مقالات

الجمهورية الزائفة !

 


كتبت ذات مرة في إحدى مقالاتي ” إنهم حتى لا يموتون ” !


وكنت أعني الزعماء العرب الذين تشبثوا بكراسي الحكم لعقود , وعلى رأسهم الزعيم الراحل علي عبد الله صالح .


وفي ذلك المساء الذي شاهدت فيه جثته يلعب بها فتيان الحوثة لم أستطع منع نفسي عن البكاء , فاعترض زوجي متعجبا : لماذا البكاء الآن ؟!


فقلت له : ليس بهذه الطريقة.. !


كان المشهد مؤلما , وقد تلقاه غالبية اليمنيين بردود فعل متباينة بعضها غير منطقي وغير مفسّر , ربما لأن معظم الناس في تلك الساعة قد أصابهم الفزع من كارثة  توقعوا حدوثها عقب مقتله ؛ لكن ما حدث بعد ذلك كان هو الأكثر غرابة ؛ إذ لم يتغير شيء في المشهد السياسي والعسكري في اليمن ؛ الدولة الأحجية  التي تجسّد أنموذجا لتناقضات عدة يكتنفها الكثير من الغموض , ترعرع تحت ظلها جيل من شعب يقال عنه في سفر التاريخ الموروث بأنه شعب الحكمة والإيمان !


 شعب تغنى لدهر بحب الزعيم المستبد حتى ظننا بأنه سيؤلهه وعندما اغتيل لم يحرك ساكنا , ولم يحدث رحيله فارقا , وكأن شيئا لم يكن !!


بحّت أصوات شباب ثورة الحادي عشر من فبراير في عام 2011م ؛ بهتاف ” ارحل ” فرحل ولم تتحقق أهداف ثورتهم , ولم تنحل عقدة واحدة من عقد الأزمة ؛ فهل كان علي عبد الله صالح هو الحاكم الفعلي لليمنيين , والمستبد الحقيقي بدولة اليمن ؟!


 أم هو مجرد فزّاعة , أكذوبة كبرى , وخدعة دامت لأكثر من ثلاثين عاما , تشكلت


_ خلال تلك الحقبة المشؤومة _ عقلية ونفسية جيل بأكمله , في وطن تمثّل فئة الشباب الغالبية العظمى منه , شباب تفتحت مداركه على نظم التقنية الحديثة وعالم القرية الكونية , يكبرون وتكبر أحلامهم في بيئة طاردة قاحلة , فيتضاءلون كل يوم وينغمسون في شعور الضعة , وهم يرون ذاتهم الجمعية والفردية تهوي مع دولة فاشلة للقاع , بمقابل عالم رقمي يتهيأ لاستعمار المريخ واستيطانه , وهناك على قمة هرم الدولة يجلس الحاكم المستبد متوسطا عرش دولة سيئة السمعة , ويتجلى لهم على شاشات إعلامه بعبارات مكررة ؛ تفضح بعض مفرداتها عقدا نفسية دفينة صاغت منه شخصية ساخطة على العلم وأهله , وربما أن القلة القليلة من شعبه كانوا يعلمون بأنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة حين استبد بحكم البلاد في ساعة شؤم مقيتة !


أطفال شبوا مع أطوار دولة غامضة , حتى غدوا رجالا ونساء , تثملهم الأناشيد الوطنية بسكرة حب الوطن , فتغيب بصيرتهم في ضبابية المشهد , ويصدقون بأنهم تحرروا وفازوا بسبق استقلال وهمي , وجمهورية زائفة يباهون بها محيطهم الإقليمي .


وهؤلاء هم ذاتهم من فجّر ثورة 11فبراير , إذ سرعان ما انتقلت إليهم  العدوى النفسية عابرة للقارات لتتفشى في شوارع اليمن المحتقنة بغضب مكبوت ؛ فالبداية لم تكن مع انطلاقة ثورات الربيع العربي كما يظن الكثيرون ؛ بل إن الإرهاصات بدأت منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة , حين قرر الزعيم صالح إضفاء لمسة صدق على انتخابات عام  2006م ؛ فسمح بوقوف منافس قوي كفيصل بن شملان أمامه في الانتخابات , لقد أوقعه غروره في مأزق كبير اكتشف مدى خطورته حين أظهرت النتائج الأولية فوز منافسه عليه ؛ فأرغى وأزبد وهدد المعارضة بالتصفية , وتوعد باستعمال الجيش للفصل في الموقف , ذلك الجيش الذي قال عنه ذات مرة خلال مقابلة معه على قناة الجزيرة : الجيش للاستعراضات العسكرية ولحماية كرسي السلطة وقمع المعارضين !


واستسلمت المعارضة الهشة , وبقي صالح على رأس السلطة , ليدشن فصلا جديدا من عذابات شعب اليمن هو الأشد قسوة ؛ فنزعة الانتقام كانت جلية في شخصية علي عبد الله صالح !


 وفي لحظة تاريخية فارقة اشتعلت نيران ثورة 11 فبراير عام 2011م ؛ لتحرك شباب جيل الخدعة الكبرى , خدعة الجمهورية الزائفة التي تساقطت أخر أقنعتها حين وقف صالح يتوعد شباب ثورة فبراير قائلا :


إذا رحل علي عبد الله صالح فاليمن مهدد بالصوملة واللبننة والعرقنة..وسوف تنتشر القاعدة في مأرب والجوف وأبين ..!


وقد حدث ذلك كله وأكثر بمجرد خلع صالح ؛ فهل كانت نبوءته خلاصة فراسة وذكاء منقطع النظير أم تهديد بحدوث مخطط مسبق الإعداد ؟!


المنسيون :


ومما زاد إيمان شباب الثورة بحتميتها ظاهرة غريبة هزت وجدان الناس خلال أيام الثورة ؛ حين استيقظوا ذات صباح ليروا صورا لوجوه قديمة منسية ترسمها أيدي الشباب المبدع لوحات فنية على جدران المدن الثائرة , حينها سألت بعضهم :


 لمن هذه الصور ؟!


فأجابوني : إنها  لسياسيين وأصحاب رأي مخفيين قسرا منذ تسلم صالح للسلطة !


تأملت تلك الوجوه ذات الهيئة البسيطة والملامح العتيقة , كانت وجوها لشيوخ وكهول , مضيت وأنا أتساءل بصمت : وهل يعقل بأنهم مازالوا أحياء ؟!


الدولة العميقة :


وسؤال آخر ظل يتردد في ذهني لزمن :


 من الذي باشر عملية اختطافهم وأين أخفاهم طوال هذه العقود ؟؟!


وكنت قد سبق لي أن سمعت عن سجون العهد البائد المرعبة , التي تقع في محافظة حجة وذمار , والتي يقال بأنها عبارة عن دهاليز مظلمة تحت الأرض , وسمعت عن نزلائها الذين شاخوا فيها ومات بعضهم دون محاكمات , فظللت غير متيقنة من صحة الخبر حتى جاءت ثورة فبراير لتثبت صدقه !


بعد صمود ثورة الشباب بدأ الخوف يغادر قلوب الناس , فطفقوا ينبشون ملفات الفساد , وظهر مصطلح الدولة العميقة في نقاشاتهم , وبدأت الإجابات تبحث عن أسئلتها القديمة , لتحطم قيود الحيرة عن عقول الكثيرين , ولتقشع حجب الغموض عن دولة اليمن , وأدرك الكثيرون بأن الدولة العميقة هي التي تحكم البلاد , وتمسك بصولجان السيادة فيها , وتسطير على مفاصلها بقبضة من الجيش الذي تكشف للجميع بأن ولاءه لم يكن لعلي عبد الله صالح , بل للدولة العميقة  بأقطابها المذهبية والقبلية , المعادية للجمهورية منذ قيامها في عام 1962م .


  لقد تابع الجميع ببالغ الأسى مشاهد تساقط المعسكرات تباعا بيد الحوثيين , الذين انقلبوا على مخرجات الحوار بإشارة من الدولة العميقة , التي بدت مستعدة للتضحية بكل شيء وتحويل اليمن لقيعان دماء في سبيل الاستبداد بالسلطة والاستحواذ على الثروات دون رقيب ولا حسيب !


وانتشرت السجون في الأحياء التي يسيطر عليها الحوثيون , لتحاكي سجون العهد البائد , وتناقل الناس أخبارا مفجعة عن أحوال السجناء فيها .


وفي مدينة تعز كرست المأساة , ففي كل حي من أحياء المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون يوجد سجن لا تراه عدسات الصحافة ولا تتحدث عنه أقلامها , فثمة فرن معطل بسبب الحرب أضحى سجنا يزج فيه كل من يعترض على سلطة الأمر الواقع , وثمة منزل هجروا أصحابة عنوة ليتخذوه سجنا , وثمة مرافق حكومية اختير بعضها ليكون سجنا , وحتى المدينة السكنية القابعة في شرق مدينة تعز , المسماة مدينة الصالح , والتي كانت تمثل حلما لموظفي الدولة من ذوي الدخل المحدود أصبحت تسمى سجون الصالح !


