مقالات

تاريخ شخصي

 


كان أبي يرفض فكرة ذهاب طفله البالغ من العمر ست سنوات إلى المسجد خشية عليه من الغرق ببركة الماء الموجودة هناك، ومع ذلك ذهبت.


لم يكن ذلك عدم احترام لقرارات أبي، بل كانت رغبة لاكتشاف عالم “جدي” الذي كان يومياً يذهب إليه. لم تدم هذه الرغبة طويلاً، بعد أن رافقت جدي عدة أيام أصابني الملل وتوقفت.


وفي أول رمضان أدركته بحياتي قررت أن أصوم والجميع في البيت عارضوا هذه الرغبة -لصغر سني- إلا جدي، ولكنني صمت، ليس إرضاءً لجدي أو بحثاً عن الأجر إنما رغبة ذاتية لم أكن أعلم عن دوافعها حتى أنا. حينها كسبت التحدي وانتهيت، واليوم التالي توقفت عن الصيام وسط سخرية الأهل، ظناً منهم أني توقفت خوفاً من الجوع ولكني بالحقيقة لم أجد في الصيام معنى يستحق فتوقفت.


لأكثر من مرة تعاركت مع أهلي رغبة بالذهاب إلى المدرسة رفقة والدي، إلى درجة أن جدي يومها أخافني قائلاً “لزيود موجودين خلف المدرسة وسيختطفوك يا ولدي”، ولكنني أجبرتهم جميعاً بالنزول عند رغبتي، فركبت سيارة والدي وهو ينظر إليّ بعدم الرضا، وبعد أن أصبحت طالباً بالمدرسة كنت أقول مع نفسي “العالم بلا مدارس سيكون أجمل” لأنني وجدت أن المدرسة كئيبة ومملة كالسجن وربما أشد.


كبرت.. وكبرت وأنا أنتقل من تجربة إلى أخرى، وكلما شعرت أن هناك بهذا العالم شيء جميل وممتع قررت أن أخوض غمار التجربة فوجدته مملا وكرهته، إلى درجة أنني كرهت نفسي.


كبرت.. وكبرت إلى أن أصبحت مراهقاً، وحينها انتقلت إلى تجربة الهروب من الواقع. وكان أول هروب هو الهروب من رعي الأغنام بالقرية إلى عند عمي الذي يسكن في منطقة أخرى، وهناك وجدت أعمالاً أخرى تنتظرني، كالوقوف بالصيدلية أو الدكان، فهربت مرة أخرى إلى القرية وبقيت هناك أبحث عن منفذ آخر للهروب إليه.


في القرية كالمعتاد حاصرتني الكآبة من كل الاتجاهات، فهربت إلى القات لعلّي أعيش لحظات سعيدة في المقيل، ولكنه كان مجرد مخدر مؤقت. ومع الأصدقاء في المقيل تعلمت التدخين هروباً من الكآبة ولكنها لم تتوقف، فتوقفت عن التدخين عندما وجدت بعد سنوات أنها مجرد عادة سيئة لا تجدي نفعاً.


وعندما وجدت أن الملل سيقتلني هربت من الدراسة إلى الغربة، غادرت الوطن وأنا سعيد ولم تهز مشاعري حتى دموع أغلى الناس عندي. كنت أظن أنني سأكون سعيداً خارج الوطن ولكن شيئاً لم يحدث، بل وجدت أن الرتابة والملل يلاحقاني أينما ذهبت.


وها أنا الآن أسخر من كل شيء..


أسخر من الحياة لأنها مسرحية سمجة لا تستحق العناء..


أسخر من نفسي لأنني كنت أتعامل معها بجدية وأعتقد أن السعادة تنتظرني بالضفة الأخرى.


أسخر من الوطن والوطنية ومن الحدود المرسومة بين الدول..


أسخر من اعتقاداتي القديمة أنني قبيلي أفضل من الآخرين أو يمني أفضل من الصومالي أو مسلم أفضل من يهودي…


وأسخر من كتاباتي السابقة على فيسبوك، ومن الصراعات الوهمية وأقول مع نفسي “لا شيء يستحق.. لا شيء يستحق”.


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى