العالم العربي يعيش حقيقة استحقاق سياسي لم يعرفه منذ سبعينيات القرن العشرين.
فلقد كانت البلاد تعلن استقلالها الوطني، وتتسابق العواصم العربية لإعلان الاعتراف بسيادتها، وتحتفي الشعوب بها.
وها هي تعيش لحظة حقيقية بميلاد وطن عربي يوشك على الوجود السياسي، يحدث في جنوب شبه جزيرة العرب ما يستدعي الإحاطة به.
فهناك تظهر بوادر عودة لشقيق عربي أٌبعد قسرياً عن مقعده في المنظمات السياسية الإقليمية والدولية وها هو يستعيد وجوده بعد أن عمل كثيراً وناضل نضالا كبيرا حتى يصل إلى هذه اللحظة الوجودية.
ففيما يندفع المبعوثون الأمميون لتسوية سياسية لأزمة اليمن، وإنهاء للحرب الأهلية، قدمت القضية الجنوبية نفسها كحجر زاوية للحل.
يستعصي على المراقبين السياسيين تجاوزها وغض الطرف عنها، استحقاق سياسي مفروض بعد أن كان الجميع يتشدد حول الممثل السياسي لهذه القضية، كانت مسألة شائكة كما تشددت بعض الأطراف الدولية والإقليمية، وتلذذت أخرى بوضع العراقيل والمطبات لها، فهذه قضية بالغة الحساسية لاعتبارات متعددة منها تكلس العقل السياسي العربي وعدم قدرته على خلق فضاءات فكرية لماهية الأوطان ومتطلباتها في سياق متغيرات التاريخ السياسي الذي شكل خرائط البلدان وحدودها وما آلت إليه وما يجب أن تذهب له من بعد تجارب سياسية قاسية ومريرة آن لها أن تنتهي.
الوحدة اليمنية أُطلق عليها رصاصة الموت وانتهت فعلياً في 1994 وما بعد ذلك مشهد قاتم كان للعرب فيه نصيب وافر، فلقد تعاملوا مع ما فرضته صنعاء على الجنوب بسياسة الأمر الواقع، وها هم العرب أمام فرض واقع فرضته تقاطعات السياسة والحرب بل وحتى تشكل النظام الدولي، فهذه محددات واضحة أفرزت أن مطالب الجنوبيين لم يّعد من الممكن تجاوزها، في الثامن من مايو/أيار عام 2023 لم يكن إعلان ميثاق وطني جنوبي مجرد حدث، بل كان خطوة سياسية مهمة على مستوى العالم، أجبرت الجميع على مواجهة قضيتين ملحتين تستدعيان التعاون والحل، ففي شمال اليمن الحوثيون فرضوا واقعاً حقيقياً لا يمكن للجنوبيين التعايش معه في كيان سياسي مشترك.
حلّ الدولتين بات واقعاً مفروضاً يعيد ما أفضى إليه إعلان كوسوفو استقلالها السياسي بتوافق أوروبي ودولي، وما يعزز القضية الجنوبية أنها تمتلك قرارات من مجلس الأمن الدولي (924 و931) أكدت في مضمونها الكيان السياسي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ومهما حاولت القوى الرافضة لمنح الجنوب الحق في فك الارتباط فإنها لن تجد مخرجاً ممكناً حتى مع سياسة الاحتواء التي تتبناها السعودية لشمال اليمن وهي سياسة قديمة انتهجت طويلاً لتعويم النظام القبلي المذهبي غير أنها لم تحقق ما كان مأمولاً، فها هو نظام الإمامة يعود للسلطة عبر الحوثيين.
الجنوبيون تجاوزوا المحطة الصعبة بتمكنهم من تشكيل الجبهة الوطنية الأعرض وإعلانهم الميثاق الوطني الذي أكد على استعادة دولتهم وهو ما كانت القوى الدولية تطالبهم به وها هم ينجزون ما عليهم، ومع ذلك يبقى أمام المجتمع الدولي مهام حقيقية تبدأ بالمساهمة بفاعلية ببناء المؤسسات الخدمية فهي التي ستمنح البلاد استقراراً مجتمعياً يؤدي لحركة اقتصادية عامة، كما أن العالم والإقليم يجب عليه إسناد الجنوبيين في مكافحة الإرهاب فمازال هذا الملف يتطلب جهداً مشتركاً ليكون الجنوب متعافياً مما أصيب به من بعد أن حوله نظام الحكم اليمني لجغرافيا مستباحة بداية من الأفغان العرب وانتهاء بالدواعش والذئاب المنفردة.
دولة الجنوب العربي حقيقة وجدت وعلى العالم والمنطقة العربية التعايش معها فهذا الجزء العربي يمثل الحزام الجنوبي للوطن العربي وإحدى أهم زوايا الأمن القومي وعودته للجامعة العربية سيدعم ولا شك فيما يتم انتهاجه باحتواء الخطر المذهبي والقبلي في اليمن فلن يكون هناك سلام مستدام دون جنوب مستقل ومستقر فهذه هي الحقيقة الكاملة فللجنوب دولة ولليمن أخرى.