ضرب إيطاليا للموانئ اليمنية

 


تعرضت ميدي للقصف المدفعي مما أدى إلى تدميرها مع مينائها بشكل شبه كامل من قبل البوارج الحربية الإيطالية في شعبان 1320هـ / أكتوبر 1902م، وأياً كانت الأسباب أو الذرائع المؤدية إلى ذلك التدمير، فإن موقف الدولة العثمانية -واليمن تحت سيطرتها- كان موقفاً ضعيفاً إن لم يكن متساهلاً ومتعاوناً مما أدى -فيما بعد- إلى زيادة تأجيج حركات المقاومة اليمنية.


 


تختلف الروايات اليمنية في سرد الأحداث وسببيتها، فعلي بن عبدالله الإرياني، وهو معاصر للحدث، ذكر في كتابه (الدر المنثور في سيرة الإمام المنصور) أن: “سبب ذلك أن رجلاً من بني مروان كان أجيراً عند بعض تجار الطليان، فقتلوه فدخل جماعة من بني مروان في سنبوك في البحر إلى جزيرة دهلك وقتلوا القاتل وجماعة من أولاده وذويه، وأخذوا عليه نحو ثلاثين ألف ريال وخرجوا إلى بلادهم… فلما وصل الخبر إلى رئيس الطليان جهز على ميدي وبني مروان، وأعانهم الترك على ذلك، فلما قابل ميدي من البحر رماها بالمدافع الكبار وُزنت حجرة المدفع -القذيفة– فبلغت ستين رطلاً، وأحرقوها بالمرآة من البحر حتى هُدمت بيوتها وُأحرقت عششها… فلما وقع ما وقع، تأهب بنو مروان للقتال، فلما بلغ الإفرنج ذلك التأهب ضعفت قواهم وجبنوا وطلبوا الصلح على أن المال المأخوذ ودية القتلى تقطع قيمة البيوت التي خربت في ميدي وسلم بنو مروان البقية، وكانت قد تجمعت الأتراك وتكفلت للطليان بتربية بني مروان..”.


 


أما المؤرخ أحمد بن عبدالله الجنداري في كتابه (الجامع الوجيز في وفيات العلماء ذوي التبريز) وأحمد بن محمد زباره في كتابه (سيرة الإمام المنصور) فأوردا ما يلي: “أن النصارى خرجوا إلى بندر ميدي بتهامة ورموه بالمدافع حتى أخربوها، ووُزنت القذائف فكانت خمسة وعشرين رطلاً، وأن سبب ذلك أن رجلاً من مرسى ميدي ركب البحر ونهب على بعض النصارى مالاً عظيماً وفعل الأفاعيل، فكتب النصارى في ذلك إلى السلطنة، فأمر السلطان عبدالحميد إلى نائبه بالبندر أن يسترجع من الآخذين إن كانوا من رعيته المأخوذ على النصارى وإن لم يطيعوا خلا بينهم وبين النصارى، فأخربوا في البندر، ثم إن قبائل بني مروان بتهامة الشمالية بذلوا المأخوذ فلم ترض النصارى إلا أن يأتوا بالرجل الآخذ، فاجتمعوا وعزموا على حربهم إن خرجوا من البحر وبقي النصارى مدة ورجعوا ولم يعلم كيف اصطلحوا”.


 


أما المصدر اليمني التهامي، وهو المؤرخ اسماعيل بن محمد الوشلي، فذكر اسم الشخص الذي قاد هذه العملية، فقال: “وفي هذا العام سرق دحدح -بوزن جعفر- ورجلان معه ذهباً لأحد الرعيّة الطليان بعد أن نزلوا من ساعية -سفينة- في جزيرة بها صاحب الذهب ولم يكن له بها عشيرة تمنعه، فتحكموا عليه يحضر المفاتيح ففتحوا وأخذوا ما شاءوا ثم رجعوا إلى بلدهم الجامعي، وذلك من بلد يسمى دبعلوا، فوصلت طائفة من الطليان في بابور إلى مرسى ميدي ونصبوا عليهم الحرب وأخربوا أكثر بيوته، وما كفوا الحرب إلا بعد أن غرمت لهم الدولة العثمانية جميع ما أخذه دحدح وصاحباه، ثم إن الدولة أمسكت صاحبيه وسلمتهما إلى الطليان وإلى الآن لم يوقف لهما على خبر”.


 


أما الوثائق البريطانية، ففي تقرير كتبه نائب القنصل البريطاني في الحديدة ريتشارد سون بتأريخ الرابع عشر من رمضان 1320هـ / الخامس عشر من نوفمبر 1902م إلى القنصل دفي (Devey) والأخير أرسله إلى السفير البريطاني بالأستانة أوكونر N.R.O’Cono بتاريخ الثاني والعشرين من شوال1320هـ/الثاني والعشرين من ديسمبر 1902م ويقول التقرير: (يشرفني أن أرفع تقريراً عن وصول البارجتين بيمونت (Piemonte) وجاليلو جاليلي (Galileo Galilei) الإيطاليتين إلى هذا الميناء قادمة من ميناء ميدي في مساء الثالث عشر من الشهر الجاري، واسمحوا لي أن أمدكم بالمعلومات التالية بخصوص الأحداث التي حدثت مؤخراً في الموقع الأخير حسب ما أبلغني قائد الأسطول الإيطالي في البحر الأحمر والقنصل الإيطالي، فبالنسبة للبارجة بيمونت فقد رست بالقرب من ميناء ميدي في السادس والعشرين من أكتوبر في الميناء التي قد وصلت فيه سابقاً السفينتان المدفعية كبريرا (Caprera) وجاليلو.


 


وفي الثلاثين من أكتوبر أرسل مركب شراعي مسلح مرافق بسفن حربية إيطالية لغرض الاستيلاء على ثلاثة مراكب شراعية تعود إلى قراصنة عرب كانت ملقية في المرسى داخل خليج صغير متفرع من ميناء ميدي، حيث تركها عمال المراكب الشراعية العربية ولاذوا بالفرار نحو الشاطئ، كما رحب القراصنة بالمركب الشراعي الإيطالي بطلقات نارية عيار ثقيل من الشاطئ، حيث كانوا مختبئين بين الصخور مجبرينه على التراجع وانضم بسفن حربية أخرى، فكانت الخسارة من الجانب الإيطالي مقتل بحار وشخص أسود، وبعد ذلك فتحت سفينة مسلحة تركية صغيرة تسمى نور الباهي (Noor-el-Bahi) النار على القراصنة العرب ونجحت في إلقاء القبض على ثلاث مراكب تابعة للقراصنة بعد أن تكبدت خسارة بجرح خمسة أشخاص، وبعد مرور خمسة أيام والقراصنة لم يستسلموا وفقاً لمطالب وافقت عليها الحكومة العثمانية بإنذار نهائي – فتحت ثلاث بوارج حربية إيطالية النار على المدينة في صدر النهار بتاريخ الحادي والعشرين من أكتوبر، وفي غضون ثلاث ساعات دُمرت المدينة بأسرها حتى أصبحت أطلالاً وركاماً وبقايا دخان، وكانت القوة التركية مخيمة في جزء من ميدي على الشاطئ، حيث تجمعت ما بين 1600- 2000 جندي تحت قيادة الجنرال رشدي باشا، ولم تقم بأي شيء منذ وصولها، وكانت أيضاً حالة الجنود تعيسة جداً، حيث قطع القراصنة العرب مشروع مياه المدينة، وكان يجب إرسال مياه من مدينة اللحية والحديدة، نتيجة لذلك انتشر المرض وعمت الكوليرا والدسنتاريا في جميع أرجاء المدينة، فلا تُرى إلا أشباح وهياكل بشرية وأناس عاجزون وأبدان عديمة الجدوى بنسبة عشرين بالمائة، حيث كان الإيطاليون ينوون قصف الخور العليا وبعده مدينة الحديدة، حيث ألقت القوة التركية القبض على واحد من القراصنة يعود أصله إلى أقاليم إيطالية وسلمه الأتراك إلى الإيطاليين، وطلب الجنرال رشدي باشا فترة إضافية لمدة عشرة أيام بحيث تمكنه من الاستيلاء على بقية القراصنة المطلوبين.


 


ففي العاشر من الشهر الجاري تلقى القائد الإيطالي برقية من وزير الخارجية الإيطالي يبلغه فيه عن تسوية مطالب حكومته الأخيرة التي قد وصلت إلى حل مع حكومة الدولة العثمانية، وصدر إليه الأمر بالبقاء في الحديدة من أجل استلام التعويض المقدم مقابل الخسائر التي تكبدها الرعايا الإيطاليون، وتتمثل شروط التسوية بالنقاط التالية:


 


1- وعدت الحكومة العثمانية باتخاذ الإجراءات الحاسمة لقمع القراصنة في البحر الأحمر والتعاون الثنائي والتنسيق الكامل مع إيطاليا في هذا الخصوص.


 


2- التزام الحكومة العثمانية أن تقوم سلطاتها المحلية بإلقاء القبض على الزعيم محمد جوبت واثنين آخرين من القراصنة مطلوبين وتسليمهم إلى الإيطاليين بمنطقة مصوع في غضون مدة لا تزيد عن شهرين، حيث قد أتوا جميعهم الثلاثة إلى مدينة ميدي وتعود أُصولهم إلى أقاليم إيطالية وانضموا إلى العرب في شن غارات متتالية على منطقة نقرا (Nokra) وعلى جزيرة دهلك.


 


3- دفع الحكومة العثمانية مبلغاً وقدره 19.700 ماريا تريزا (تسعة عشر ألف ريال) إلى إيطاليا مقابل الخسائر التي تكبدها رعاياها نتيجةً للقرصنة التي ارتكبها العرب من تهامة اليمن.


 


4- تعويض الحكومة العثمانية أقارب الجندي الإيطالي والجندي الأسود بمبلغ وقدره 6.500$ (ستة آلاف وخمسمائة دولار) الذين لقوا حتفهم في سفينةأحرقها القراصنة في ميناء ميدي.


 


5- وافقت الحكومة العثمانية على معاملة خاصة ومتميزة للسفن الأجنبية والشراعية التي يرفرف فيها العلم الإيطالي والواصلة من موانئ أخرى على طول السواحل الأفريقية ووافقت أيضاً على تسديد جميع مستحقات الميناء المفروضة على المركب المذكور أعلاه خلال السنتين.


 


لهذا دفعت السلطات العثمانية المحلية مبلغ 26.300$ (ستة وعشرين ألف دولار) حصراً لقائد البارجة بيمونت، كما استدعى القائد القائم بأعمال المتصرف الجنرال هادي باشا وغادرت البارجتان إلى مصوع، ويلاحظ أن الحكومة الإيطالية تراجعت عن مطالبتها بالشيخين العربيين المستقلين والمؤثرين من بني مروان ومن بني خميس –خميس الواعظات- من أجل إلقاء القبض على القراصنة الهاربين من أقاليم إيطالية وتسليمهم لها ودفع تعويض مناسب عن الخسائر التي كبدها رعاياها بسبب القرصنة.. “يراجع Ingrams. Records of Yemen. No 414. Vol. 5, PP. 376-377. فقد كان القصف الإيطالي وضعف موقف الدولة العثمانية من الأسباب التي يرى الباحث أنها أدت إلى الثورة اليمنية الكبرى في 1904م، فزبارة ذكر أنه “لما أحس بمقدمات الثورة العامة على الأتراك استقال الوالي وسار عن اليمن في نحو رجب 1322هـ / أكتوبر 1904م”.


 


 

Exit mobile version