هل الانفصال في اليمن ممكن؟



لا تخفي قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي طموحاتها في عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه في 21 مايو (أيار) 1990، وهو اليوم الذي سبق رفع علم دولة الوحدة التي تسببت حرب صيف 1994 بإحداث أعمق التشوهات فيها، ولم تتمكن كل الإجراءات التي اتخذت من تخفيف آثارها السياسية والاجتماعية لأنها تجاهلت جذور المشكلة وظلت تحوم حولها.

تراكم الغضب والحنق في الجنوب بلغ أوجه عام 2007 بالإعلان عن إطار يضم العسكريين الجنوبيين المسرحين قسراً بعد السابع من يوليو (تموز) 1994 (اليوم الذي انتهت فيه المعارك باجتياح كل المحافظات الجنوبية وانكسار الحزب الاشتراكي الذي حكم الجنوب لعقود)، وأفشلت نشوة الانتصار المتعالي المحاولات المتواضعة للتعامل السياسي والقانوني الجاد لمعالجة الآثار الحقيقية لتلك الحرب التي هزت المشاعر الجامحة المؤيدة للوحدة وأدخلتها في نفق غامض النهايات حينها وربما حتى الآن، وأعمت لذة النصر العسكري صنعاء فتجاهل حلفاء الحرب كل الأصوات التي حذرت ونادت بسرعة اتخاذ ما يزيل الدمار النفسي والإنساني الذي ألحقته الحرب بالجنوب خصوصاً وانعكس على كل اليمن عموماً.

استمر تجاهل حلفاء الحرب ومن ضمنهم الجنوبيون المعروفون بالزمرة بعد أحداث 13 يناير (كانون الثاني) 1986، الذين حصلوا على جزء من حصة “الحزب الاشتراكي” في الحكومة والجيش، ولم تتعامل صنعاء بحكمة مع الخطر والغضب المتصاعدين في الجنوب، وكان تعاملها مادياً صرفاً من دون انفتاح سياسي جاد مما أسهم في مضاعفة تأزيم الأوضاع على الأرض، إذ جرى على قاعدة منتصر يملي القواعد الجديدة ومهزوم مطالب بالرضوخ لها.

وعلى الرغم من تنفيذ كثير من مشاريع البنى التحتية في عدن وحضرموت على وجه الخصوص، فإن ذلك لم يكن كافياً لإنجاز معالجات حقيقية على الصعيدين الوظيفي والمعيشي والإنساني، ما أدى إلى تصاعد النقمة ضد الوحدة ذاتها كمبدأ وهدف، وتحميلها كل المسؤولية عما حدث بعدها، مع أهمية التذكير والاعتراف بأن الطريقة التي تمت بها كانت متعجلة ومن دون حسابات دقيقة وبدت للبعض هروباً إلى الأمام.

وزاد الطين بلة تكالب عديد من النافذين الشماليين لاحتكار الأراضي والامتيازات النفطية بعيداً من مبدأ المساواة وتمكين الجميع من الفرص المتاحة.

كان من الممكن في عام 2007 معالجة الأوضاع بهدوء لكن صنعاء ظلت على إصرارها بأن الأمر لا يتعدى عشرات من المحتجين يمكن التعامل معهم أمنياً ووصفهم بالبلاطجة، وتجاهلت تنامي الحنق ومارست القمع وتفتيت الشارع الجنوبي وشراء مواقف القوى المؤثرة فيه والاستهتار بالمعاناة الحقيقية والتقليل من مخاطرها، وفي 22 مايو 2009 فوجئ الجميع بظهور علي سالم البيض معلناً فك الارتباط للمرة الثانية (كانت الأولى في 22 مايو 1994) والدعوة إلى استعادة الدولة، ومرة ثانية لم تتعامل صنعاء مع الدعوة بالحساسية المطلوبة واستمرت في إنكار الوقائع.

في عام 2011 تصاعدت الاحتجاجات ضد الرئيس الراحل علي صالح على امتداد البلاد مطالبة بإسقاطه وملقية عليه مسؤولية كل الفساد والعبث والتجاوزات خلال سنوات حكمه بينما الواقع الذي يعرفه الجميع أن كثيراً من القوى التي اصطفت ضده كانت شريكة معه في الحكم وفي “غنائم” الحروب واستفادت منها وأثرت من تساهله مع فسادها، وكان 2011 أيضاً عام الحصاد الجنوبي إذ ارتفع صوت الدعوة إلى الانفصال متجاوزاً دعوات إصلاح الوحدة والفيدرالية بين إقليمين.

