المسار الذي نُقل إليه اليمن، والمنطقة عموماً، بزناد إيراني وأصابع حوثية، يعيد إلى الأذهان كل التحذيرات التي كانت تطلق بشأن مخاطر الانقلاب الحوثي على أمن المنطقة والعالم، وما رافق مواجهته من مراوغات وخذلان وترضيات وضغوط أممية. كان التدخل لوقف المعركة الفاصلة ضد الانقلاب الحوثي الإيراني في الساحل الغربي عام 2018، والتي كانت على وشك أن تسترد الحديدة ومينائها من أيدي الحوثي، هي أكثرها أهمية فقد ألحقت أشد الضرر بمعركة استعاد الدولة. وحتى لا يبدو الأمر وكأن التدخل الخارجي كان هو السبب الأوحد في وقف هذه المعركة الهامة بموجب اتفاق استوكهولم، لا بد من الإشارة إلى حقيقة أن التدخل الخارجي كان قد وجد استجابة عند أجنحة في الشرعية لحسابات ارتبطت بالصراعات التي أخذت أبعاداً راحت تؤثر في بنية التحالف بأشكال مختلفة، وهو ما كان يجب التنبه له ومعالجته في مراحله المبكرة. على العموم ليس هذا مجالاً للحديث المفصل عن هذا الموضوع، وكنت، من موقعي كسفير لليمن قد نبهت الجهات المختصة لخطورة هذا الأمر في حينه، وكل ما يعنينا الآن هو تبيان الأثر السلبي للضغوط الخارجية والتماهي معها، فيما يخص أهم حدث كان معولاً عليه في تغيير المعادلة بصورة كاملة.
وفي حين راحت إيران تنشئ مراكز عسكرية بأسلحة إيرانية حديثة من صواريخ ومسيرات وغيرها في اليمن، وتقوم بإعادة تأهيل مخزونات الجيش اليمني الكبير من الأسلحة، وتدريب المليشيات الحوثية العقائدية، وتمدها بخبرات من الحرس الثوري الإيراني، وتؤهلها لمواصلة الحرب الداخلية، وتعدها لمعاركها الخارجية التي تخطط لها، قامت إدارة بايدن باتخاذ خطوات أعطت المشروع الايراني وأدواته زخماً جديداً في المنطقة بحسابات سياسية حلقت فوق ما تقتضيه مصالح اليمن وبلدان المنطقة من قرارات مسئولة، وخاصة من قبل قوة عظمى معنية مع غيرها بأمن واستقرار العالم، ومن هذه الخطوات إسقاط المليشيات الحوثية من قائمة الإرهاب التي كانت قد أدرجت عليها قبل ذلك من قبل إدارة الجمهوريين.
لقد فسرت إدارة بايدن أن الهدف من إسقاط الحوثي من قائمة الإرهاب يعود إلى يقين الإدارة الأمريكية من أن ذلك سيسهل إقناع الحوثيين بالانخراط في عملية السلام في اليمن.
لا نعتقد أن أمريكا لم تكن تدرك أن قرار انخراط الحوثيين في عملية السلام كان في طهران، وأنه بيد المنظومة المليشاوية العقائدية لأكثر من بلد عربي والتي أخذت تتشكل وتدور حول محورها المركزي المتمثل في الحرس الثوري الايراني. لكنها تقلبات السياسة حينما لا تجد ما تسترشد به في مواجهة التحديات غير التغطي بأحداث طارئة تجعل منها حجة لكسر المعادلة وتغيير مجرى الأحداث.
واليوم، لا ندري ما إذا كان المبعوث الأمريكي إلى اليمن السيد لندركنج، الذي عينه الرئيس بايدن بتزامنٍ مع إسقاط الحوثي من قائمة الإرهاب، قد توصل إلى قناعة بعد ثلاث سنوات من غدوه ورواحه وجهوده من أن الحجة التي أطلقتها الإدارة الأمريكية يومذاك كانت وجيهة أم لا!! بالتأكيد يستطيع أن يرد على ذلك من خلال تقييم النتائج التي خلص إليها في عمله مع الحوثيين بشأن عملية السلام. قد أستبق الإجابة وأقول بأنها لم تكن بالنتيجة غير محاولة لتغييب الوعي السياسي عن حقيقة أن مصالح الشعوب ليست سوى بيادق تحركها اليد التي لا تهتم في نهاية المطاف إلا بقتل الملك الخصم ولو على سبيل التسلية، كما يحدث في لعبة الشطرنج. وإذا كان الأمر كذلك فما الذي نجم عن تحريك البيادق حتى الآن؟!
لا زالت المباراة في منتصفها!! خرجت إيران من عنق الزجاجة، وقلبت الطاولة وحركت بيادقها في الاتجاه الذي خططت له ورسمته منذ بداية الأمر. استطاعت أن توظف أهم قضية سياسية وإنسانية عربية في العصر الحديث “قضية فلسطين”. نفضت عنها عروبتها أولاً مستنجدة بما عرف بالمقاومة الإسلامية، ثم نفخت الإسلامية بغازات مذهبية طائفية لتجعل منها الدرع الذي تتخفى فيه وتحتمي به هي ومشروعها الطائفي، وزجت بأذرعها للقيام بمناورات على هامش مأساة غزة لتضع المنطقة كلها على شفا الهاوية. وبعد أن كانت قبل “طوفان الأقصى” في مواجهة مباشرة مع العالم، دفعت بأذرعها، التي صنعتها تحت سمع وبصر هذا العالم، وعلى حساب قهر وقمع وتشريد شعوب بلدان عربية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، لمواجهة هذا العالم نيابة عنها.
ما أطلقت عليه منظومة الحرس الثوري الإيراني “محور المقاومة” هو خلاصة ما وصل إليه ذلك العقل الذي يتحرك داخل هذه المنظومة، والذي راح منذ الثمانيات يبحث في كيفية إيجاد حُزَم من المليشيات المسلحة تسليحاً عسكرياً وعقائديا طائفياً تصبح مهمتها الأولى بموجبه هي الاستيلاء على السلطة، أو الهيمنة عليها بصورة تكون لها اليد الطًولى فيها. ولكي تكسبها مشروعية شعبية تبرر تلك الهيمنة الانقلابية الفوضوية على الدولة ومؤسساتها الدستورية، أطلقت عليها “محور المقاومة”. مقاومة ماذا؟!
ظلت الإجابة على هذا السؤال ملتبسة حتى اليوم. وعلى الرغم من محاولة ربطها بقضية فلسطين، إلا أنها لم تستطع أن تجد لهذا المصطلح مكاناً في تلك المقاومة الفلسطينية التاريخية الباسلة والأصيلة في مواجهة الاحتلال الصهيوني وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني منذ النكبة وحتى غزة.
كل ما استهدفه هذا المصطلح هو محاولة تهميش المحتوى القومي والوطني للمقاومة، وربط المقاومة بطائفة بعينها، وهكذا نجد أنه كلما كبرت التحديات التي تواجه هذه الأمة اخترقت من خارجها بتكوين جيوب عارضة تهدد كيانيتها وتماسكها وهويتها، مستغلة تردد أنظمة الحكم من بناء دولة المواطنة التي لا توفر أي مساحة للسلوك الخاطئ لهذه الجيوب تجاه أوطانها، وتغلق أمامها الأبواب لأي مؤامرات تستهدف المصالح الكبرى لأمتها.
كان الامتحان الأكبر لهذا “المحور” هو غزة. فبعد أن قدم نفسه للشعوب العربية والعالم على أنه هو “المقاوم” الوحيد بقيادة إيران، ترى ما الذي كان يتوجب عليه أن يفعله وقد شطب على كل التضحيات والمقاومة الفلسطينية والعربية منذ النكبة، ليعيد بناء المقاومة في الوعي العربي بأنها الحرس الثوري الإيراني والمليشيات التي تدور في فلكه؟
كان اختباراً تراجعت معه كل المزاعم التي كادت أن تسدل ستار النسيان على تاريخ المقاومة العربية الفلسطينية وتضحياتها الجسيمة وصمودها الأسطوري، لتضع حجر الأساس لمقاومة من نوع آخر تقودها إيران على قاعدة يتصادم فيها المشروع القومي والوطني العربي مع المشروع الطائفي الايراني.
