تجشأت الجدران

زرت صعدة لأول مرة عام 2000 تقريباً في مهمة صحفية لتغطية أول انتخابات رئاسية ومحلية لصحيفة الجمهورية؛ وكذا لرصد إنجازات الثورة اليمنية في أقصى محافظات الشمال.

أعجبتني المحافظة، وحبيت ناسها الطيبين ولكن كان هناك أشياء غريبة وعجيبة لم أعايشها من قبل!

شفت عرض جدران الشوارع لأول مرة بحياتي عبارات متفرقة وغريبة لم أشاهدها من قبل بأي مكان آخر؛ غير جدران صعدة ولم أجد لمرة واحدة مثلا عبارة “الحب عذاب” أو حتى عبارة “ممنوع التبول هنا” وأقرأ من جدار لآخر بين الخطوة والأخرى عبارة “لعنة الله على معاوية”.

وأنا لهاذيك الساع والله مانا داري منو معاوية هذا اللي يلعنوه ولا أنا داري ليش يلعنوه!

اعتقدت في البداية بأنه واحد من المرشحين للانتخابات الجارية لكن ما لقيت له ولا صورة ولا افتهم لي موضوعه بالضبط!

وشفت عبارات أخرى متفرقة تقول: “لي أربعة اطفىء بهم نار اللظى الحسن والحسين وفاطمة والمرتضى”.

واعتقدت بأن أربعتهم مرشحون يخوضون المنافسة في سبيل الفوز بمقاعد المجالس المحلية!

وفوق الباص لم أكن أسمع أي نقاشات تدور بين الركاب حول الانتخابات أو أي من تلك الهموم اليومية الأخرى التي ينشغل بها عموم اليمنيين.

بل كنت أسمع نقاشات كثيرة تدور حول “بني أُمية”، و”عمرو بن العاص”!

وأجلس في مقايل كلها تتحدث عن “موقعة الجمل” وعن” علي بن ابي طالب”، ويخيل لي لحظتها بأنني محشور في كواليس مسلسل تاريخي سيعرض في رمضان! ما جعلني أسأل أحدهم مرة بسذاجة:

(رد مزدريًا)

وعدت يومها إلى غرفتي في الفندق وأنا خائف لو “ينبع لي” معاوية من أقرب نافذة ويسألني صارخًا:

يا الله خراجك.. أيش أقولُّه؟ جيت اعطي الانتخابات وأحصي إنجازات الثورة يا فندم!

وإن قلت له ذلك، ما الذي يضمن لي أصلاً أن معاوية يقف في صف الثورة والجمهورية اللي سرت اغطي إنجازاتهن للصحيفة!

ثم بمرور الوقت صرت شغوفا أسأل في المقاهي والمقايل والبقالات وفوق الدباب عن “الحسن والحسين” وكأن احنا اصحاب درسنا سوى في الجامعة. وأكثر ما كان يخيفني لو أكون متواجدًا في مكان ما وأتفاجأ بأحدهم يسألني:

يا ساتر يا الله، أيش أقله؟ كنت ألعب كُرة في الحارة؟!

ما يسبر طبعا، خصوصا وأن الحوارات المتداولة عن علي ومعاوية كانت تبدو طرية لكأنهم خاضوا الخصومة أثناء حرب الخليج مش قبل دهر!

ولقد تعرفت حينذاك على اثنين ضباط من أحب وأجمل الناس اللي صادفتهم في صعدة؛ الأول من سنحان ويدعى “عبدالله الضبوي” وكان يعمل قائدا لأركان الأمن المركزي.

والثاني كان صديقه الحميم؛ الفندم “إبراهيم عباس” ولم اعد اتذكر ايش كان موقعه في الأمن المركزي.

كان “إبراهيم” متشيعًا لآل البيت و”عبدالله” متشيعًا للرئيس صالح؛ وكانا لطيفين معي جدا؛ وبفضل صحبتهما جلست في صعدة 50 يوما؛ مش إلا اسبوع واحد فقط بحسب ما كان يفترض بموجب تكليف صحيفة الجمهورية لي.

ولم يكن اسم الحوثي قد لمع حينها ولا له أي أثر أو وجود.

وكنت الاحظ مفاحسات شبه يومية تدور بين الصديقين؛ ابراهيم والضبوي؛ آخذة مداعبات المزح؛ ولكنها كانت مزاحات لها أبعاد سياسية لم أكن أفهما أو افطن لها حينذاك.

كان إبراهيم عباس يقول لصديقه:

وكان عبدالله الضبوي يضحك ساخرا من كلماته ويرد بكل ثقة:

-قدي في الجيب ما ذلحين.. والذي سار سار خلاااص ما عيرجع!

كنت استمع الى ممازحاتهما تلك وأنا والله ما لي علم ما هي هذي الذي عيرجوعها؟ ولا ما هي هاذيك الذي قد دخلت الجيب خلاص وما عد شتخرج. ولكن الذي حدث فيما بعد جعلني أفهم وأعرف؛ ولكن بعد ايش؟

عدت في نهاية المهمة إلى تعز على أية حال وأنا أحمل في قلبي الحب الكبير لصعدة ولمزارع الرمان ولتربتها الطيبة ولناسها الطيبين وسلمت لرئيس تحرير صحيفة الجمهورية حينذاك الاستاذ المرحوم/ محمد علي سعد مادة صحفية مطولة عن صعدة، كتبت فيها انطباعاتي ومشاهداتي كما هي أعلاه؛ مع رصد سريع للإنجازات اللي شفتها؛ ووضعت للمادة عنواناً في مانشيت عريض على النحو التالي:

بعد عقود من عمر الثورة.. حرب دينية مستعرة في جدران شوارع مدينة صعدة.

لأتفاجأ عند نشرها في الصحيفة برئيس التحرير وقد حذف كامل تلك الانطباعات التي أثارت غرابتي؛ واستبقى منها ما يشير للانجاز فقط؛ وغير العنوان الرئيسي للمادة وكتب نيابة عنه مانشيتا عريضا قال فيه بالبنط العريض:

“صعدة تشهد إنجازات تنموية عملاقة”!

ثم لم تمضِ فترة طويلة من بعد ذلك حتى تجشأت تلك الجدران واندلعت شرارة الحرب الأولى في صعدة!

والآن بعد أربع وعشرين سنة ما زلت زعلان حتى هذه اللحظة على مادتي الصحفية تلك؛ وزعلان أكثر وأكثر على صاحب سنحان الذي لم يستوعب الدرس.

*من صفحة الكاتب على الفيسبوك

Exit mobile version