للتاريخ استدعاءاته الماكرة فها هو لقاء بكين الذي فتح صفحة بين السعودية وإيران.
يشابه ذلك اللقاء التاريخي الذي جمع الزعيم جمال عبدالناصر مع الملك فيصل بن عبدالعزيز في مدينة جدة 1965 لطّي الخلافات بما فيها الصراع بين مصر والسعودية في اليمن.
فعلى مدار سنوات خاضت الرياض صراعاً مع القاهرة على خلفية الحرب بين الملكيين والجمهوريين، وها هو التاريخ يستعيد نفسه على ذات الأرض في حرب متكررة بين الشرعية والحوثيين استقطب تدخلاً إقليمياً بين السعودية وإيران وها هو يتكرر المشهد كربونياً لطّي الصفحة بكل ما فيها وما عليها.
القرار السعودي بالاستدارة السياسية وانتهاج سياسة تصفير مشاكلها لم يأتي من الهامش، بل له مسبباته الاقتصادية والسياسية التي كذلك تتشابه مع تلك التي راودت الملك فيصل في ستينيات القرن العشرين المنصرم.
ففي تلك المرحلة كانت السعودية تتأهب لإطلاق خطتها الخمسية، وهكذا تتكرر الحالة مع رغبتنها للذهاب لتحقيق رؤيتها الطموحة في 2030.
كل شيء يتكرر ويبقى اليمن على حاله ثابتاً، حتى أن اتفاقية جدة أفضت إلى ما يشابه الهدنة التي حصل عليها اليمن منذ إبريل/نيسان 2021 عندما تشكل مجلس الرئاسة، وتوافقت القوى الدولية على هدنة صمدت في معادلة لم يعرف لها التاريخ السياسي مثيلاً في غير هذه البلاد، فاللاحرب واللاسلم معادلة محكومة بالتقاليد العرفية وليست بالقوانين الدولية.
السعوديون ذهبوا إلى صنعاء بحقيقة أن الأمر الواقع لا مناص من التعامل معه، الحوثي يمتلك القرار في شمال البلاد والانتقالي الجنوبي يمتلك قرار الجنوب، وبينهما جغرافيات تمتلك فيها جماعة الإخوان تشكيلات عسكرية، كما أن لهم مخالبهم في تنظيمات إرهابية متطرفة ثلاثة هي القاعدة وداعش وأنصار الشريعة.
هذا واقع الأرض وحقيقة ما أنتجته فوضى ما يسمى الربيع العربي في جنوب الجزيرة العربية. تعقيدات ليس من الهين تداولها حتى واليمنيين يدعون أنهم راغبون الذهاب إلى سلام مستدام ولكنه بالطريقة التي تناسبهم وتوافق تقاليدهم.
كذلك فعل من قبل الملك فيصل عندما وقع مع الرئيس عبدالناصر اتفاق 1965، وحتى ذاهبهم إلى قمة الخرطوم في 1967 كانا يعرفان أنهما يتعاملان مع بلاد لا تلتزم بالتوافقات الدولية، فالأعراف هي الحاكمة لذلك تركا أهلها ليقرروا مصيرهم، وهو ما فعلته القبائل في مؤتمر خمرّ عندما تزاوج الملكيين بالجمهوريين وانتجوا نظاماً هجيناً حافظ على نصف دولة الإمامة ونصف الجمهورية، احتفظت فيه صنعاء بمركزية القرار الحاكم سياسياً وعسكرياً وفرضت شكلاً من الدولة في القلب منه الزيود حاكمين والناس بكلهم محكومين مما دفع بالعسكر الزيود ليقودوا شمال اليمن حتى تمدد حكمهم في حرب صيف 1994 واخضعوا الجنوب لهم.
هذه التعقيدات هي جزء من فهّم الحاضر، وعليه لا يمكن الوصول إلى أرضية تضمن القدر الممكن من التهدئة بغير تكرار التجربة بالدعوة مجدداً لمؤتمر خمّر ثان يضع لشمال اليمن تزاوجاً يفضي لمولد نظام سياسي يحافظ فقط على تماسك الجغرافيا السياسية.
بهذه الواقعية فإن التوافقات على نظام كونفدرالي بين الجنوب واليمن هو الشكل النهائي الذي يمنح الفرصة لمكافحة الإرهاب واجتثاث التنظيمات المتطرفة التي ما زالت تتغذى من قوى الإسلام السياسي بكل أشكالها في الشمال اليمني ضمن محاولاتها إخضاع البلاد الجنوبية لسيطرتها.
وبما أن السعودية قد أقرت على أن تتعامل مع واقع الحقائق فأنها وهي تخوض مداولاتها مع الإيرانيين والحوثيين في جولات سياسية دقيقة عليها أن تكرس من معالجة الملفات الصعبة بما فيها ملف القضية الجنوبية وأن تتمسك بمكسبات عاصفة الحزم فهي خرجت بحليف وثيق يمكن الاعتماد عليه، وهي دولة الإمارات التي عليها أن تواصل عملية التأهيل السياسي والأمني جنوباً فالجنوب هو المضمون والمكسب، الرقص على رؤوس أفاعي اليمن ليست مهمة سهلة بل هي قاتلة كذلك يقول التاريخ عندما يبوح بالحقائق وإن كانت مريرة.