخن عند صهر الطرقات وانبعاث أدخنته، صور وكتل الشهداء تنخد وتنغرس في روحك، وعينيك، ومدامعك، تنغرز في عمق البؤبؤ الذي كان يسوّد ويحمر، ويدمع من هول ما يشاهد، الستين المخنوق والمتعفن بالأخضر من الرايات والكتابات الدينية وملازم الجهل والغباء المضاعف، والتعبئة الجهادية، والأقمشة الخضراء المهلهلة المعلقة على السطوح/ وأعمدة الكهرباء “بلا كهرباء”، وعلى كل شيء. أما صور (شهداء جهادهم وغزواتهم الإلهية) فقد كانت كبيرة ومعلقة على أعمدة الكهرباء/الكامبات، وواجهة الجسر وأعمدته، بعض الصور صغيرة مابين مربعة ومستطيلة تتكدس بعضها على “الكامبة” الواحدة، وعلى الجدران، وواجهات المحلات.

كأن صنعاء في ذلك الصباح طرشت على وجهها بلون الموت، وتكفنت الأخضر الذي يلطخ ويسيل في وجوه الناس، وأعينهم، والطرقات، والبيوت، والأزقة، حتى في وجوه أطفال المدارس، الذين رأيناهم يعبرون الشوارع، وعلى ظهرهم ما يثقل الجسد الهزيل، ويقرمد العقل المثقل بخرافة التعليم الذي احتكرته مليشيات الجماعات الدينية “سنّة وشيعة” لقرون. كانت سماء الستين، وصنعاء مكبودة بالأخضر اللزج والسام.

وحين دلفنا إلى الشوارع  والحارات المتفرعة عن الستين، استقبلتنا نفس الغابة الخضراء لصور الشهداء. وبعض ما تبقى من شهداء 2011 متراصون في لافتة بلاستيكية، حاول عكفة أنصار الله أن يبقوها.

أمسح عيوني، علني “اكوبس”، فكيف خلال سنتين وبضعة أشهر، تطاول كل هذا الركام، جيوش الجثث المعلقة على الكامبات، وكأنها محرقة صنعها تتار العصر، لتصبح علامة لشارع الستين، علامة للمذبح والقرابين اللدنة لأطفال اليمن، لم تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة.

كأني أشاهد أفلاماً من مشاهد الحرب العالمية الثانية، أو أفلام رعب، أو ما يطلق عليها الزومبي، علني غارقة رعباً في ثنايا حزاوي الدجرة، والجرجوف، والكلبانية، أبو كلب، والطاهش، والتنين الماموث، ومنظومة الغيلان، في أساطير اليمن والشعوب، الذين لايتغذون إلا على لحوم البشر، ولا يشبعون، لكن مليشيات “عكفة الله الخضر” فاقوا غيلان الحكايات الشعبية بابتداعهم صور الجثث التي يصنعونها ويطرزونها ويحفونها بالجمالي الأخضر بحسب ثقافة الكهف- الغول.

للأسف، إنها (مدينة) صنعاء، الواقع، الحقيقة، بعد احتلال وانكتام، من قبل الجهلوت الطائفي المسلح، فتشير إلى أنها مدينة أموات وطهوش تمشى على ضحايا تنهش هنا، وتأكل هناك، وتبصق هنا، وتتجشأ الكل، ولا تشبع، فجهنمية الكهف: هل من مزيد، فهي التي تصنع المزيد، في ظل حكمها الفاشي.

وأخف وطأة لتشبيه صنعائنا، إنها مدينة أشباح ليس إلا. برغم كتب التاريخ التي تخبرنا من أنها أول مدينة في التاريخ، والحضارة، و”صنعاء حوت كل فن”، و”ما مثل صنعاء اليمن”.. الخ، من شجون متحفية ماضوية، ليس لها علاقة البتة ما تعيشه اليوم.

