تقرير/ فاطمة الأغبري
لم تعلم أم ذي يزن (اسم مستعار)، أن ولدها الذي اعتادت على رؤيته كل صباح، والفرحة مرسومة على محياها وهو يقبلها على الجبين قبل خروجه وحين عودته إلى المنزل، أنه سوف يأتي اليوم الذي تودعه بقلبِ يمزقه الألم، وعينين مغرورقتين بالدموع، وذلك بعد اتخاذه قرار ترك مدينة صنعاء، والتوجه للعمل في مأرب (شرق صنعاء). كما لم يعلم ذي يزن أنه وبعد خبر اعتقاله هناك سيكون ذلك سببًا في زرع القوة والشجاعة بقلب أمه التي قررت السفر إليه، متحدية كل الصعوبات، ومستقوية بحقها في التنقل كمواطنة يمنية.
بداية المشقة
بدأت الأمُّ ذات الاثنين والستين عامًا، استعدادها للسفر بمعية زوجة ابنها وأحفادها، وتوجهت في وقتٍ مبكر إلى فرزة السيارات، رافضه فكرة منعها من قبل أبنائها وبناتها خوفًا عليها، أو منعها من قبل السلطات بذريعة السفر دون “محرم”.
وبصوتٍ يملؤه الحزن قالت أم ذي يزن: “عندما تحركت بنا السيارة استشاط مسؤول موقف الباصات غضبًا، ورفض تحركنا بدون محرم، ولكني لم أفقد الأمل، وأخبرته بضرورة توجهي إلى مأرب لزيارة ابنتي التي تنام في العناية المركزة، بعد أن خسرت ابنها أثناء ولادته”. وترى أم ذي يزن أن اختلاق هذه الكذبة كان سببًا في أن يُسمح لهم بالخروج مع السائق.
وأكدت أنه في كل نقطة كانت تصل لها تابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) تواجه عسكرًا لا يعملون أي اعتبار للمرأة، ويتعاملون بطريقة مستفزة لم تتعود عليها من قبل، وصلت إلى محاولة إجبار السائق على العودة إلى صنعاء، متذرعين بعدم وجود “المحرم”.
ولكن إصرار الأم وإيمانها بأنها ليست على خطأ، جعلها لا تقف مكتوفة اليد، تنتظر حتى تتم إعادتها إلى صنعاء مرغمة، وذكرت أنها كانت في كل مرة تقابل تعنت المسلحين في النقاط بترجلها من السيارة، والدخول معهم في جدل يستمر لربع ساعة وأكثر، كما يصل أحيانًا إلى التطاول بالألفاظ من قبلهم، ومحاولة الاعتداء عليها والتهديد بالاعتقال، كان يحدث كل ذلك ابتداء من مدخل صنعاء ومرورًا بالحتارش، وخشم البكرة وغيرها من النقاط، وفي كل النقاط، ورغم كل التهديدات التي تتلقاها؛ تارة بإعادتهم إلى صنعاء ومحاسبة السائق، وتارة أخرى باعتقالهم، إلا أنها ظلت تتمسك بحقها في السفر؛ مرة تجادل، ومرة أخرى تجلس على الإسفلت تنديدًا واستنكارًا لمنعها.
رحلة معاناة أم ذي يزن لم تنتهِ عند النقاط التي كانت تسيطر عليها جماعة أنصار الله (الحوثيين)، بل امتدت حتى داخل المناطق التي تسيطر عليها الشرعية، حيث لاقت هناك نفس تلك الممارسات، ويبقى “المحرم” هو الوسيلة الوحيدة المتبعة لدى الأطراف لحرمان المرأة من حقها في التنقل، فعند نقطة الدخول إلى مأرب تقول أم ذي يزن: “لقد تم أخذنا إلى مبنى، وطلبوا مني الجلوس على الأرض، وهناك رأيت العديد من النساء في حالة يرثى لها، يشتركن جميعًا في معاناة واحدة، ألا وهي عدم وجود المحرم”.
وبين أسوار الخوف ودموع القلق التي أحاطت بالنساء، استطاعت أم ذي يزن أن تتواصل مع ابن أختها الذي يعمل في صافر، حيث جاء لاستلامها مع زوجة ابنها وأحفادها، ولكن ذلك لم يتم بتلك السهولة التي قد توقعوها، حيث تم استجوابه واستجوابها على انفراد للتأكد من صلة القرابة، وبعدها تم تسليمهم وثائقهم الشخصية ووثائق السائق التي سبق أن أخذوها عند مدخل المدينة.
