مقالات

نزلاء متوقعين..

 


تفاجئك الحياة بتصاريفها!!..


لم يخطر على بال أحد أن ” منى ” بضفيرتها المعلقة أعلى رأسها، وملامح البلطجة التي كانت شعار مرحلة صراعات طفولتها مع بقية “جهال” الحارة، ستكون ذات يوم “مستشارة نفسية”.


كانت قد انتهت قبل أشهر من دراستها الجامعية لتزاول عمل تطوعي في إحدى المستشفيات، على الرغم من الحركة الرافضة للطب النفسي والتي وجدت أن تجاهله أفضل الحلول؛ إلا أن عدد نزلاء مستشفيات صنعاء النفسية والمترددين على عياداتها في ازدياد، لعل الواقع الذي تحياه المدينة واليمن عموماً قصر المسافة بين المواطن وبين فقدان توازن عقله!..


 


استمعت لصوتها الذي أصبح رقيقاً عبر الهاتف وهي تحكي عن نوعية الحياة التي يحياها المريض النفسي. الوحدة التي يعانيها البعض، والملاذ العازل الذي يجده الآخر في مساحتها الضيقة حتى ‏يصل‏ ‏لمرحلة‏ ‏استعادة‏ ‏فهم‏ ‏لغة‏ ‏الحياة‏. قاطعتها أكثر من مرة في فضول لرصد ما فعلته الحرب بشباب اليمن الذي أجبر على استبدال يومياته البسيطة بنيران الجبهات المرعبة؛ ما النتائج التي أصابت نفسيته، وما الذي قد يقوله العائدون منها؟!، لينطفئ فضولي سريعاً، فلم تمر عليها إحدى تلك الحالات حتى الآن، ولا يوجد بين نزلاء المستشفى أطفال أو شباب ممن اقتيدوا للجبهات، ربما لأنهم عادةً لا يرجعون !!.


من المدهش أن العوامل الاجتماعية والتي تزايدت وتيرتها في زمن الحرب أخذت نصيب الأسد في قائمة الضغوطات التي تواجه الفرد، كمشاكل الطلاق والانفصال، التسلط بكافة أشكاله، الاعتداءات الجسدية، الحالة الاقتصادية المتردية والبطالة، لعل الأزمات العاطفية نالت مركزا متقدماً لم أكن لأتوقع أن يحصل عليه مجتمع يعاني من حرب مستمرة منذ أربع سنوات!!..


 


لم يكن ما سردته من قصص النزلاء بحاجة لإضافات روائية أو حبكات درامية، فصدمات الواقع تغني عن الخيال وتنافسه بامتياز، إلا أني لم أكن أبحث عن منبع للقصص، بقدر ما كنت أعاقب نفسي بالتفتيش عن نتائج الحرب الغير مباشرة بين النزلاء، لأصل إلى أن لا حرب بين أسوار المستشفى، الجميع يتجنبها رغم خسائرهم فيها..


 


“لا أحد يريد الكلام عنها، وكأنها لا تعنيهم، لقد استجدى غالبيتهم حاجتهم الماسة للعواطف، التي يرون أنها ستريحهم وتزيح عنهم العناء في حال حصلوا عليها!!”، قالت “منى” قبل أن تصمت..


يبدو أن طبيعة الإنسان ترفض الحديث عن الحروب بكل شرورها، تمنحها بعض من الوقت قبل أن تتجاوزها، ليكمل المرء حياته التي لم تكن جذابة بطبيعة الحال لكنها تعطيه فرصة البحث عن ما يراه أولويات تثير في نفسه مخاوف فقدانها!!..


 


هواجسنا التي لا نتوقف عنها وتبين ما نحن عليه فعلاً:


هل كان أدائي جيدا أمام من حولي؟، يجب أن يكون تصرفي القادم أفضل حتى لا أغضب والدي؟!، لقد كنت استحق من الإعجاب أكثر مما منح للآخر!، أتمنى لو أنني نلت ذلك القدر من المحبة!، هل نلت رضى أختي أمي زوجي؟!، لا يمكنني التوقف عن التفكير بها!، لا أعرف ما الذي قد أفعله دونه؟!..


 


الإنسان كائن لا يستطيع أن يخلو من العواطف، ذلك الزئير الذي قد يعلو حتى لا نستطيع كتمانه ونطلق عليه اختصارا ” مشاعر”، امتلك أكبر مجرمي التاريخ بجوار عشقهم للسلطة قلوباً متسائلة وجزعة أيضاً، لعل الحب والسلطة هما المسيطران على جل اهتماماتنا، وكل ما عدى ذلك من مشاكل يمكن أرجائها وتدبرها في وقت آخر..


لا أظن أننا بالبراءة التي نتصورها، فكلا مطلبينا كانا وللأسف سبب انطلاقة أولى الجرائم والحروب، أرتكب لأجلهما كافة الحماقات والبطولات والتضحيات، يقودنا هذا إلى إعادة التفكير في الإنسان البسيط المسالم الذي يعبر جوارنا على الرصيف أو نعتقد أنه يحيا فينا، فقليل من الضغط قد يجعله مجرم حرب أو مشروع نزيل متوقع في أقرب مستشفى نفسي..


 


” كلنا ذلك المشروع” وصلت لتلك الخاطرة قبل أن يعود تدفق حديث ” منى ” لسمعي، لم أكن لأخشى عليها وإن بدت لي اللطافة في صوتها، فهي كأي إنسان تملك عوامل إشعال الحروب داخلها، كما أن تاريخها الحافل في الحارة يمكنه السيطرة على أي نيران قد يشعلها عاقل أو مريض، وسيمكنها من إطفائها بمنتهى السهولة.


 


 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى