مقالات

عن الجنوب.. نوفمبر الضائعة.. الى روح حوات وزهرة

 


رحم الله زهره صالح.. التي انتقلت الى رحمة الله اليوم بعد ملاحقات لم تتوقف لمسيرات وفعاليات الجنوب.


وفاة الهامشيين من مناضلي الجنوب، يعطيك الصورة الحقيقة عن “المعاناة الجنوبية”. الصورة الخارج اطار السياسية وصراعاتها ومقولاتها وقوانينها.


‏النضال لأجل الجنوب كان شعاراً لبسطاء الناس، الذين أقصتهم تقاليد دولة 22 مايو التي غرقتها صنعاء بالهلع.


‏تحت شعارات الجنوب وعلم الجنوب تماسك الآلاف من الناس، وصار لحياتهم معنى وقيمة، حتى أصبح علم الجنوب رمزاً لإنسانهم.


‏وللأسف حتى اليوم لم تتفهم نخب دولة مايو الأمر، بل حتى مجتمع هذه الدولة لم يفرق بين صراعات السياسة والحاجة الإنسانية لمجتمع سُحقت قواه التقليدية على يد دولة الحزب الاشتراكي، لكنه أعاد بناء رموزه بطرق مختلفة، لأن الحزب بالأصل كان أداة شعبية وليس طرفاً قبلياً مناطقياً، رغم كل التهويمات المناطقية التي تُقال ضده.


ورغم تماسك بعض المناطق إلا أن غالب نخبة الناس جنوباً كانت تتحقق مصالح وجودهم وفقاً لقدراتهم الذاتية الفردية.


فهذا شاعر، وهذا فنان، وهذا رياضي، وذاك صحفي، وهذه مهندسة، وتلك محامية… والجميع يعيش ظروفاً متشابهة.


قامت الوحدة فعصفت بكل هذا التراتب، وانتقلت قيادة الدولة من مقهاية زكو والسكران وأزقة كريتر وحوافي دار سعد إلى قصور صنعاء المحاطة بالحرس والحراس، البعيدة عن مواطنيها ومصالحهم، تنافس نخب صنعاء المرتبة علاقاتها بمجتمعها بشكل مختلف، إذ للمجتمع شمالاً طرقه للحصول على مصالحه معتمداً على الشيخ والفندم وطول البقاء في أزقة المعاملات والملاوعات البعيدة عن الشعارات السياسية، حتى إن الإخواني موظف في الأمن السياسي، والناصري في التوجيه المعنوي لمن يتهمه بقتل الحمدي، والشيخ حمود هاشم الذارحي في كل وزارة يراجع بعد ناس وصلوه وهم أصلاً من الذين يتهمهم بالزندقة.


وقبل أن يعيد مجتمع الجنوب ترتيب حياته بناء لما اقتضته دولة الوحدة، وجد نخب تلك التي قد كانت في قصور صنعاء وقد صارت مشردة بحال أسوأ منه متهمة بالانفصالية، وكأن مايو كان فقط لتغيير التهمة من الشيوعية إلى الانفصالية لإنزال نفس العقوبة.


إنسانياً، وأياً كان تقييم الصراع السياسي، فإن كلفة هذا على الجنوب عالية جداً.


ضربتين على الرأس.. توجع فما بالك وهن أربع وخمس.. لذا تصحّر الجنوب.


وإذا كان السياسي “تقلب”، فهذا كفلته السعودية، وهذا عاش في الإمارات، وآخر انضم للمؤتمر والإصلاح.. فإن الإنسان العادي وجد نفسه عارياً من كل حماية.


مات أحمد بن أحمد قاسم ومحمد سعد عبدالله وماعاد معهم قيمة “كواية للبدلة” المعلقة، وتوظف أبوبكر الماس هامشيا، وانزوى شرف محفوظ يربي عياله، وأغلقت راقية حميدان بابها وتلفونها، وآلاف الرموز الاجتماعية انزوت حتى تلاشت تماماً، فيما دولة صنعاء يزدحم حولها كل نافذ يراها مدخلاً لطريق من اتجاه واحد.


ظل سيف البقري على قارعة طريق الضالع يعدد سيارات القيادات الجديدة نازلة تُعيِّد في عدن.. ويعدد قيادات جيش الجنوب التي تقضي العيد ولم يعد لديها حتى قيمة “مرق العيد للعيال”. وهذا حديث سمعته منه للشهيد الراحل عبدالقادر هلال في أول زيارة حكومية رفعية المستوى للضالع رافقتها انا كصحفي مهتم بالحال في الجنوب.


يوم دعونا لزيارة جمعية المتقاعدين، التي اشعلت الدنيا فيما كل رأس مالها دكان يخزن فيه عمداء الجيش السابق على “كراتين” مفروشة في ارضيتها وقليل “حجار”.


ليست المسألة مالاً.. وهذا ما لم تفهمه صنعاء، لذا فتحت خزينتها لمراضاة الغضب جنوباً، في تأكيد أنها لم تفهم “الحكاية”.


هؤلاء الناس يريدون معنى لحياتهم.. وقد وجدوا أن النضال تحت علم الجنوب ينفخ فيهم الروح، هم يبحثون عن توجه يحمل مصالحهم، يريدون أن تتحقق مصالحهم بما لايهتك وجودهم.


“مش” تدفع له مليون وتقول له اجلس ببيتك، سيذهب يصرفها ويرجع تائهاً أكثر، وبدلاً من أن تبني معه توجهاً عاماً يصنع حضوراً وحياة، أنت تحوله إلى “مرتزق” وسيوجعك ويوجع نفسه إن قبل.


ولن تحل المشكلة الاساسية.


