الحد الآخر
ينجح العرب في استعمال الحد الذي يجرحهم من السيف، يستطيعون بقدرة عجيبة تحويل ما لديهم من أوراق قوة إلى نقاط ضعف، ويواصلون تحويل المِنَح التي مُنحوها إلى مِحَن مستعصية.
موقع العرب الجغرافي كان يمكن أن يكون منحة، لكنهم حولوه إلى محنة وساحة حرب، نفطهم وغازهم بدلاً من أن يكونا نعمة- كما هو الأصل أن يكونا- إلا أنهما تحولا إلى نقمة، وأداة مراكمة ثروات لدى أفراد وإفقار دول، ما عدا استثناءات بسيطة. ارتفاع نسبة الشباب بين عدد السكان، ووجود التنوع الثقافي والمناخي والسياحي، عدا عن التجانس التاريخي والتواصل الطبيعي، كل هذه ميزات كان يمكن لها أن تجعل من يملكها يحتفظ بأوراق قوة لا يستهان بها، لكن كل تلك الميزات لم تفد العرب في شيء، بل على العكس، أصبحت تلك النعم وسائل جلب كوارث لا تحصى.
هناك بلدان تعيش على موقعها الجغرافي وتوظف هذا الموقع ليدر على شعوبها ثروات طائلة، وهناك بلدان توظف جمال طبيعتها للغرض نفسه، وبلدان وظفت تاريخها لتصنع منه حاضراً مزدهراً، وهناك بلدان وظفت ثرواتها المحدودة لتلبية احتياجات شعوبها ونجحت، وهناك دول ثروتها الرئيسية هي الإنسان الذي تحولت به إلى مصاف الدول المتقدمة.
تصوروا أن الدول العربية تحتضن معظم حضارات العالم القديم، وأن هذا التاريخ يضاف له تراث إسلامي ضخم، وتصوروا كيف استفادت متاحف عالمية من هذا التاريخ وهذا التراث، فيما تسابقت عصابات المافيا على نهب آثار العرب، وكان الكثير من القيادات الأمنية والعسكرية والسياسية العربية ضالعة في عمليات منظمة لتهريب الآثار إلى المتاحف التي تحولها إلى كنوز لا تقدر بثمن تدر على دولها مداخيل طائلة! كان بإمكان العرب الاستفادة من هذه الزاوية السياحية في تاريخهم، كان بإمكانهم تحويل التاريخ إلى «قيمة» معنوية تسهم في رفد روحهم الجافة بكثير من الماء، وتسهم في رفد خزائنهم بالكثير من المال، لكن ذلك – شأنه شأن غيره من النعم – ذهب أدراج الأطماع والأحقاد. حتى الإسلام، تلك الطاقة الروحية الهائلة، التي نقلت العرب في القرن السابع الميلادي إلى أطوار حضارية وفكرية وثقافية واسعة، استطاع العرب بذكاء مدهش أن يستعملوا حدَّهُ الجارح، الذي انفجر فيهم حروباً طائفية، وعمليات إرهابية، ومعارك إعلامية، وقيداً من القيود على التفكير الحر، والمنطق السليم. في الإسلام قيم أفرغها العرب من مضامينها النافعة، وأسبغوا عليها معاني أخذوها من تراثهم القبلي، وصدّروها على أساس أنها قيم إسلامية، وهناك قيم أخرى لم يعيدوا منتجتها بما يتلاءم مع «روحهم القبلية»، كما فعلوا مع غيرها من القيم، ولكنهم تجاهلوها تماماً، لأنها تتنافى مع طبيعتهم ومزاجهم، ولأنه يصعب تكيفهم معها.
في الإسلام – على سبيل المثال – قيمة الجهاد التي جاءت للدفاع عن النفس ضد المعتدين، لكن العرب وظفوها في اقتتالهم الداخلي، ضمن سلسلة من عمليات «إعادة الإنتاج المفاهيمي»، التي برز فيها الأخ عدواً، والعدو صديقاً، وجعلت بلاد العرب ساحات معارك مستمرة، أصبحوا فيها مجرد لاعبين محليين وإقليميين، ينفذون -علموا أم لم يعلموا – رغبات دولية، لم يعد بإمكانهم تفادي إملاءاتها، بعد أن فتحوا بلدانهم لعدو الأمس صديق اليوم، مسهمين بذلك في عمليات غير مسبوقة من «التدمير الذاتي» للأوطان والإنسان. وهناك قيم إسلامية أخرى تدعو إلى التراحم والتسامح والعفو والصفح واللين والتعايش والصبر وفعل الخيرات، لكنها ليست في دائرة الاهتمام الواعي لدى العرب، إلا لحظة يقوم «خطيب الجمعة» على المنبر في ساعة محددة من يوم محدود. لم يلتفت العرب لتلك القيم والمفاهيم الإسلامية والإنسانية، لأنها تختلف مع «البقعة العميقة» في لاوعيهم، تلك البقعة التي ما زال كل عربي منا يحتفظ فيها ببذرة «البدوي الصغير»، الذي يميل إلى الغضب والتفاخر والغرور، وشيء من القيم المرتبطة بنشأة أجدادنا في البوادي المقفرة.
لاحظو الفرق بين التأويل العربي للإسلام والتأويل الماليزي على سبيل المثال، كيف استطاع الماليزيون وضع أيديهم على تلك «الطاقة الروحية» في الإسلام، وكيف ركزوا على الجوانب القيمية فيه، لبناء علاقات طبيعية مع جوارهم الطبيعي، ولتوظيف تلك الطاقة في بناء مجتمع متصالح مع نفسه، فيما وظفت النخب الدينية العربية الإسلام لمراكمة أرصدة سياسية واقتصادية معينة، وللتستر على عمليات كبيرة من الفساد السياسي والمالي، الأمر الذي انتهى بـ»التأويل العربي» للإسلام إلى الانفجار في وجوه العرب ووجوه أطفالهم، الذين يتساءلون عن كيفيات معينة تمكنهم من إجراء مصالحة بين البنى النظرية والمفاهيمية التي يدرسونها، والأنساق الواقعية والمعاصرة التي يعيشونها. طالما يُردد أن شيئاً ما أو مفهوماً ما هو «سلاح ذو حدين» في إشارة إلى وجوب النظر من الزاوية الإيجابية للقيم والأشياء، والتمعن في الجوانب النافعة لها، وضرورة توظيف ما لدينا التوظيف الإيجابي، لأن كل سلاح يمكن أن يوجه للموت والدمار أو للحياة والإعمار بناء على طريقة استعماله ونظرة مستعمليه لطبيعته والهدف منه.
تلزم العرب – إذن- مراجعة نظرتهم لما عندهم، وإعادة تقييم طرائق حياتهم وتفكيرهم، ومناهج دراساتهم، وأساليب تعاطيهم مع القضايا التي تعترضهم، يلزمهم نقد وسائل تأويلهم للتاريخ والأحداث، وينبغي لهم مراجعة مفاهيمهم للأوطان والإنسان والقيم والأديان، لكي يأخذوا بأحسن ما لديهم، ويأخذوا بالجوانب المشرقة في هذا الأحسن، ليوظفوه التوظيف الأمثل في خدمة الإنسان الذي يعد قيمة القيم وقدس الأقداس.