مثلث الرعب ومنطقتنا العربية

الأوبئة، الحروب، الجفاف.. هو مثلث الرعب الذي يجتاح أوروبا في الوقت الراهن، والذي قد يهدد بابتلاع حضارة بأكملها في زمن قياسي.
أول مظاهر هذا المثلث هو الارتفاع الهائل في كلفة المعيشة، والذي من شأنه أن ينقل حوالي ستين في المائة من السكان إلى حدود خط الفقر إذا لم تتحمل الدول جزءاً من تكاليف المعيشة، وهو ما سيؤدي إلى زيادة الاقتراض الحكومي، وارتفاع معدلات التضخم، وبالنتيجة مواصلة ارتفاع كلفة المعيشة في اتجاه لولبي تصاعدي.

على سبيل المثال: يتوقع أن يصل التضخم في بريطانيا إلى 18٪؜، وهو معدل قياسي منذ عقود طويلة، ولن يتوقف عند هذا الحد مع ارتفاع أسعار الطاقة بأكثر من 80٪؜ بمتوسط ارتفاع من 1,1 ألف جنيه للأسرة المتوسطة إلى 3,6 آلاف جنيه.
كما أن الجفاف أثر على أكثر من 80٪؜ من أنهار بريطانيا، حيث انخفض منسوب المياه فيها إلى مستويات قياسية، ومثلها دول القارة الأوروبية.

هذا الوضع لن يقتصر على أروبا والدول الصناعية، بل سيمتد أثره وبشكل أقوى على الدول النامية، وخاصة منطقتنا العربية، الأمر الذي ينذر بتقلبات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية خطيرة في المدى القريب.

لقد تعودت الدول الصناعية أن تلقي بجزء كبير من مشاكلها على الدول النامية، الغنية والفقيرة منها على السواء، والتضخم الذي يضرب البلدان الصناعية يعاني من آثاره المواطن في البلدان النامية على نحو أشد وأسوأ.
وفي حين أن هذه البلدان لا تشعر بالرخاء الذي تعيشه البلدان الصناعية، فإنها تدفع ثمن الركود الاقتصادي والتضخم في تلك البلدان على نحو يؤكد أن تقسيم العمل الذي كرسته المرحلة الاستعمارية بأبعادها الامبريالية على الصعيد العالمي لا يزال يعمل بآلياته التي تتجدد عبر الزمن من خلال احتكار التكنولوجيا والعلوم باعتبارها القوة التي حلت محل الهيمنة بصيغتها التقليدية القديمة، والتي لم تعد تستخدم إلا حينما يتجاوز بلد ما الحرم الذي ينتظم في إطاره هذا النمط من تقسيم العمل.

في وضع كهذا تحاول الدول الصناعية التهرب من مسئوليتها تجاه هذه الدول بدوافع أنها لا تراها مؤهلة للتضحية بجزء من مكاسب دافعي الضرائب في بلدانها لأنها لا تبدل الجهد الكافي للتنمية، وأنها مصابة بداء الفساد الذي يستنزف الجزء الأكبر من الموارد لصالح الحكام والمتنفذين، وأنها تفتقر إلى الشفافية في عرض مشاكلها، وأنها لا تحترم حقوق الإنسان.. وفوق هذا فهي لا تتوقف فيها الحروب، والعنف، وأنها تعمل بإرادة وبدون إرادة على خلق شروط لبيئة الإرهاب.
وفي حين أنها لم تلتزم حتى الآن بالسياسات الجادة التي تؤمن إخراج هذه البلدان من نفق التخلف باعتبار السبب الأساسي فيه هو الموروث الاستعماري الذي أنشأ تقسيماً للعمل لا زال ينتج آليات تعمل في الاتجاه الذي يبقي هذه البلدان متخلفة، فإن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن هناك ما يجعل المساعدات الاقتصادية للدول النامية بتخصيص جزء من الدخل الوطني الإجمالي للدول الصناعية مسألة ملحة، تتجاوز الجانب الأخلاقي.

جميعنا يدرك أن تحفيز اقتصاديات البلدان النامية بجرعات من التنمية والنمو الاقتصادي يمد اقتصاد هذه البلدان بحاجة متزايدة للاستيراد مما يحرك الإنتاج الصناعي في البلدان الصناعية ويرفع حجم التبادل التجاري لصالح البلدان المصدرة.
ولذلك فإن الدول الصناعية الكبرى أخذت منهجاً في علاقتها بالدول النامية يقوم بتحفيز النشاط الاقتصادي في البلدان المحيطة بها، وذلك ما عملته اليابان من فترة مبكرة مع ما سمي حينها بالنمور الاقتصادية الآسيوية حيث قامت بنقل قطاع واسع من صناعتها الى هذه الدول بحثاً عن العمالة الرخيصة والمؤهلة، وحققت هذه الخطوة نجاحاً كبيراً، فقد وفر ذلك قاعدة صناعية واقتصادية وتجارية كان لها أثرها الكبير على اقتصاد اليابان واقتصاد هذا الإقليم واقتصاد العالم.
وبعد سنوات عملت الصين بنفس المنهج.. ثم انتقلت إلى إفريقيا بتنفيذ برامج انمائية واسعة، ولحقتها اليابان مؤخراً بعقد المؤتمر المشترك لها مع إفريقيا في تونس هذه الأيام والذي خصصت فيه مبلغ 30 مليار دولار للتنمية في إفريقيا لمدة ثلاث سنوات.
وفي حين يتحرك العالم نحو إفريقيا، وأمريكا الجنوبية، بقي شرقنا الأوسط، وخاصة منطقتا العربية تحت وطأة الحروب، وتفكيك الدولة، واتساع رقعة الفقر والجوع في ظل وجود فائض مالي يزداد مع ارتفاع أسعار الطاقة على نحو يصبح معه تبرير هذا الوضع مجرد ثرثرة لا معنى لها.

ولا يمكن تفسير ذلك إلا بأن القوة التي تصنع المنهج العام للسياسة في هذه المنطقة لا ترى فيها سوى الفائض المالي الذي يجد طريقه إلى صناديق الاستثمار طويل الأجل في البلدان الصناعية.

وفي حين أدركت اليابان أنها لا يمكن أن تؤمن استمرار نموها الاقتصادي إلا بمساعدة دول محيطها الجيوسياسي وانتشاله من حالة الفقر الذي كانت تعيش فيه إلى الوضع الذي أصبح ينتج ديناميات اقتصادية وتجارية عالية لاقتصادها واقتصاد اليابان والاقتصاد العالمي.
منطقتنا العربية لن تخرج من كوارثها المتكررة وحروبها إلا بمثل هذا المنهج الذي يؤمن تنميتها واستقرارها على نحو تشاركي، تبادر فيه دول الفائض إلى وضع استراتيجيات توازن فيه على نحو منهجي حسابات الدول الصناعية ومشاكلها عبر توافقات تخرجها من الحسابات الصغيرة إلى الحسابات المصيرية.
ما لم فإن هذه المنطقة العربية ستبقى دالة فيما يصيب العالم من كوارث، ومنها ما يتعرض له اليوم من مخاطر مثلث الرعب الذي يخيم على العالم.

Exit mobile version