المنسيون الجدد :


سأسرد عليكم قصة هي من أشد القصص التي سمعتها عن هذه السجون قسوة وتجريدا للواقع , يقول صاحب القصة :


بمجرد أن قبض عليّ جند الحوثيين قيدوا يدي , ثم عصبوا عيني وساقوني نحو مكان مجهول , كنت خلال سيري معهم أتضرع لله أن يضعوني في سجن الحي لكي يتسنى لأهلي افتدائي وتخليصي من بين أيديهم , كان بدني يقشعر لمجرد التفكير في سجن الصالح ؛ لأن غالبية من يذهبون إلى هناك يسامون سوء العذاب , ويتم ترحيلهم إلى سجون ذمار ويصبحون نسيا منسيا..


دار بخلدي أماكن عدة توقعت أن يحتجزونني فيها ؛ لكني تيقنت بأننا غادرنا إلى خارج المدينة حينما بدأت السيارة تتقلقل في سيرها على أرض غير مستوية فتعلو بنا وتهبط , ومع كل ارتجاج لها بالأرض كان قلبي يهوي في قاع من المخاوف , ثم بعد زمن لم أحصه توقفت السيارة وامتدت يد شديدة وجذبتي بصمت , سار بي أحدهم لبضع خطوات ثم أوقفني وحل العصابة عن عيني ودفع بي نحو درج لمنزل كبير تحيط به بقاع خالية من العمران ..بعد لحظات قذفني وسط مجموعة من المحتجزين ..تأملت هيأتهم فدب الفزع في قلبي حين رأيت أشباحا بشرية , أشعارهم طالت وأعينهم غارت وأجسادهم هزلت من شدة الجوع , وأثوابهم تمزعت وأضحت أسمالا بالية , يفترشون البلاط ويتوسدون سواعدهم النحيلة !


هجست مذعورا : من هؤلاء ؟ ولماذا ضموني إليهم , أنا لم أقترف أيّة مخالفة , يبدو أنهم يحسبوني شخصا آخر ..يا ألله , كيف سأنجو ؟!!


كانوا قد استولوا على جوالي منذ اللحظة الأولى التي أنزلوني فيها من الحافلة العمومية ليقتادوني إلى هذا المكان المجهول ..طاف حولي بعض السجناء , وطفقوا يتحسسون جيوبي , يبدو أنهم يبحثون عن شيء معين , وعندما وجدوا قلما في جيب معطفي الداخلي لمعت أعينهم ببريق فوز مبهم الأسباب , أخفوه من فورهم حالما سمعوا وقع أقدام الحارس مقبلا ..تكلم ذلك الحارس معي :


لقد جئت إلى هنا بطريق الخطأ وقد تواصلنا مع أهلك , كم أنت محظوظ  , سوف يرسلون فدية كبيرة لتخليصك , ستغادر خلال ساعة !


قال تلك العبارة ومضى , بعدها حدث ما لم يكن في الحسبان ؛ هجم علي أولئك السجناء , وطفقوا يجردونني من ملابسي بوحشية , وعندما هممت بالصراخ كتم أحدهم صوتي بكف غليظة ..أغمضت عيني كيلا أرى ما سيفعلونه بي ..دارت بخلدي أسوأ التوقعات وشعرت بأن روحي ستزهق , وتصاعد شعوري بالإذلال حين بدأت أحس جسما يدغدغ أماكن محددة من جسدي ..تنقلت تلك الأداة بين أيديهم , لتسري على مساحات شتى من جسدي ثم فجأة توقف كل شيء , ورفعت تلك الكف عن فمي .. فتحت عيني لأرى وجوههم باسمة وهم يشيرون بأيديهم نحو جسدي الشبه عاري ..نظرت فوجدت مساحات منه قد تحولت لخارطة من الأسماء والأرقام ..قبل أن أنفك من دهشتي دنا مني أحدهم هامسا :


اتصل بأهالينا وأخبرهم بأننا مازلنا على قيد الحياة , وننتظر أن يجدوا طريقة لإنقاذنا , نحن مختطفون منذ دخول الحوثيون إلى تعز .. مخفيون قسرا , ومنسيون .. !!


 


 


 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى