مقالات

451 فهرنهايت

 


(إلى الصديق الحميم: صلاح الجلادي، في صومعته، قابضاً على جمرة الاِباء)


 


( 1 )


شُكّلتْ فرقة أُنيطت بها مهمة اِحراق الكتب وقتل الكُتّاب.


وفي غمرة قيامها بمهامها، أصاب الفضول أحد عناصرها، فاِذا به يختلس كتاباً قبل أن تطاله ألسنة اللهب. وحين خلا له الجو في وقت راحته، راح يُقلّب صفحات الكتاب ويقرأ ما يحتويه من أفكار.


أُصيب العنصر الشاب بِمَسٍّ من وعي وقبسٍ من إدراك.. لقد أصابته لعنة المعرفة!


ثمة عوالم خصبة وآفاق رحبة راحت تتراقص في رأسه..


وثمة حدائق ساطعة الضوء واللون أينعت في قلبه..


وثمة احساس طاغٍ، جبار، ينتابه لأول مرة..


فاذا بوعيه الذي ظل منغلقاً على قداسات معجونة من تمر ومصبوبة من خل، ووجدانه الذي ظل غارقاً في مستنقع الطوطم والدوغما والتابو، يصفو مُحلّقاً في سماوات هي مُطْلَق البهاء والاتساع.


العنصر الشاب الذي قرأ تحوّل من عنصر لاحراق النيران إلى رجل اطفاء لاخمادها.


انكشف أمر العنصر الشاب الذي قرأ، فأطلقت الفرقة النار عليه!


 


( 2 )


 


هذه القصة ليست من بنات أفكاري، إنما هي من أجواء شريط سينمائي، شاهدته قبل 36 سنة (1982) في دار سينما ريجل في عدن، للمخرج الفرنسي الشهير يومها “فرانسوا تروفو ” بعنوان ((451 فهرنهايت)).


وهو عن رواية صدرت مطلع خمسينيات القرن الماضي بالاسم نفسه وذاعت شهرتها عالمياً بعد عرضها سينمائياً، للكاتب الأمريكي راي برادبري، وتحكي تفاصيل نظام شمولي اجتاح العالم وأدار دعايته الجهنمية عبر التلفزة وأحرق الكتب على درجة حرارة 451 فهرنهايت.


الكتاب والفِلْم يندرجان ضمن الرد المثالي على الحملة الشرسة التي قادها السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي على المثقفين والمبدعين في بلاده تحت مظلة محاربة الشيوعية، في موجة ديكتاتورية عُرفت حينها بالمكارثية.


 


(3)


 


مات مكارثي.. ولم تمت المكارثية، ولن.. وما تزال 451 فهرنهايت مشتعلة حتى اللحظة.. وفي هذا البلد، انتشرت واستشرت فرق اشعال الحرائق – عبر التاريخ الحديث والمعاصر – على نحوٍ مرعب للغاية.. أما فرق الاطفاء فظلت تتضاءل وتنكمش وتذوي، حتى انقرضت اليوم أو تكاد.. حتى أن بعضها – أو بعض أفرادها – راح يلتحق بفرق اشعال الحرائق.. إما انكساراً في النفس، أو انحداراً في الضمير، أو انبهاراً ببريق سَقْط المتاع!


ويغدو الصنف الأخير (أي من كان في فرقة الاطفاء ثم انضم إلى فرقة الاشعال) أشد حقارة من سواه.. فقد قال الأوَّلون إن أكثر السجَّانين خساسة هو سجين سابق!


 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى