كان واضحاً منذ الوهلة الأولى أن وثيقة إعلان السابع من أبريل (نيسان) 2022 التي أعلنها الرئيس عبدربه منصور هادي جرى إعدادها على عجل فجاءت غير متماسكة قانوناً وتضاربت نصوصها وتكرر بعضها.
وعلى رغم ذلك فقد ظنها كثيرون تأسيساً لمرحلة شراكة بين خصوم ميليشيات “أنصار الله” الحوثية، وتمنوا بأن يكون حشد تلك الأسماء في كيان واحد (مجلس القيادة الرئاسي) الذي يمثل رئاسة الدولة، مما سيمثل خطوة نحو وقف دائم لإطلاق النار ثم التوجه إلى المفاوضات السياسية لوضع حد نهائي للحرب اليمنية.
لكن الذين تسرعوا في التعبير عن سعادتهم بما قدروه إنجازاً ونقلة سياسية مطلوبة لم يدر في بالهم أن عثرات قد تواجه التنفيذ الفعلي للغرض المنشود لأن البيان لم يضع المخارج لها.
وكان الهاجس الأكبر في تلك اللحظة هو التخلص من الرئيس عبدربه منصور هادي الذي كان يمثل لهم حينذاك “الشرعية الدستورية” ثم أضحى بين ليلة وضحاها “عبئاً ثقيلاً” يجب تجاوزه من الطبقة السياسية نفسها التي تعمل معه واستفادت من التصاقها به.
ولعل هؤلاء كانوا يستلهمون الحكمة اليمنية (من مشنقة إلى مشنقة فرج) التي تعتبر ترحيل المشكلة إلى يوم آخر نجاحاً في حد ذاته، وفرصة تتيح إعادة التفكير في القرار وربما استنباط حلول للمشكلة.
أيضاً في البيان المتسرع والمفاجئ شكلت هيئات شرفية سميت بالمساندة لـ”المجلس”، وهي “هيئة التشاور والمصالحة” واللجان الاقتصادية والقانونية والعسكرية، وفيها حشرت أسماء لامعة كثيرة.
وعلى رغم أن البيان تحدث عن مهماتها، لكن الذي حدث أنها صارت تمارس عملها بعشوائية من دون لائحة تنظيمية، وانشغلت بترتيب أوضاع الأعضاء المادية ودرجاتهم الوظيفية ولم تؤد أياً من المسؤوليات التي سردها البيان بإسهاب، واتضح أن الأمر لا يعدو كونه مكافأة معنوية.
يعيد تشكيل هذه الكيانات إلى الذاكرة قصة قصيرة (إدارة عموم الزير) للقاص المصري حسين مؤنس.
تقول القصة: إن حاكماً قام بجولة في إحدى القرى فلاحظ معاناة الناس اليومية في جلب المياه من النهر فأمر بشراء زير كان ثمنه 10 دنانير وتعيين عامل يتولى تعبئته يومياً تخفيفاً عنهم.
وبعد فترة قصيرة سأل الحاكم وزيره عن أمر الزير فأخبره الأخير أن الأمر تطلب تطوير وتشكيل إدارات مساندة للعناية بالزير وصيانته وحضور اجتماعات للمشاريع المماثلة لتحسين الأداء، فقرر الحاكم زيارة الموقع ووجد عدداً من الموظفين مكدسين داخل المكاتب يتبادلون الأحاديث والملفات تملأ الدواليب.
وحين تساءل الحاكم عن سبب هذا العدد من الموظفين؟ أجابه المدير بأن الزير يحتاج إلى صيانة وتنظيف، وهذا يستدعي وجود إدارة للإشراف على ذلك ويتبعهم مكتب للشؤون المالية لضبط النفقات وشراء ما يحتاج إليه الزير والمكتب.
ولما سأل الحاكم عن الزير أخبره العامل المكلف أنه مكسور من أربعة أشهر، ولم يتمكنوا من إصلاحه لأن الموازنة لا تسمح بذلك.
في الواقع فإن ذلك ما حدث حرفياً مع الهيئة المعنية بالتشاور والمصالحة المشكلة من 50 عضواً (صاروا 49 بعد انسحابي منها بعد شهرين من اختياري عضواً بها) ومع بقية الكيانات الأخرى التي تشكلت في السابع من أبريل 2022 والأمر لا يختلف عن (إدارة عموم الزير).
إذ أن كل هذه الكيانات بدءاً من “المجلس” لم تنتج شيئاً مفيداً ولا قدمت جهداً نافعاً للبلد، وهو ما يصيب الموظف الذي لا يتقاضى راتبه منذ سنوات، والمواطن الذي لا يجد قوت يومه ولا دواءه ويعيش من دون كهرباء ومن دون مياه صحية، إن ذلك يصيبهم جميعاً بالغضب والحنق والكراهية على كل ما يرتبط ببقايا الدولة اليمنية.
منذ السابع من أبريل 2022 لم نسمع عن خطة للنهوض بالبلد من عثراته واكتفى كل المسؤولين بالتصريحات والسفريات والصور والبيانات المكررة المملة والوعود الوهمية، بل دخلوا في صمت مهين حول القضايا الوطنية الكبرى وسيادة البلد وكرامته عدا الجمل المعهودة في استجداء الإقليم والعالم لنجدتهم من خيباتهم وإلقاء كل سيئاتهم على نقص الموارد.
بينما الحقيقة أنهم يعبثون بالقليل الموجود وينفقونه في غير محله، وبدلاً من التقشف الصارم ووقف النفقات الترفية تستمر التعيينات في المواقع العليا ويستمر معها الإنفاق بالدولار على المسؤولين والبعثات الدبلوماسية العبثية التي لا حاجة للبلد إلى معظمها.
وأستدل هنا على التصريحات المخادعة حول إصلاح وتقليص البعثات الدبلوماسية، فالواقع أن “المجلس” لم يجرؤ على بحث الأمر بجدية لسبب بسيط وهو المحاصصة التي يتمسك بها أغلب الأعضاء الثمانية في كل التعيينات الداخلية والخارجية من دون التقيد بالقوانين واللوائح التي توجب أولاً إنهاء عمل كل من استنفدوا فترات عملهم من دون استثناء وإحقاقاً لمبدأ المساواة والعدالة التي يتحدث عنها كثيرون منهم، ولكنهم يديرون ظهورهم لها حين تمس مكاسبهم غير المستحقة أصلاً.
إن الحديث حول تماسك “المجلس” و”وحدة” الموقف لا يزيد على كونه مجموعة من المفردات المملة التي لا تثير حماسة المواطن ولا اكتراثه ولا اهتمامه لأنه لا يجد فيها أية مقاربة حقيقية لمعاناته وأوجاعه وسوء أحواله وانهيار كل الخدمات.
وسيظل “المجلس” يدور في حلقة مفرغة ما لم يواجه الحقائق بجرأة ووضوح وصراحة والحفاظ على سيادة البلاد وصون كرامتها وهو أمر من الجلي أنهم عاجزون عن فعله.
وهذا ينطبق على الهيئات المساندة التي صارت كلها إدارات يجتهد العاملون بها لتأمين رواتبهم ودرجاتهم الوظيفية والتباهي بها، متجاهلين الحقيقة الفاضحة المتمثلة في فشلهم الواضح عن تقديم أي فعل إيجابي في مقابل امتيازاتهم المالية.
ومن المضحك إدمان كثير منهم العيش في الوهم على رغم تعاظم الخيبات.
في الـ12 من يوليو (تموز) 1966 كتب الأستاذ النعمان والشيخ محمد علي عثمان والقاضي الأرياني “نعلن عجزنا الحقيقي وتخلينا عن المسؤولية في المجلس الجمهوري”، بالطبع لا أتوقع صحوة ضمير عند أحد الحكام الحاليين، ولكني أذكر فقط بالفوارق الأخلاقية والوطنية بين ذلك الجيل وبين من نشاهدهم في قمة السلطة اليوم.
في وقت يغرق فيه البلد تحت وطأة أزمات خانقة في كل مناحي الحياة وتتحطم معها آمال الناس وتطلعاتهم، يستمر الإنفاق الترفي ويستشري الفساد وينشغلون بتوافه الأمور، وتغيب عن إحساسهم المسؤولية الأخلاقية والوطنية التي تلزم كل ذي ضمير إعلان فشله ليتيح المجال لمن هم أجدر منه وأكفأ.
*نقلا عن موقع “إندبندنت عربية”