لبرهة وأنا أحدق في الصور التي تجدب السماء والقاع، لم أصدق ما يحدث لدرجة أني أزحت النقاب، فلكزتني ابنتي بأن أعيد اللثام، لأن الركاب يتفرجون عليّ باستغراب، أرجعته، وبالفعل كان الاستنكار بادياً على وجوه الرجال والنساء حولي، ولسان وجوههم يقول “الله يسترنا بس، نسوان آخر زمن” أسدلته مرة أخرى، أبقيت أنفي خارجا، لأتنفس، بسبب كتمة فرجة المشاهدة القاسية للقتلى والجنائز، وكتمة أجساد المسافرين المتزاحمة. وكتمة النقاب المكون من بطانتين- يا لتعاسة نساء بلادي وهن مكفنات بنقاب البطانتين الأسود- لقد كان شكلي مضحكا، ومنفراً معا، غِماق والأنف الى الخارج، ناهيك عن صورتي وأنا “مبلودة”، كمن أصابها الخبل المنغولي وكأن خبل العالم كله تكثف في وجهي، وانفعالاتي. فظلت ابنتي تضحك عليّ حتى اليوم” تذكري ياماما، لما كنا…”.

أفتح شباك العكبار أكثر، فتتبرم المرأة خلفي، أخرج رأسي والدباب يطوي المسافات سريعا، أحدق وأغرس عيوني في ساريات الموت الخضراء للقتلى التي لا تنتهي ممتدة في كل مكان، في وجوههم، عيونهم، والعيون أكثر، فيتداخل الواقع بالخيال، من هول ما أرى، هل هي صور أم مشانق؟

صور الضحايا، والجثث أو ما يطلق عليهم في العقلية الحوثية “شهداؤنا عظماؤنا”، تمطرنا وتسيل في الشارع الرئيسي، والشوارع الفرعية والأزقة، والجدران، والكامبات، والأعمدة التي ركبت عليها الأسلاك المتشابكة، والنوافذ، وبعض سطوح البيوت، ففي كل كامبة، وعمود، سنارة، عودي، بقايا شجرة، وتد، شوكة، كيس بلاستيكي، كرتونة، علبة، في كل زاوية وجدار، أبواب المحلات والبيوت والعمارات، والشرفات والنوافذ المعكومة، المدارس، الأشجار اليابسة، المواسير المكسورة، دبب الغاز، الجنابي، واجهات السيارات، والعربيات الكبيرة،  الموتورات، الدبابات، والسيارات المسكونة منها والخردة، خصوصا الشاصات التي صهرت باللون ولونها الأصلي الكاكي، وعليها “عكفة الله” التي تسحق المسافات، وعليها كل ترسانة الأسلحة كمعدل 12، والكلاشنكوف الذي يعتلي أكتافهم اللدنة، كون بعضهم أطفالاً، وبزاتهم وجوههم الكاكية أيضا، عدا عشرات العكفة المذرذرين عند كل شبر في الطريق، بعضهم مرابطون عند بعض الأماكن الهامة من وزارات ومؤسسات “ماكان يطلق عليها مؤسسات الدولة”، ومستشفيات، ومراكز، وكذلك الجولات، وبوابة السوق الذي يقع تحت الجسر. كان الجسر الممتد، لايوحي بالأمان، كلما غرست عينيك فيه، تجده بائسا، أما أسفله وعلى جوانبه، كانت تربض اليمن وأهلها، الـ”ملطط” بالأخضر اللزج.  كل شيء مصهور به لتبدو صورة الضحايا/ الشهداء، كعناقيد تتدلى، كمشنوقين في مزاد مشهدي لا نهاية له. فكل رقبة أو رأس كما يطلق عليهم في ميزان أرقام، الجهاد/ الكبش/” مشروع شهيد”: رأس.

 مزاد مشهدي لانهاية له، وجوه مشنوقة، حتى وإن التقطت صورهم أحياء وارتسمت على محياهم ابتسامة، إنها صور لبشر تاهوا، ضاعوا، وعلى ومن يجدهم، الاتصال برقم كذا، مثل تلك الإعلانات في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة.

