في ذكرى 26 سبتمبر.. تحيةٌ واجبةٌ لتضحيات مصر في اليمن

صغيراً كنتُ، عندما ذهبت إلى مستشفى في مدينة (ذمار) حيث كان والدي يعمل حينذاك.

هذا المشفى كان الوحيد في ذلك الوقت الذي يخدم إلى جانب السكان، الجرحى والمصابين القادمين من جبهات القتال القريبة في (رداع) وغيرها، خلال الحرب الجمهورية – الملكية في ستينيات القرن الماضي.

ثمة مدخل رئيسي مهيبٌ للمشفى، كانت تعلوه غرفةٌ واسعةٌ وعلى جانبيها يمتد جناحان للمبنى يتكون كل منهما من طابقين، كل غرفهما فسيحٌ وعالي السقوف، كما لو أنه كان منشأة عسكرية استراتيجية عثمانية مهمة، ربما جرى تجديدها لاحقاً.

رأيت يوم ذاك ضباطاً يمنيين ومصريين كباراً، عرفتهم من هيآتهم ورتبهم العسكرية، يحملون ملفات وأوراقاً.. يجيئ بعضهم بلا سلاح شخصي ولا نظارات سوداء غير طبيِّةٍ، ويصعدون إلى الغرفة الرئيسية التي اتخذ منها الرئيس الراحل (عبدالله السلال) مكتباً وغرفة عمليات لإدارة حربه مع فلول الملكية، ثم يذهبون عائدين إلى ساحات القتال بلا مواكب أو سيارات مدرعة.

في بعض غرف المستشفى أتذكر أنني لاحظت جرحى مصريين كثراً يتلقون العلاج مع رفاق سلاحهم من اليمنيين، ووجدت أطباء وممرضين مصريين يعملون على رعايتهم جنباً إلى جنب مع طواقم صحية يمنية.

في حدود ما كان لصبيٍ في أولى سنوات عمره أن يعيه -وكان ذلك قبل نكسة يونيو / حزيران العام 1967، وحصار السبعين يوما لعاصمة الجمهورية الوليدة ما بين العامين 7-1968 بعد عودة القوات المصرية- كان لا بد أن أسأل والدي، أين ذهب المصريون؟

وما الذي جاء بالمصريين قبل ذلك إلى اليمن؟

فأجابني بعبارةٍ لم أنسها “عندما تكبر سوف تعرف كل شيء، وستعلم ما الذي جعلنا أولاً نذهب إلى مصر طلاباً ونازحين فقراء نبحث عن الأمان والتعليم والعلم؟

أخذَتْ هذه الإجابة سنوات طوالاً من حياتي للتأمل في علاقة اليمن بمصر لأسباب كثيرة.. من بينها أن عودة العسكريين المصريين جاءت بعد أن أدَّوا واجبهم القومي والإنساني، وألقى بعض شهدائهم ودائعهم في ثرى اليمن.

أعقب تلك العودة مجيئ جيش آخر قوامه مئات وربما الآلاف من المدرسين والموجهين التربويين والخبراء في مجالات مختلفة للمساعدة في إرساء مداميك التنمية الشاملة.

وعلى صعيد حياتي كطفل آنذاك استرعى انتباهي إعجاب والدي بأنور السادات حيث أطلق اسمه عليَّ تيمناً به قبل قيام ثورة سبتمبر بعام، ولم يكن آخر تلك الأسباب دهشتي بمصر التي أصبحت بعد ذلك مع اليمن نسيجاً واحداً معقداً ومتجانساً في آنٍ واحدٍ، تاريخاً وفكراً وسياسةً حتى اليوم.

أما لماذا يذهب اليمنيون إلى مصر وليس إلى غيرها؟

فعرفت أنهم يشعرون أن مصر واحدةٌ من أمصارهم، وأن بلادَهم بعضٌ من أمصار مصر، وربما لا يعون لماذا يفعلون ذلك؟، ولماذا تَعتبر مصر أن هؤلاء جزءٌ من أمنها القومي عند باب المندب جنوب البحر الأحمر؟

ربما لأهمية ما يمثلونه عند هذه الموقع الجيو – سياسي.

كما أن من المهم هو أنَّه لا أثر لأي حساسية أو خلاف حدودي بين القاهرة وصنعاء كما هو الحال في كثير من حالات (الجوار).

لطالما شعرت بعد ذلك أن مصر تتقاسمني بالسوية مع اليمن نصفاً بنصف، لأسبابٍ وجيهة، فقد كان كتابي المدرسي مصرياً، وأستاذي مصرياً، والسينما والمسرح والموسيقى والمجلات والصحف منذ زمن الطفولة وأيام المراهقة الفكرية ومرورا بأعوام الدراسة الجامعية وحتى اليوم كان (معظم) ذلك إن لم يكن (كله) أحياناً مصرياً.

ولم يزل صوت (عبدالناصر) وجلجلة ضحكات (السادات) وصدى الأغاني الوطنية المناصرة لثورة اليمن لعبدالحليم حافظ وفايدة كامل وشريفة فاضل وغيرهم يتردد في مخيلتي ووجداني، تماماً إلى جانب ذلك النشيج العميق من أغاني الفنانين اليمنيين ممن تأثروا بموسيقا مصر.