وهنا يبرز سؤال: أين تقف القوى العظمى من هذا الصراع؟!
لا تبدو الإجابة على هذا السؤال ممكنة دون تتبع مجرى الأحداث في المنطقة منذ ثورة الخميني على الشاه عام 1979 وحتى اليوم، فالقوى العظمى لا ترفع صوتها في وجه إيران إلا حينما يتعلق الأمر بمشروعها النووي، أما مشروعها السياسي الطائفي، وتكسيره لبلدان المنطقة، وتمزيق شعوبها وتشريدهم فربما لا يعنيها كثيراً. لذلك عندما قام “تحالف الازدهار” مؤخراً بقصف أهداف عسكرية إيرانية في اليمن بسبب ما تتعرض له خطوط الملاحة الدولية، لم يشر إعلام هذ التحالف إلى أنه يقصف أهدافاً ايرانية، وهو يعرف تماماً أنها قواعد ومراكز إطلاق إيرانية، بل أطلق عليها أهدافا حوثية، مما يؤسس في وعي المتابع أن هناك قوة على أرض اليمن مستقلة بقرارها اسمها الحوثي بغض النظر عما تقوم به من أعمال مضرة بالأمن الدولي والإقليمي.
من هنا تأتي لعبة الإعلام، أو أخطائه، في إخراج إيران من هذه المواجهة لتبدو الضربات وكأنها تستهدف بلداً فقيراً لا يبدو فيه الحوثي غير متشرد في الجبال والشعاب وحواري المدن ومشغول بنهب مقدرات الناس، يطلق الصواريخ العشوائية للمشاغبة عند البعض، أو مناصراً لفلسطين عند البعض الآخر، ولا تظهر فيه إيران كمحرك رئيسي للأحداث، وإنما كداعم لا يظهر له من دور إلا عن بعد.
على كل حال، يمكن القول إن ما يسمى محور مقاومة إيران لن يستطيع أن يتجاوز إخفاقاته في تأسيس موقع مميز لمشروعه في مواجهة المشروع القومي الوطني، لكنه بمثل هذا المنطق الذي يتحرك فيه إعلام التحالف، سيستفيد لا شك من استدراج “تحالف الازدهار” إلى مواجهة مع الحوثي في اليمن، لا مع إيران، وهذا يعني أن التحالف لا يريد أن يذهب إلى جذر المشكلة التي تؤذي المنطقة وشعوبها، إلى جانب ما تشكله من خطر على الأمن العالمي. وفي موضوع كهذا كان يجب عليه أن لا يبدو وكأن ما يهمه من الأمر كله هو ما يتفرع عن المشكلة من أضرار بمصالحه فقط.
إن هذا يتوقف على الهدف الذي يتوخاه التحالف من ضرباته في اليمن. بمعنى أنه لكي يبدو واضحاً في مواجهة هذا السلوك الإيراني، كمصدر خطر على الأمن الإقليمي والدولي، فإنه لا بد أن يعيد بناء قواعد الاشتباك معه بتصحيح موقفه من أن هذه الضربات إنما هي موجهة ضد مراكز إيرانية عسكرية تنطلق منها النيران ليس فقط لتخريب الملاحة في البحر الأحمر وإنما بسبب الخراب الذي ألحقته بكثير من البلاد العربية وتهديدها للأمن الإقليمي والعالمي، مع ما يعنيه ذلك من ضرورات لتصفية هذه المراكز العسكرية ومساعدة اليمن وغيرها على الخروج من القبضة الإيرانية. بل ربما كان التمسك بأنها مواجهة مع “الحوثي”، دون إعادته إلى قائمة الإرهاب، مؤشراً على أن المسألة كلها لن تؤدي سوى إلى تضخيمه، وهو الذي كان يسعى إلى مثل هذه الضربات بفارغ الصبر لتؤسس له مشروعية على حساب اليمن ودماره وخرابه وتشريد شعبه.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك