كتب – عمار علي أحمد:
أثار تحقيق هيئة الإذاعة البريطانية BBC حول حوادث الاغتيالات التي شهدتها العاصمة عدن عقب تحريرها من مليشيا الحوثي، ذراع إيران في اليمن، منتصف عام 2015م، جدلاً مستمراً حول المزاعم الواردة فيه.
التحقيق اتهم دولة الإمارات العربية الشريكة في التحالف العربي ومعها القوات الجنوبية الحليفة لها بإدارة عمليات الاغتيال في عدن عبر مرتزقة أجانب والزعم بأن هذه العمليات استهدفت خصوماً سياسيين متمثلين بجماعة الإخوان المسلمين، بل واتهام المجلس الانتقالي الجنوبي والإمارات بالتحالف مع عناصر مشتبه بانتمائها للقاعدة في تنفيذ هذه العمليات.
هذه المزاعم والاتهامات أثارت غضباً ورفضاً واسعاً لدى الجنوبيين وخاصة أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي وخصوم جماعة الإخوان، الذين اتهموا الجماعة وجهات إقليمية باستمرار سياسة التحريض ضد القوات الجنوبية والمجلس الانتقالي وتشويه الدور الإماراتي في اليمن بجملة من الأكاذيب لا تستند على أي حقائق.
الغضب ضد تحقيق الـ BBC ناتج عن التناقض الواضح بين المزاعم والاتهامات التي حاول تسويقها وبين حقائق الأرض التي تشير إلى المعركة المفتوحة منذ سنوات بين القوات الجنوبية والانتقالي من جهة والتنظيمات الإرهابية من جهة أخرى، وكون الطرف الأول مثَّل -ولا يزال- الطرف المستهدف من قِبل هذه التنظيمات والضحية الأولى لحوادث الاغتيالات والعمليات الإرهابية.
وبعيداً عن هذا الجدل، إلا أن الزاوية الهامة التي غابت وسط كل هذا الضجيج، الإشارة إلى أن هذا التحقيق يشير إلى حقيقة صادمة تتمثل في بقاء السردية الغربية فيما يخص الأحداث في المنطقة العربية وبخاصة اليمن على ما هي دون تغيير، على الرغم من المشهد الجديد الذي تعيشيه المنطقة جراء التهديد الذي تتعرض له الملاحة الدولية من قبل مليشيا الحوثي بإيعاز من إيران.
فالتحقيق ومعدته نوال المقحفي، لم يكن إلا حلقة جديدة ضمن مسلسل طويل من التقارير والتحقيقات التي تعكس سياسة القناة ومن خلفها السياسة الإعلامية لبريطانيا والغرب في تعاملها مع الملف في اليمن منذ عام 2015م، بشكل يتطابق بشكل تام في السردية الإيرانية والحوثية، بل ويتعاطف معها.
سردية تقوم على تصوير الحرب في اليمن بأنها حرب بين الداخل اليمني تمثله جماعة الحوثي وبين “عدوان” خارجي يمثله التحالف العربي، وليست حرباً فجّرها انقلاب مسلح قادته جماعة مذهبية على مؤسسات الدولة والمجتمع في اليمن، ولم يكن تدخل التحالف إلا عاملاً ثانوياً في المشهد اليمني.
فسلسلة التحقيقات التي قامت بها BBC عن الحرب في اليمن منذ عام 2015م وغالبيتها كانت من إعداد الصحفية نوال المقحفي، تدور جميعها في اتجاه السردية السابقة من خلال تسليط الضوء على التدخل العسكري للتحالف في اليمن وتداعيات هذا التدخل من غارات وأخطاء، بمقابل التجاهل التام لدور جماعة الحوثي وجرائمها.
ويمكن ملاحظة ذلك من أول تحقيق أعدته القناة عن الحرب في اليمن بعنوان “اليمن.. الحرب الخفية” بعد 6 أشهر من انطلاق عاصفة الحزم وأعدته المقحفي التي بدأت التحقيق بمشهد وهي تقف بجوار بناية في صنعاء تعرضت لغارة من قبل طيران التحالف.
لم تكن هذه البداية لتحقيق القناة وصحفيتها المقحفي لأول تحقيق حول حرب اليمن، نابعاً من فراغ بل يعكس سياسة القناة وسرديتها للأحداث التي تتطابق مع سردية الحوثي باعتبارها “عدواناً من قبل السعودية والإمارات بحق اليمنيين”، وليست حرباً اندلعت مع اقتحام مليشيات الحوثي للعاصمة صنعاء في سبتمبر 2014م، أو باقتحامها للعاصمة المؤقتة عدن بعد ذلك بـ6 أشهر، ودك بنايات المدينة على رؤوس ساكنيها بقذائف دبابات المليشيات.
أنتجت القناة وصحفيتها المقحفي عشرات التحقيقات عن حرب اليمن ضمن هذه السردية، فتجدها تخصص أواخر 2016م تحقيقاً كاملاً عن حادثة قصف صالة العزاء في صنعاء من قبل التحالف بعد شهرين فقط من الحادثة ومن قبل صنعاء وبتسهيل كامل من قبل الجماعة تكرر في كل التحقيقات اللاحقة، دون أن تنتج القناة البريطانية تحقيقاً واحداً لآلاف الجرائم التي تتهم جماعة الحوثي بارتكابها ضد اليمنيين منذ عام 2004م.
التحقيق الوحيد الذي أنتجته القناة عن الجماعة الحوثية خلال فترة الحرب بثته قبل أسبوعين فقط من اندلاع الحرب في مارس 2016م، بعنوان “الحوثيون من الجبل إلى السلطة”، كان أشبه بفيلم دعائي لتلميع صورة الجماعة وإظهارها في إطار “المظلومية ثم البطولة”، بل إنها حاولت تسويق الجماعة للغرب كوكيل لمحاربة القاعدة في اليمن، ولم تتطرق فيه لأي من جرائم الجماعة.
تعامل القناة مع ملف اليمن يظل في الأخير جزءًا من السياسة البريطانية نحو اليمن والمنطقة العربية، والتي لا ترى في المشروع الإيراني خطراً على مصالحها في ضوء العلاقات الجيدة التي تربط لندن والنظام الإيراني، وذات الأمر ينسحب على السياسة الأمريكية التي وإن كانت في عداء معلن مع النظام إلا أن الأمر لا ينطبق على أذرع النظام ومنها جماعة الحوثي.
سياسة غربية تجلت بوضوح في سير الحرب في اليمن طيلة السنوات الثماني الماضية ومثلت أحد الأسباب التي أعاقت هزيمة الجماعة الحوثية عسكرياً، وحصدت اليوم مشهد التهديد ضد الملاحة الدولية بالبحر الأحمر وباب المندب من قبل الجماعة، إلا أن هذه السياسة يبدو أنها ماضية دون تغيير كما يقول بذلك تحقيق الـ BBC والذي يؤكد بأن الغرب لم يبدأ حرباً حقيقية ضد ذراع إيران في اليمن لحماية الملاحة الدولية.