في العلاقة بين اليمني ومصر ما يتجاوز حدود الدين والثقافة إلى التاريخ البعيد، ويختصر كل الحدود والمسافات لا إلى القفز عليها فحسب ولكن أيضاً إلى درجة الاشتباك بها وصعوبة الفصل بين أغلب ما هو يمني تماماً (غير مصري)، وما هو (مصري خالص) تماماً، ولا علاقة له باليمن، وأعني بالخصوص أثناء الحقبة الناصرية، بل حتى اليوم أيضاً.

إذا تحدثت عن جِيلي وجيلَين آخرَين قبله وبعده، فأستطيع القول بلا مبالغة إن البعض من اليمنيين يكاد لا يشعر بالحرج من أن يقول إنه لم يتسن له أداء فريضة الحج بعد، وذلك في البلد المجاور الأقرب إليه، لكنه يشعر بالحرج لأن يقول إنه لم يزر مصر بعد.

لماذا ذهب عبد الناصر إلى اليمن؟

قاد (جمال) جيشه إلى اليمن، ليس لتفكيكه بل لتمتين وحدته، وليس لاحتلاله سواء مباشرة أو عبر (وكلاء) ولكن لتمكينه من السيادة على أرضه، ولا لفرض نفسه وصياً على شعبه ولكن لإنقاذ هذا الشعب من بعض حكامه (اليمنيين) السابقين الذين أوصلوه إلى أدنى دركٍ من الإفلاس الروحي والمادي، وسلبوا معظم حقوقه الإنسانية التي لا تستقيم بدونها حياة.

ذهب عبدالناصر إلى اليمن (من أجل المبادئ) كما قال وليس فقط بوصف اليمن البلد الذي تنتمي إليه سلالة والده (عبدالناصر حسين) وقبيلته (بني مُرة).

أرسل ناصر جيشه الذي خاض أشرس حرب هناك في تاريخه مع تحالف الكهنوت والتخلف، دافعاً ثمن تضحيات مصر هناك بآلاف من الشهداء.

يُحسب للتدخل العسكري المصري في اليمن الكثير من الإنجازات أهمها مساعدة اليمنيين بالثقافة وامتزاج دماء أبناء البلدين على اقتلاع (الإمامة) و(الاستعمار) من جذورهما، وترسيخ دعائم (الجمهورية) كنظام حياة شاملٍ ومتكامل يقوم على جوهر العقيدة الصحيح، دافع عنه بعض المصريين كما فعل إخوتهم اليمنيون.

وبالمقابل فقد كان للتدخل المصري أخطاؤه التي يمكن تفسيرها وليس بالضرورة تبريرها، لكنها لم تكن لتصل إلى ذلك السوء من الأخطاء الذي تسببت فيه تدخلات خارجية أخرى مما لا يمكن تفسيره أو تبريره.

ومع التقدير لما قدمته بلدان أخرى لليمن في محنته الراهنه إلاّ أنه لا يقارن بما فعلته مصر سياسياً وأخلاقياً.

فعندما اندلعت الحرب في اليمن العام 2015، لم يجد اليمنيون ملاذاً آمناً ومضيافاً أكثر من مصر، ولم يكن هناك من بلدٍ فتح ذراعيه لهم كمصر، حيث يعيش فيها اليوم مئات الآلاف من اليمنيين دون مضايقات تذكر، بل بتسهيلات استثنائية تُذكر.

صحيحٌ أن مصر بيتٌ لكل العرب رعَت الجميع، ولكن ليس بذات الخلفية التاريخية التي استندت عليها رعايتها لليمنيين.

ويكفي مصر حِلماً باليمنيين أن عبدالناصر والسادات وحسني مبارك وغيرهم من قادتها العسكريين لم يكونوا خلال تدخلهم العسكري في اليمن يمنُّون عليه بتضحياتهم البشرية والمادية الضخمة، ولم يكونوا يحملون أي ضغينة لقادته (الكبار) لرفضهم تدخلات بعض قادة القوات المصرية في الشأن السياسي الداخلي لليمن، وما احتجاز مصر لبعض القادة اليمنيين المعارضين لتلك التدخلات إلاَّ من قبيل أن تلك المعارضة كانت آنذاك من وجهة نظر القاهرة تهدد بإفشال الثورة اليمنية وشق صفوف قادتها في وقت تتكالب عليها مؤامرات القريب والبعيد من الأعداء على حدٍ سواء!

يعتبر بعض المصريين أن حربهم في اليمن تحولت إلى درسٍ باهظ الثمن جعلهم يستبعدون فكرة أي تدخل عسكري مباشر خارج حدودهم، فأقول إن هذا صحيح، ولكن من يمكنه أن يقول إن هذا لم يكن كذلك بالنسبة لليمنيين، فمن الذي يريد أصلاً أن يرى تدخلاً عسكرياً في بلاده لولا حتمية الضرورة التاريخية، والخوف من الارتكاس والعودة إلى الماضي البغيض؟

لم يكن وجود القوات المصرية في اليمن سبباً في نكسة يونيو/حزيران 1967 فقد كانت مصر تواجه (حرباً) على أمنها القومي، ولو لم يكن اليمن مسرحها لوجدت لنفسها مسرحاً آخر في مصر نفسها كما حدث بعد استنزاف قدرات جيشها في اليمن.

وإلى أن تقول (محكمة التاريخ) كلمتها في ذلك الدور الذي لعبته مصر في حياة اليمن، لا بد في ذكرى ثورة الـ26 من سبتمبر 1962 من رفع القبعة احتراماً لمصر وإلقاء السلام والتحية لجميع أبنائها ورفاقهم اليمنيين، سواءٌ لمن أصاب مُحقاً أو مَن أخطأ دون قصد.

Exit mobile version