أولا:
هناك منطق استراتيجي يحكم السلوك الأمريكي في المنطقة، الشرق الأوسط، والخليج واليمن في قلب هذه المنطقة، هذا المنطق محكوم بما تريده أمريكا من منافع وليس ما تريده دول المنطقة حتما.
لقد تغير مصطلح حلفاء أمريكا أو شركاء أمريكا وهو مصطلح فيه سيولة وعدم ثبات، ليس هناك شريك أو حليف لأمريكا إطلاقا في المنطقة سوى إسرائيل وباقي الدول هي مصدر استثمار أمريكي عابر متغير إذا تغيرت تلك المصالح، والاستغناء عن أي دولة ممكن في أي لحظة، ومفهوم المجال الحيوي الأمريكي في الخليج -بحسب قانون كارتر- لم يعد عاملا لأسباب عديدة يطول الإسهاب فيها في عجالة مقال، لكن ما هو باق من ذلك كله بقايا اهتمام تفرضه الممرات المائية وتدفق الطاقة.
ثانيا:
اليمن لا يشكل شيئا ذا بال في السياسة الأمريكية، كونها أولا، ليست من الدول المركزية في المنطقة وثانيا، حجم الكلفة والصراع فيها، ما يعني أمريكا في اليمن ثلاث قضايا فقط هي باب المندب وطرق الملاحة، البحر الأحمر وخليج عدن وثالثا ملف القاعدة والإرهاب ونشاطها وعينها محصورة على هذه القضايا وما عداه فهو كلام سياسي وشيكات بدون رصيد وفضاء من فضاءات التكتيكية أو الدبلوماسية الأمريكية.
باختصار.. لن تذهب أمريكا بعيدا في بذل مجهود أو عقوبات للضغط لحل سياسي في اليمن في أي حكومة أمريكية جمهورية أو ديمقراطية.
ثالثا:
محركات السياسة الخارجية الأمريكية تقاد داخليا عبر لوبيات مالية وإعلامية واستراتيجية، بالإضافة إلى احتياجات المواطن الأمريكي الداخلية وهناك مجموعة شبكات مستقرة يمكن تسميتها مجازا الدولة العميقة ويأتي الكونجرس ومجلس الشيوخ والبنك الفدرالي والمخابرات والبنتاجون وغيره ضمن هذه المنظومة الواسعة التي تجعل مسار أي رئيس محكوم بمسارات محددة ومقيدة وتأتي مواسم الانتخابات بكل مستوياتها المختلفة محطات لضبط إرادة الدولة العميقة إذا رأت أن الرئيس وفريق عمله قد ذهبوا بعيدا عن توجهاتهم المستقرة،
رابعا:
الحروب التي خاضتها أمريكا في المنطقة وأهمها تحرير الكويت وغزو العراق وحرب أفغانستان وحتى الحروب الطفيفة التي شاركت أمريكا فيها دعما كالحرب العراقية الإيرانية والتدخل في حرب داعش والقضية السورية، كل تلك الحروب هي آخر مشاركة وآخر حروب أمريكا في المنطقة لأسباب كثيرة، لكن أهم تلك الأسباب أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد مغنما أمريكيا كبيرا ولكنها لا شك منطقة مصالح أمريكية تقليدية، وبالعودة إلى التاريخ فإن أهمية الشرق الأوسط لدى الأمريكان تعاظمت بعد خروج بريطانيا وجلائها من شرق السويس عام 1971، ثم أصبحت أهم بعد حرب أكتوبر 1973 وعام 1979 توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ثم الثورة الإيرانية ودخول الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، لكن الركيزة الرئيسة لهذا الاهتمام هو بزوغ عصر النفط العربي الذي أمد الأمريكان بالرفاه بسعر خرافي كانت أمريكا هي المستفيد الأول مقارنة ببلدان المصدر، واليوم وقد تغيرت معادلة الطاقة فلا حاجة لأن تخوض أمريكا حربا أو تحرص على إيقاف حرب فذلك من باب لزوم ما لا يلزم، بل إنه من الممكن تشجيع بعض النزاعات الصغيرة والاستفادة منها لصالح شركات السلاح كما هو مذهب ثعلب السياسة الأمريكية كيسنجر وهو مذهب من مذاهب أربعة أمريكية، لكنه الأكثر رواجا وشيوعا حتى اليوم.
هذا التخلي الأمريكي يستدعي من العرب والتحالف العربي واليمن أن يضعوا نصب اعينهم وهم يواجهون الاستعمار الإيراني ونظرية تصدير الثورة أن يدركوا أنه من الأهمية بمكان الاعتماد على خيارات بديلة من ضمنها وأهمها الإمكانات الذاتية العربية مهما كانت فهي إن تجمعت وترشدت وحشدت تشكل قوة قادرة على الصد وحماية الأمن القومي العربي وأمامها فرص وخيارات متاحة لا يستهان بها ومن ضمن تلك الخيارات عقد تحالفات خارج الإطار العربي مع باكستان وغيرها والخيارات كثيرة لا مجال للاسترسال بذكرها هنا.
خامسا:
المنطق السائد والمستقر في أمريكا الآن يتلخص بإيجاز على لسان الأمريكان شعبا ومراكز قرار بالتالي: توجد لدينا مشاكل كثيرة جداً في الداخل من الأحرى أن نلتفت إليها ونتعامل معها وعدم إنفاق أموال طائلة كما كان في الاستراتيجية الأمريكية القديمة.
سادسا:
إسرائيل الحليف الوحيد والامتداد الأمريكي المحروس بروح الله وبحسب جي كيه تشسترتون، أمريكا هي الأمّة التي تحيا بروح الكنيسة، بمعنى آخر هي إمبراطورية بنكهة دينية فهناك فضاء واسع للكنيسة الإنجيلية البروتستانتية في المشاركة في رسم معالم أي استراتيجية أمريكية حتى إنه من الشائع عدم إمكانية صعود رئيس أمريكي غير منتم لها ولم يحدث اختراق لهذا الأمر إلا في حالة كنيدي وتم قتله ويقال إن الكنسية كانت وراء ذلك وحالة أوباما هي فلتة من فلتان هذه الأحكام وربما لن تتكرر، بيد أن أوباما نفسه حاول استرضاء الكنيسة ذاتها بأعمال كثيرة حتى إن خطاباته الداخلية كانت توصف بأنها مواعظ قسيس في الكنيسة، وهذه الكنيسة تؤمن أن التعجيل بخروج المسيح يعني قيام دولة إسرائيل وتوحيدها واكتمال معالمها وهذا الأمر مستقر في السياسة الأمريكية رغم أنها علمانية ولكن بروح كنيسة.
سابعا:
الشرق الأوسط والخليج قلبه الأهم لم يعد هو الاهتمام الأول لأمريكا فقد تغيرت الأولويات بتقدم صناعة النفط واستخراجه في أمريكا من ناحية وبروز التنين الصيني القادم لإزاحة أمريكا من المركز الأول اقتصاديا بعد سنوات قد لا تطول، ناهيك أن روسيا وحلمها الأوراسي هي الخطر والأولوية الثانية ومع تعاظم تقارب روسيا الصين إيران وكوريا الشمالية وغيرها من دول في آسيا يجعل حسابات الأمريكان تعاد في رسم الأولويات التي تضع الخطوط العريضة لمجالها الحيوي ولمصادر الخطر القادم وأمامها صورة سقوط الإمبراطورية الإسبانية قديما ثم البريطانية، والحلم الأمريكي كان وعدا بالبقاء على قيادات العالم إلى ما لا نهاية أو إلى أجل بعيد، ومن ذلك الحلم والرغبة واليقين كان كتاب نهاية التاريخ والذي يفترض أن التاريخ انتهى عند الرأس مالية الأمريكية غير القابلة للزوال والممسكة بالاقتصاد والقوة العسكرية والعلمية.
ثامنا:
على اي مهتم أو شغوف بإدراك السياسة الأمريكية أن يدرك أن الاستراتيجية الأمريكية القديمة قد ماتت ودفنت أو تم تحنيطها على أفضل الأحوال لعل وعسى يحدث أمر جلل أو حرب كونية تغير مسار العالم ثانية لصالح أمريكا إذا تم سحق الصين أو جرها إلى مستنقع ما وهذا السيناريو كما أنه ممكن إلا أنه مستبعد فالصين ليست بذلك الغباء كي تبدد طموحها الجموح القادم بسرعة الصاروخ.
تاسعا:
ماذا عن بايدن وإدارته الجديدة؟
يصنف بايدن أنه من مدرسة الفكر التقليدي العتيق للحزب الديمقراطي، وهو صورة مشوهة من أوباما أيضا، حاليا يبدو كالبطة العرجاء، بحسب المصطلح الأمريكي الذي يطلق على أي رئيس خلال فترته الأخيرة وفوز خصمه، فهو رئيس، لكنه في هذه الفترة لا يستطيع القيام بقرارات أو أعمال مصيرية أو مهمة، إنها تشبه مرحلة تصريف الأعمال في الحكومات الانتقالية وبايدن ينتظر انتخابات قادمة للكونجرس قد تعصف بحزبه ما لم ينجز شيئا مهما للداخل الأمريكي عاجلا وما لم ينجح في إغلاق ملفين مهمين، الملف النووي الإيراني والملف الأوكراني، وهي مهمات صعبة لرجل متردد ولواقع اقتصادي أمريكي يشهد أعلى موجة تضخم منذ خمسين عاما، ولذا ليس بيده شيء ليقدمه للقضية اليمنية ولا للحلفاء في الخليج والمنطقة وسوف يزداد وضعه تعقيدا وضعفا إذا نجحت روسيا في استهداف أو استنزاف أمريكا وأوروبا في القضية الأوكرانية وسوف يكون ذلك مجالا جديدا لشروق صيني أكثر قوة وسينعكس ذلك علينا حتما في اليمن وفرصة لإيران بدعم أذرعها في المنطقة واليمن بصورة خاصة، كما أن وعود بايدن بإعادة دراسة إدراج الحوثي ضمن الجماعات الإرهابية سوف تذهب أدراج الرياح، وهي خطوة على أهميتها لن تشكل فارقا نوعيا في معركة اليمن ضد إيران والحوثي، لكنها خطوة ذات مردود إيجابي على كل الاحوال.
عاشرا:
أمريكا وإيران
تقوم السياسة الأمريكية نحو إيران على مبدأ الاحتواء وعلى المدى الاستراتيجي البعيد لتحويلها إلى حليف محتمل لا سيما وإيران الشاة كانت أهم حليف في المنطقة، إيران عرضت هذا الأمر على أمريكا ولكنها تريد ثمنا وهو ترك لها الوكالة في المنطقة والنفوذ الأوسع، لم يتمكن الطرفان من إبرام صفقة آنذاك، لكن الأمر متروك للمستقبل، بالطبع تريد أمريكا إمساك خيوط اللعبة كاملة في المنطقة وهي ليست شريكا مع العرب في حربهم مع إيران إلا حين تتأذى إسرائيل وسيناريو حرب إيران وإسرائيل مستبعد باستثناء الحرب السيبرانية وبعض العمليات الاستخباراتية أو الاغتيالات المتبادلة أو الضربات في سوريا ومناطق أخرى على نطاق محدود.
خلاصة القول:
كان هناك استراتيجية أمريكية قديمة صيغت للوهلة الأولى في نهاية القرن التاسع عشر عند بداية ظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية لأول مرة. وقد كانت الاستراتيجية الأصلية من بنات أفكار “ألفريد ماهان”.
وكانت قائمة على احتذاء حذو البحرية الملكية والنسج على منوالها مع الاعتماد على الذات وتوسيع المجال الحيوي، لكن هذه النظرية أصبحت في عداد المفقودين بفعل تغيرات العالم الجوهرية والاقتصادية في طليعتها ولن تؤثر أحداث أوكرانيا شيئا في تغير هذه الوضع بل ربما تزيد تواري أمريكا لصالح أقطاب جديدة.