وللأسف أيها السادة، أن المشكلة لاتزال قائمة إلى اليوم..


ولايزال منهج استهداف الإنسان الجنوبي.


يوم مات “حوات الجنوب”، قلت لنفسي: لن يستقر الجنوب حتى تدرك نخب المصالح أن إنسان الجنوب لايزال غير ممثلة مصالحه كما يريد ويستحق.


كان “حوات” اسماً مستعاراً اشترك مع آلاف الجنوبيين بأسماء مستعارة، منها اسمه هذا في نقاشات ملأت الفضاء.


كانوا يريدون اسماً جامعاً يمثلهم، فوجدوا اسم الجنوب.. منحوه من أرواحهم روحاً.


الواحد منهم يشتغل في محل بالسعودية أو لاجئ في كندا أو طالب في الهند، أو حالم بأي من هذه في قرى الضالع وشوارع عدن ومقاهي المكلا.. ولكنه يقتطع من جهده وماله ليشارك في حياكة علم التمثيل الوطني.


وفي لحظة ارتباك غبية وبدلاً من إبقاء الجنوب بعيداً عن عبث الصراع في صنعاء في 2011، زاد ضغط دولة 94 على الناس جنوباً ثم توجته بنقل الحرب إلى عدن وفجأة يرى حوات “الحوثي” ممثلاً لنا جميعاً شمالاً ووحدويين، فترك عمله وحمل روحه وعاد مقاتلاً..


انتهت الحرب وغادر الحوثي، ومنع التحالف الجنوبيين من إقامة دولتهم، لتعقيدات حقيقية وليس تكراراً لخطأ دولة 94، فتعايش حوات ورفاقه مع الحال.. مدركين أن الأهم حماية التمثيل الجنوبي كحامل لأحلام الناس وعلماً لوجودهم.


ولذا، فإن التحالف أدرك خطورة قرار شرعية دولة حرب الانفصال التي تسمى بدولة الوحدة، حين قررت إقالة عيدروس الزبيدي.


هكذا كانت دولة 94 تفكر.. ويا إلهي والعجرفة والغرور والبلطجة وعدم تقدير العواقب، لمن ستتركين، إذاً، مشاعر الناس الذين قاتلوا خصمك وخصمهم.. كيف ستتصرفين مع مشاعرهم الإنسانية المجردة، سهل عيدروس من الممكن أن توفري له وظيفة، لكن ماذا عن الناس، ماذا عن “حوات”؟


ولولا تدخل الإمارات تحديداً لكان الإنسان الجنوبي لحظتها بين خيارين: القاعدة أو الحوثي، هذا أقل ما يمكن أن يستقطب غضب الإنسان غير السياسي حين يتعرض للغدر والاستخفاف.


استمر الجنوب، بالمجلس الانتقالي، غير أن “حوات” مات، وكم قهرني موته، هكذا لايزال من تقاسم مع علم الجنوب حلمه وألمه، لا هو تحوّل حلقة اتصال سياسي ولا استراح من الإقصاء.


أتحدث عنه كحلم إنساني في تمثيل مصالحه ورؤيته، وهي حق.


وللأسف لم أكن قد التقيت حوات، فحين وصلت عدن تواصلت برفيقه “عنتر علي”، وقلت له أريد محاورته كمواطن، قال لي بلغة معهودة من أي ضالعي ثوري وكل الضالع هكذا، يعاركك في الرأي وأنت وهو على مائدة بيته. قال لي عنتر: أنتم أعداء، وهو يقيمني من زاوية حرب الحوثي الذي كنا حلفاءه.. وهي اللحظة الزمنية التي تصادمت مصلحتي ورؤيتي كمواطن بمصلحة ورؤية حوات وعنتر كمواطنين أيضاً، مع أني كنت أفرق كثيراً، ولكنها دقة ليس المجال هنا لتفصيلها، المعنى كنت أسعى للقاء بمن كنا على طرفي حرب.. وبعد تواصل مرتين وثلاث مع عنتر، انشغلنا بعدها ولم نلتقِ.


سبقني الموت لحوات، وليتكم تدرون أين هو “عنتر” اليوم، لقد اصبح لاجئنا في الارجنتين.


الجوبعي الذي غادر عمله وتعسكر مع دولة محاربة الحوثي.. وحمل سلاحه منضما للواء “بارشيد” على مدخل المكلا الجنوبي، ثم قطع بطاقته العسكرية ورحل.


رحل لان القوى الجنوبية اليوم مكشوفة الظهر، هي حليفة لتحالف عربي يحارب شمالا، وهي غير قادرة على النقاش الجاد مع مجتمعها لانتاج تصور جديد للظروف الجديدة، فلاتزال تتحدث عن استعادة الدولة من بلاد لم يعد فيها دولة تعيد وتستعيد، ثم يكبلها تحالفها الذي انتقلت وحدويته لتلقي ابو ظبي ولاتزال تحاول اقامة حوار مقطوع مع الرياض.


ولم يكن بمقدور “عنتر” انتظار الموت كمدا كحوات، فحمل عصاه ورحل لابعد مكان، ولطالما ارسل لي الصديق المحترم “محمود السنمي” قصص الجنوبيين منثورة على أرض الهجرات الدولية، هذا في المغرب وذلك في كينيا وثالث في الاكوادور..


واليوم أسمع خبر موت زهرة..


سيبقى الجنوب إنساناً عاطفياً عظيماً، والعاطفة سلاحاً قاطعً، سيتعب من يتعبه.


وله في كل يوم 30 نوفمبر أخرى..


رحم الله شهداء الجنوب، وأعانه علينا أجمعين شمالاً وجنوباً..


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى