ما يحتاج إليه اليمنيون بعد السنوات التسع العجاف هو الحد الأدنى من كرامتهم ولقمة عيشهم وأمنهم.
جاءت المفردات التي استخدمها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عند افتتاح دور الانعقاد الجديد لمجلس الشورى متطابقة مع توجهات سياساته في إغلاق كل الملفات المفتوحة داخل المنطقة ومحيطها، وهو مسار حيوي كي تتفرغ الأجهزة الحكومية لمواجهة التحديات المهمة المقبلة، وأقصد “إكسبو 2030” ثم كأس العالم لكرة القدم في 2034، والبدء في مشاريع المدن الاقتصادية واستكمال المشاريع العملاقة التي أطلقها ضمن رؤيته 2030 وما بعدها، وكلها تستدعي تفرغاً كاملاً لإنجازها بالصورة التي تظهر المملكة بموجب الملامح التي وضعها الأمير في بدايات العهد السعودي الجديد.
في معرض خطابه المهم والمحفز تحدث ولي العهد السعودي بلغة بسيطة ومباشرة في ما يخص القضايا الداخلية، وتلك التي تخص المنطقة عموماً وما يهمني في هذا المقام هو حديثه عن اليمن، ومن الضروري استعارة النص كاملاً والحديث عنه من وجهة نظر يمنية.
يقول الأمير: “وفي الشأن اليمني تؤكد المملكة حرصها على أمن واستقرار الجمهورية اليمنية الشقيقة ودعم جميع الجهود الرامية لحل الأزمة ورفع المعاناة الإنسانية عن الشعب اليمني الشقيق، والدفع نحو الوصول إلى الحلول السياسية لإعادة الأمن والاستقرار إلى اليمن، ودرء التهديد عن المملكة والمنطقة، ونعرب عن ارتياحنا للبيان الذي أصدره المبعوث الأممي الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن في شأن التوصل إلى خريطة طريق لدعم مسار السلام والذي جاء متوافقاً مع مبادرة المملكة لإنهاء الحرب في اليمن، ودعمها للجهود الأممية والدولية للتوصل إلى حل سياسي شامل ومتوافق مع المرجعيات الثلاث ومنها قرار مجلس الأمن رقم 2216”.
من اللافت أن النص تمت صياغته بطريقة تفصح بجلاء عن حرص المملكة الجاد على وضع حد نهائي للحرب التي مزقت النسيج الاجتماعي اليمني ووضعت قنابل موقتة لا يمكن تفكيكها إلا بضمان تنفيذ الملف الإنساني أولاً قبل الحديث عن الملف السياسي، وهو مسار سيمثل الاختبار الحقيقي الأخلاقي والوطني والإنساني لقادة الحرب المحليين ومن دون تنفيذه بغير تلكؤ فإن التحرك نحو بقية الملفات سيكون أمراً غير ممكن وبلا جدوى.
في كلمة الأمير محمد بن سلمان مفردة يجب التوقف عندها لأنها -من وجهة نظري- كانت تشكل عقبة وتحدثت عنها كثيراً وتجادلت مع كثيرين حولها وهي “المرجعيات الثلاث” التي تتمسك بها “الشرعية”، وهي محقة في ذلك، لأن ضعفها وتمزق مكوناتها جعل منها الرصيد الوحيد المتبقي في مواجهة جماعة “أنصار الله” الحوثية، وكنت وما زلت أصر أنها ليست نصوصاً مقدسة لا يمكن النقاش حولها أو حتى إسقاط بعض بنودها إذا كانت ستمثل عقبة أمام الحل السياسي، فبعضها -على سبيل المثال- لم يكن للمجلس الانتقالي أي دور فيها (المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني)، ولم يكن حاضراً عند إقرارها، وأخرى لم تكن جماعة “أنصار الله” مشاركة في صياغتها (المبادرة الخليجية) وكانت مستهدفة في أخرى مثل: (قرارات مجلس الأمن وخصوصاً القرار 2216).
استخدم ولي العهد السعودي مفردة “متوافق” مع المرجعيات الثلاث ليضع حداً للجدل العقيم بتمسك كل طرف إما لفرضها أو لرفضها جملة وتفصيلاً، وهذا يفتح باباً واسعاً لاستخدام ما يفيد تحريك الملف الإنساني أولاً في اتجاه الوصول إلى البحث في الملف السياسي.
ولا شك أن التعاون الوثيق بين الرياض ومسقط والتطور الإيجابي في العلاقات مع طهران يسهمان في وضع الرغبة السعودية محل التنفيذ والسير قدماً نحو وقف الحرب رسمياً ونهائياً، لكن ضمانة الالتزام هي مسؤولية يمنية صرفة وأولى قواعدها اتفاق مكونات “الشرعية” الممزقة حد التناقض في أهدافها كما تفتقد قيادات الكيانات المسلحة فيها إلى الانسجام والتوافق، وهي تواجه طرفاً متماسكاً إلى حد كبير وقادراً على اتخاذ القرار بسرعة.
إنني أكرر أن جماعة “أنصار الله” باعتبارها الطرف الأكثر صلابة ورسوخاً على الأرض والأقوى سيطرة على الجغرافية التي توجد فوقها، عليها أكثر من غيرها مسؤولية أخلاقية ووطنية لإبداء الرغبة الحقيقية في العيش المشترك مع بقية اليمنيين، وهي قادرة على ذلك بتقديم نموذج عبر عملية إطلاق الأسرى بقاعدة الكل في مقابل الكل، وكذا فتح كل الطرق التي تزيد من معاناة الناس خصوصاً تعز، وليس من الوطنية في شيء المساومة على هذه القضايا.
ومن اليقين أن هذه الإجراءات لن تغير من موازين القوى على الإطلاق، لكنها ستبعث رسالة فارقة عن جدية “الجماعة” في تقديم مبادرات إنسانية وأخلاقية ومد يد الرحمة للذين عانوا -وما زالوا- في تنقلاتهم داخل تعز وبين المدن الأخرى، وفي المقابل فإن على “الشرعية” القيام بواجبها كجهة شرعية يفترض أن تمثل كل اليمنيين فتسهم في تسيير الرحلات من مطار صنعاء إلى وجهات جديدة ينشدها اليمنيون للعلاج والدراسة والالتحاق بأسرهم.
إن ما يحتاج إليه اليمنيون بعد السنوات التسع العجاف هو الحد الأدنى من كرامتهم ولقمة عيشهم وأمنهم، وذلك ما يفتقدونه، سواء كانوا في مناطق “الشرعية” أم في مناطق “الجماعة”، وهذا أمر يمكن إنجازه بارتفاع الأشخاص الممسكين بالقرار في الطرفين أو الأطراف إلى منسوب أخلاقي يفوق بكثير ما نراه منهم الآن، وليعلموا أنهم أمام سانحة تحمل في طياتها بصيصاً من أمل افتقده اليمنيون المحاصرون في الداخل والخارج.
*نقلا عن موقع (إندبندنت عربية)