كانت لقاءات “الموفينبيك” فرصة انشغل عنها الجميع بالحديث المنمق والتنافس الخطابي والإدارة السطحية، وبالغ المشاركون في قدراتهم على إحداث التغيير، ولم يتم التعامل الجاد مع ما صار يعرف بالقضية الجنوبية، بل استغلها الرئيس هادي المسكون بأحداث يناير 1986 فرصة لتفكيك التكتلات الجنوبية، مبالغاً في قدرته السياسية على السيطرة عليها والتحكم بها. وعلى الرغم من نجاحه الظاهري فإنه أسهم في خلق تكتلات أكثر تطرفاً من تلك التي كانت تنادي بالحوار الشامل.

وكانت الطامة الكبرى في طريقة إعلان تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، وهو أمر أثبت السذاجة السياسية للمشاركين في إنجازه، وتم التوقيع على الوثيقة قسراً من دون مبررات علمية ووطنية جادة ولا أخذت بالاعتبار رغبات الناس الحقيقية.

لقد أدى سوء إدارة البلاد منذ فبراير (شباط) 2012 إلى تسارع الأحداث فجرى التوقيع القسري على “وثيقة السلم والشراكة الوطنية” في 21 سبتمبر (أيلول) 2014، ثم احتجاز الرئيس هادي في منزله وفراره بعد شهر إلى عدن فصلالة فالرياض، وبعدها اندلعت الحرب في 26 مارس (آذار) 2015. وفي الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 (تاريخ اتفاق الرياض) تجاوز “الانتقالي” المرحلة الأولى من الاعتراف به رسمياً وإقليمياً ودولياً شريكاً في إدارة الجمهورية اليمنية، وتضاعف الارتباك بعد إعلان السابع من أبريل (نيسان) 2022 في كيفية التعامل مع القوانين السائدة والدستور القائم وفي الوقت نفسه الدعوة لفك الارتباط.

قبل أقل من أربع سنوات جمعتني الصدفة بعدد من كبار قيادات “المجلس الانتقالي” في منزل الأخ الشيخ محمد بن فريد العولقي بأبو ظبي، وقلت لهم إننى تعرضت لانتقادات شديدة واتهامات بلا كوابح لأنني عرضت بعد انتخابات أبريل 1993، ثم كررت قبل وخلال حرب 1994، فكرة التراجع خطوة إلى الخلف نحو فيدرالية من إقليمين، ثم شرحت لهم أن فك الارتباط ليس نزوة يمكن تلبيتها بمجرد الإعلان عنها، لأن الأمر ليس نزاعاً عائلياً بين زوجين يمكن لأحدهما أن يتخذ القرار ويتحمل التبعات بمفرده.

إن واقع الحرب والأوضاع الحالية شمالاً وجنوباً شديدة الوحولة والاضطراب، ومن الصعب خلالها مناقشة أمر تغيير الواقع الحالي، لأن ذلك يستدعي جلوس الأطراف الفاعلة كلها إلى طاولة مفاوضات بمن فيهم جماعة “أنصار الله” الحوثية لبحث ترتيباته ومترتباته، وطالما أضحى “المجلس الانتقالي” الشريك الأقوى عسكرياً في مجلس الحكم الحالي فإن عليه في مساره نحو تحقيق ما ينادي به أن يعمل أولاً بصدق وإخلاص لتثبيت أوضاع البلد كلها والسعي لوقف الحروب الدائرة، وتلك خطوة يجب أن يعي أنها سابقة لكل مطالبة أخرى.

إن المطلوب من قيادة “المجلس الانتقالي” هو التوقف عن لعب الأدوار المزدوجة التي تزيد من غموض المستقبل، وإدراك أن كل الإجراءات المنفردة التي تتخذ بالقوة لا يمكن أن تصبح أمراً واقعاً مقبولاً ومستداماً من دون مفاوضات ومن دون قبول وطني وإقليمي ودولي صريح، وأخيراً يجب فهم أن ما نشاهده اليوم هو مجرد إشعال النيران في كل مكان سيفقد معه الجميع القدرة على التحكم في سرعة انتشارها وسيسقط لهيبها فوق رؤوس الأبرياء.

Exit mobile version