ليس من خيال أن صنعاءنا بدت في ذلك اليوم المشهدي، مدينة طحلبية مبنى ومعنى، فهي تبتلعك كسمك قرش جائع، أمام ذلك الكم الذي لا يعد ولا يحصى، من صور الموت العبثي الذي كست وتلطت به فضاءات شارع الستين بتفاصيله، وكل شوارع صنعاء بل والمدينة عامة، وكل المدن الواقعة في قبضتهم. كان اللون الأخضر هو السيد النفاث “الجرجوف المسلح” الذي يبخ مخضريته السامة في النفوس، فيصيبها بجانب الحزن الأليم العته الأزلي، المصحوب بالهلع، والتلاشي، والهلع أخفهم: “لقد شرخها نصفين وأحال شروخها أشلاء، كان يبعثرها حيناً بين جثث “الغرفة السابعة” وأحياناً يكومها في أحد أركانها قبلها كما قد استهلك خلاياها الحية والميتة، عاث في كينونتها فساداً ودماراً، هرق حكايتها الدافئة بين أقدامه، استباح ماضيها الحالم وغرز في كينونتها شظايا قاتلة ثم تربع على غصن الزهرتين الغضتين امتص رحيق ابتسامتيهما الملوحتين في أفق الضياء، حطم زمزميتهن بمائها البارد، داس شرائط شعرهن الحمراء، كَسّر أقلامهن الملونة ومزق لوحتين لم تكتملا بعد.

لكن أتدرون ما فعل جرجوف مدينتنا بعد ذلك؟ انتصب على منبر الغرفة السابعة ليلقي على الأشلاء رسالته الأخيرة فتح موسيقى هادئة وبصوت هادئ قال:

أما بعد فمن قلب الغرفة السابعة أهدي لك هذه الأمنية، أتمنى لك ولزهرتيك كل خير.. ومع محبتي” ، عن قصة الكاتبة، “جرجوف مدينيتنا”، “المجموعة القصصية، يحدث في تنكا بلاد النامس، الفائزة، بالجائزة الأولى في مهرجان الشارقة 2000”.

لا نغالي، إن قلنا إن صنعاء مدينة محتلة بالاحتلال الخضاري الطحلبي شديد السمية، أنه لون الاحتلال الحوثي الكارثي لليمن، ولصنعاء الحبيبة الغارقة في بحره الملوث الشديد السمية. لون الخراب والدمار، لون التعصب والعنصرية، والهمجية. إنه الأخضر الفاشي الذي “يفوش” ويندلق موتاً، وكراهية، وتعصباً، الأخضر الفاشي، خالق الجثث، وصانعها المبترع عليها دسعاً وزاملاً. لقد حول صنعاء، وصعدة، وعمران، وحجة، والحوبان والمناطق الواقعة تحت أقدامه، إلى جثة في صورة.

4- سيد الطاعون، وروثنة المدينة:

كيف تم تحويل صنعاء، إلى مدينة الطاعون الأخضر، فأين، هي  صنعاء حوت كل فن، وصنعاء مدينة مفتوحة، والمتحف المفتوح؟ ومن قال لنا ذات يوم “عليك بالمدن ولو جارت”، تذكرت، قصيدة شاعر اليمن عبد الله البردوني رحمة الله عليه:

أتدرين يا صنعاء ماذا الذي يجري
تموتين في شعب يموت ولا يدري
تموتين.. لكن كل يوم وبعدها
تموتين تستحين من موتك المزري
ويمتصك الطاعون لا تسألينه
الحاكم؟ فيستحلي المقام ويستشري
(البردوني، مدينة بلا وجه)

مدينة استعراض الطاعون الأخضر السمي، لسيد الطاعون، والمقاول الأول للجثث، بزر “انفروا خفافاً وثقالاً”، و”الموت لنا عادة”، لتصبح صنعاء واليمن ذات الوصف الشهير، اليمن المتحف المفتوح، لكنها اليوم مفتوحة، على مخضرية الحرب والجثث، ليجعلنا عُبادا للموتى والمقتولين.

فـ”حال المدينة، فالحرائق والحروب والطاعون والثورات والهامشية الجرمية والكوارث، باختصار كل إشكالية معاداة المدينة وإشكالية سلبية المدينة الداخلية أو الخارجية هي إشكالية تحمل سمة بدائية بالمقارنة مع النمط الحقيقي لفنائها” (جان بوديار المصطنع والاصطناع، ص137).

الحوثية المخضرية، إذ تجاهد ضد المدينة، وإنسانها، إنهم يكرهون المدينة، وأي بنية قد تأسس لمشروع مدينة، فالدولة، يعدونها في الحرب، والسلم إن وجدت: غنيمة، متراس، وديوان قات، وسوق تهريب، وسوق سلاح، ومذهب عصبوي وعصابية قبلية وعرقية كرابط بينهم، بمعنى آخر، قوتهم في ألا تكون هناك دولة، وقدرتهم بالتالي على “روثنة المدينة” بمخرجاتهم، فصرخة المخضرية في وجه المستكبرين، ماهي إلا صرخة في وجه صنعاء المدينة، ووجه كل اليمنيين، وقبلها كانت صعدة.

مدينة الجثث “الشهداء” المحنطة في الصورة، والمتحركة بجنون نحو حتفها، فجأة ترآى لي صاحب البرعي “وخلطة روث الحمار” في دست البرعي، التي طبخت في قدر مخضرية الجهاد والشهادة، والقرآن الناطق، وريقت للناس، أكلاً ومشرباً وشفاء ودواء ومرجعية، فلم يكتفوا بالبصقة الإلهية لأجدادهم “المشعوذ/ السيد/ المُبشع” لعلاج الأمراض المستعصية في القرون الماضية، فقد استحدثت الروث الإلهي للأنصار كمنتج حصري ووحيد لهم.

5- الارتداد إلى الحنين:

صنعاء وسيلانات الأخضر/ المخضرية في ذلك الصباح، كانت دورياتها معمرة، بالمليشيات، بالزنن، والجنابي والعتاد العسكري، واللبس العسكري، تجوب الشوارع، حتى بوابة “باب اليمن” لم يسلم من مخضرية الشهداء، بما فيها بيوت صنعاء القديمة وباب اليمن. وأتذكر في أعوام ماقبل 2011، وأنا أصور في صنعاء القديمة، بدأت شعارات مكارثية الصرخة، على واجهات البيوت، باستحياء وقليلاً قليلا، في الأزقة، وبعض المحلات والأسواق، إلى أن أغرقت صنعاء والمدن والقرى بصرخاتها القاتمة والداعية للموت مع 21 سبتمبر 2014. 

يرتد بي الحنين، إلى لحظات إدخال رأسي الثقيل كخرسانة، أستند على كرسي الدباب، وأصوات طرش النساء والأطفال من دوخة السفر. أمر بشريط صنعائنا التي نعرفها، حتى وهي في حالتها الرثة، لكنها كانت المدينة الأقرب إلى قلوبنا، “صنعائنا وإن طال السفر”، أتذكر، كيف كنا نقطع أسفارنا، وإجازتنا لنسرع على صنعاء البيت والمأوى، و”الزوّة” الحميمة في أحد أركان البيت.
استحضرتني كتابة لحكاية أليمة، للكاتب “أحمد ناجي”، عن الأصدقاء، وديوانهم الذي كان يجمعهم بألفة، هي وجع كل من يسكن صنعاء، ويسكن اليمن، يمن الخوف والفجيعة التي تسكن كل جزئياتها من بشر وشجر وحجر: يقول عن صديقه أكرم “قال لي، أخاف ألا أنجو، لكن إن جئت إلىّ أو جاء أحد الأصدقاء غداً، فستجدون مفتاح الديوان مخبأ تحت سجاد الباب”.
ويحكي أيضاً “كان سقوط صنعاء في العام 2014، بداية التغريبة، بدأت صنعاء، بفقد ملامحها شيئاً فشيئاً، وتنحسر الآراء المختلفة من الميادين العامة، ومن الشوارع، ومن  الصحف اليومية، ومن كل شيء حولنا، حتى وجدنا أنفسنا لا نرى إلا لوناً واحداً، يمارس سطوة القمع مع كل شيء، لا يشبهه. مع مرور الوقت، صارت طبقات اللون الداكن تضيق ذرعاً حتى بالطبقات الفاتحة من اللون ذاته، تسللت الحرب إلى داخل الديوان، وتربعت على أجواء المكان. فقدنا من بعدها الكثير من الأصوات التي باتت أماكنها فارغة.

قبل أيام أخبرني “أكرم” أن الديوان صار فارغاً من الأحاديث والناس. سرد لي بحسرة أين ذهب الأصدقاء. “هناك من هاجر”، وهناك من ذهب إلى القتال ولم يعد. وبعض الأصدقاء حولتهم الحرب إلى أعداء يترصد بعضهم بعضا، والقليل ممن بقى أغلق باب منزله وحيداً. لقد حولت الحرب ديواننا إلى مأتم مفتوح”. (من مقال الحرب التي فخخت ديوان المدينة، أحمد ناجي، 2 أغسطس 2021).

Exit mobile version