“فتحية”.. ومطلب العدالة

 


 جلست فتحية على رأس الديوان بلهجة القرية النقية، وجسدها الرفيع ككبرياء حرف الألف وهمزة لثامها الذي لا يفارقها. كنت أعرف فتحية منذ سنوات لكنها تبالغ في الغياب ككل الأشياء الجميلة في حياتنا.


 كلٌ منا قابل يوماً ما شخصا شبيه بفتحية. القوي الذي يخفي اوجاعه خلف جدار صلب، وإن بدى منها طرف سخر وهو يلهو بها كدمية خيوطها بين يديه. يشعرك مثل هذا الشخص، وأنت تقارن مصابه بحالك، بأنك طفل متباكي على قطعة حلوى.


 انتزعتني قبضتها القوية من حالة تشتتي لتعيد الشقوق التي تملئ وجهها ويديها ترتيب جزء مني. كانت شقوق كف فتحية بحاجة لعمر إضافي لمحاولة رأبها. إلا أن شقوق البعض، بقدر ما تجرح صاحبها، تسمح للضوء بولوجه. لذلك تجده مبتسم بثقة طوال الوقت.


 


أعادت لي ذاكرتي الضعفية بعض من قصتها وهي تجلس بجواري: انتزاع أطفالها الصغار من أحضانها بعد أن طلقها والدها من زوجها الذي كان قد أغضبه في جلسة مقيل. أتذكر جيداً وجود “هَجَر” لم يدفع للوالد، “وثور” لم يقبل الزوج بذبحه. لتقضى فتحية حياتها وحيدة إلا من بعض زيارات لأبنائها في سنواتها الأخيرة.


 


لم أتوقع أن الهربَ من حديث الحرب أمر صعب حتى مع فتحية المرأة القروية البسيطة، التي أمسكت بغصن القات الذي غرسته وسهرت على حمايته بيديها، لتبدأ بسرد الأحداث الدائرة في جبهة مريس ودمت. صححت بطرف الغصن على أرضية الديوان خريطتي الخاطئة لسير المعارك بكل دقة، وهي تؤكد حقيقة المعارك لسماعها بعض الانفجارات ومشاهدة هروب بعض من أفراد الميليشيا بأم عينيها.


 


“كانوا حفاة الأقدام، شعث مدبرين” قالت فتحية؛ يتلفتون حولهم خوفاً من اقتراب جنود الجيش الوطني الذين لم يفصلهم عنهم سوى ساعات وإرادة (أرجو ألا زيف فيها هذه المرة). لوت شفتيها بقرف وهي تعيد العبارة التي ألقتها عليهم ما أن لمحتهم أسفل حقلها: “لو مسكت أنت وهو المفرس، وشقيت بأرض أبوك وجدك ما تبهذلتم هذي البهذلة”. أعادت الموقف أكثر من مرة على مسامع النساء اللواتي شدهن ضوء ابتسامتها المنيرة للمكان، وكأنها تسرد نصر شخصي لها. هتفت احداهن: “ما خفتي، لا جبرش”؟ جزت فتحية أسنانها بصوت مسموع وهي تجيب: “والله لو معي سلاح كنت قنصتهم بنفسي”.


 


ألقت بعض النسوة عبارات ساخرة على تباطؤ وتخاذل حكومة الشرعية والجيش الوطني، لتتصدى فتحية للدفاع عنهم باستماتة وإيمان أعمى لم أجده في أكبر منظريها وصحفييها، دون أن تتوقف عن رجائها من الله إتمام نصره عليهم، وهي تغلق كل عبارة بدعوة: “أنا فدوهم”.


 


اصابتني حماستها بالدهشة! ما سر حربها الصغيرة التي تقودها في المكان، سيدة لم تقرأ يوماً ولم تعرف التاريخ لتدرك الأبعاد السياسية أو العقائدية لفكر جماعة الحوثي؟! ليست موظفة لتتضرر من قطع راتبها، ولم تقم الجماعة نقطة عسكرية حال بينها وبين حقلها. على العكس من ذلك، مُنعت اغنامها من الرعي بالقرب من معسكرات الدولة سابقاً، كما ذكرت لإحداهن، فلماذا نصرت الشرعية دوناً عن أي جماعة غيرها؟!


 


ترددت قليلا قبل طرح سؤالي، وتلقي رده منها: “يا بنتي لازم الحق ينتصر مرة، الى ايحين بيبقى الظلم محلق فوقنا”؟ غص قلبي حين أطل من عينيها، وفي لحظة ضعف، الوجع الذي قضت أيامها في طيه وكتمانه. توق وحاجة إنسانية لهزيمة ظلم بيَن بلغ غايته. ترجو هزيمته والنصر عليه، سواء نالت جزء من ذلك النصر وعدالته، أم مر عليها دون أن تصيبها ثماره.


 


لم تكن فتحية فقط من تطالب بالعدالة. ملايين من هذا الشعب طالب بها بسلمية قريبة للسذاجة قبل قيام الحرب. ومازالوا يحملونها، وان اختلطت بالكثير من الخيبات. ورغبة، وإن كانت خفية حتى عن أنفسهم، باستخدام العنف (كفتحية تماما)، لتحقيق ما يصبون اليه، بينما يراقبون وهج المعارك التي لا تلبث أن تشتعل حتى تخبو.


تسير فوق مأزق وجودي صعب، حين تضطرك الحياة للبحث عن عدالة. تخشى من السير مرغماً على ما يراد لك من عبودية لا تقبلها على نفسك. وتفزع في نفس الوقت من لحظة انهيار جدار انسانيتك الهشة وانزلاقك لمنفذ وحيد ينتظرك وهو يمد لك بسلاح همجيتك الجديد…!


 


 


 

Exit mobile version