من جهة أخرى، مُنعت “د.ع” من السفر عبر مطار صنعاء الدولي الذي كان الأقرب لها والأكثر أمانًا، وأكدت أن فرصة السفر للعمل خارج اليمن كانت الفرصة التي تنتظرها بفارغ الصبر، وتعبت كثيرًا من أجل الحصول عليها، ولذلك اضطرت بعد قرار المنع والتحجج بالمحرم، إلى أن تقطع مسافات طويلة من صنعاء إلى عدن، والتي استغرقت عدة ساعات بمعية شقيقتها وشقيقها الذي يصغرها بعشرين عامًا، كونه المحرم الذي سيخرس ألسنة عساكر النقاط من السؤال عنه، أو محاولة وضع عراقيل لسفرها وتدمير حلمها.
ولم تقف معاناة النساء الراغبات في السفر من أجل السياحة أو زيارة الأهل أو الدراسة، بل طالت حتى العاملات في المجال الإنساني، وهنا أخبرتنا أم عبدالله (اسم مستعار) أنه وقبل إنشاء المجلس الأعلى للشؤون الإنسانية، كانوا يتنقلون بين المحافظات أسبوعين في الشهر الواحد، بكل سهولة ويسر، وكان أجرهم اليومي 8000 ريال، حيث يعتبر هذا المصدر الوحيد بعد انقطاع المرتبات منذ اندلاع الحرب، وأكدت أنه وبعد إنشاء المجلس أصبح عملهن نادرًا، وذلك بسبب فرضهم عمل تصاريح، واشتراطهم وجود محرم يتنقل معهم.
وأضافت أم عبدالله: “أكثر ما يزيد معاناتنا رفضهم التعامل بمحرم آخر في حال حدوث أي طارئ، واستبداله، كأن يأتي الزوج بدلًا عن الابن، والعكس، كما يتم منعهم من العمل”. وبنبرة حزينة مليئة بالبؤس تقول: “عندما نجبر على أن نجلب معنا محرمًا، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة في الأعباء والصرفيات، وهو ما يعني عجزنا عن مواجهة ظروف المعيشة التي أجبرنا على تحملها بسبب انقطاع المرتبات”.
وعن تأثير تلك الإجراءات، يرى رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر، في تصريح لـ”النداء نت”، أن مثل تلك القرارات تعطل نصف قدرات وكفاءات المجتمع، كما يحرم الاقتصاد الوطني جزءًا من الإمكانيات البشرية التي يمتلكها نصف المجتمع، وهن النساء. مشيرًا إلى أن التأثيرات المباشرة تتعلق بعدم قدرة المرأة على الحركة في متابعة أعمالها وأنشطتها الاقتصادية والاجتماعية، كما يسهم في حرمان النساء من الحصول على التدريب والتأهيل والتعليم الذي قد لا يكون موجودًا في المحافظة التي تعيش فيها، فتضطر إلى الانتقال إلى محافظة أخرى.
وأكد نصر أن قرار تقييد تحرك المرأة يعيدها إلى الوراء، خصوصًا في الوقت الذي أصبحت فيه تقوم بدور تنموي كبير في ظل غياب أو فقدان رب الأسرة، كما أن تنميط دورها في المجتمع في أنشطة محدودة وبوتقة محدودة، يحرمها من الإسهام في عملية التنمية.
وترى نائب رئيس مركز “حماية” لحقوق الإنسان، المحامية لبنى القدسي، أن للقرارات تأثيرات على المستوى المحلي والوطني، لأن حرمان المرأة من السفر يعوق عملها في الجانب الإنساني، ويجعلها في دائرة الفقر، ويزيد الوضع الاقتصادي تأزمًا، ولا تستطيع فيه المرأة القيام بأي أمور تتعلق بحياتها ومن تعول كما ينبغي.
تعليمات أمنية
عند التواصل مع أحد مكاتب تأجير السيارات في صنعاء، وجدنا لديهم تعليمات أمنية من هيئة النقل البري، وكذلك وزارة الداخلية (قطاع الأمن والشرطة) في صنعاء، تنظم بحسب ما هو مدون عليها سفر النساء بدون محرم إلى المناطق غير الخاضعة لسيطرتهم، والملفت للنظر أننا لم نجد حتى لحظة كتابة هذا التقرير أية ورقة رسمية تحتوي على ختم رسمي.
وعند الاطلاع على التعليمات وجدنا أن هناك حالات يستثنى عنهن القرار، وهم نساء تجاوزن عمر الخمسين، والمصابات بأمراض خطيرة ومزمنة بموجب تقارير طبية، ومن يصطحبن أطفالهن صغار السن مع وثائق إثبات الهوية وشهادة الميلاد، وكذلك النساء المواليد في المحافظات الجنوبية ويترددن إلى صنعاء لغرض الدراسة، أو العمل، أو العلاج، أو زيارة أقاربهن بموجب البطائق الشخصية المثبتة لمحل الميلاد أو وثائق أخرى رسمية.
أما ما عدا تلك الحالات فيمنع سفرها دون محرم إلى المحافظات الواقعة تحت سيطرة حكومة عدن، إلا بموجب موافقة أمنية يتم تقديم طلب للحصول عليها إلى مكتب وكيل الداخلية لقطاع الأمن والشرطة، ما لم ستتحمل تلك المكاتب المسؤولية القانونية.
وهنا أكدت رئيسة مبادرة مسار السلام الناشطة النسوية رشا جرهوم لـ”النداء نت”، أن فرض شرط وجود المحرم لتنقل النساء يقيدهن من الوصول لكل حقوقهن، ابتداء من إصدار الأوراق الثبوتية، ووصولهن للخدمات الأساسية وخدمات الصحة والتعليم، كما يحرمهن من العمل، كما اعتبرت فرض تلك القيود جريمة في إطار العنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي، والذي يدرج ضمن العقوبات المفروضة على اليمن من قبل مجلس الأمن.
من جهتها، قالت المحامية لبنى القدسي: “لا توجد أي تشريعات تحد من حق المرأة في التنقل والسفر، بل هذا حق أساسي أصيل، مكفول وفق الآليات الدولية والتشريعات الوطنية والدستور اليمني الذي كفل حق التنقل من مكان إلى آخر لكل مواطن”.
واعتبرت أن قرار السفر بمحرم أو استخراج الوثاق الشخصية بموافقة ولي الأمر، ما هي إلا إجراءات تعقيدية غير قانونية، تحمل المرأة المزيد من المعاناة، إلى جانب تبعات الحرب الموجعة.
ترسيخ التمييز
من جهتها، طالبت ديانا سمعان، نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية بالنيابة، سلطات الأمر الواقع الحوثية، بأن تضع حدًا لشرط المحرم بصورة فورية، مؤكدة أن هذا الشرط التقييدي شكل من أشكال التمييز القائم على النوع الاجتماعي، ويرسخ التمييز الذي تواجهه النساء على أساس يومي.
وذكرت منظمة العفو الدولية، في بيان صادر عنها، أن اشترط محرم على النساء العاملات في المجال الإنساني أثر بشكل مباشر على وصول اليمنيين المحتاجين إلى المساعدات، وبخاصة النساء والفتيات، وهو ما يخالف القانون الإنساني الدولي الذي يلزم جميع أطراف النزاع بتسهيل المرور السريع ودون عوائق للمساعدات الإنسانية المحايدة إلى المدنيين المحتاجين، وضمان حرية تنقل موظفي الإغاثة دون تمييز.
انتكاسة لنضال المرأة
وأدانت شبكة التضامن النسوي إجراء تقييد تحرك المرأة، واعتبرته تراجعًا واضحًا وخطيرًا للحقوق والحريات العامة، وانتكاسة واضحة لنضال المرأة منذ سنوات.
وأكدت الشبكة، في بيان لها، أن هذا الإجراء يستهدف الناشطات السياسيات، والاجتماعيات، والصحفيات، والمدافعات عن حقوق الإنسان، والعاملات في قطاعات المجتمع المدني، خصوصًا بعد انتزاع أحد حقوقهن في حملة ”جوازي بلا وصاية”.
وعند التوجه إلى وزارة حقوق الإنسان، ومقابلة الوزير في حكومة صنعاء علي الديلمي، والحديث معه حول قرار منع سفر المرأة إلا بمحرم، أكد لنا أن هناك تحركات من قبل الوزارة في ما يخص تلك الإجراءات، وذلك من أجل التخفيف منها، مشيرًا إلى أن الوزارة تعمل جاهدة في الوقت الحالي على معالجة تلك الإجراءات بما يخدم المرأة.
وقال الديلمي في حديثه لـ”النداء” إن ما يثار حول سفر المرأة بمحرم ربما له علاقة بالعامل الأمني في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد وفي الحرب والحصار واستغلال الظروف الاقتصادية لعمليات استغلال النساء.
ويعد قرار منع سفر النساء بدون محرم انتهاكًا واضحًا وصريحًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان الذي كفل فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 13 حرية التنقل بدون تمييز، وهو ما كفله أيضًا الدستور اليمني النافذ في المادة 57 الباب الثاني المتعلق بحقوق وواجبات المواطنين الأساسية، وكذلك مسودة الدستور الصادر عن مؤتمر الحور الوطني، والذي كفل الحق في المادة 80، كما يحرمها هذا القرار من أبسط حقوقها، ويجعلها تعيش مسلوبة الأهلية، في الوقت الذي قاتلت ولاتزال تقاتل فيه لانتزاع حقوقها التي تسلب منها تدريجيًا.
- النداء