مقالات

الجيل الذي حلم بمستقبل جميل

 


-أهلا ناصر.


-أنا مش ناصر، شوفني محسن خوه.


اعتذرت لمحسن جعسوس ونحن أمام مدخل مبنى وزارة الصناعة القديم في شارع العيدروس بكريتر، وكان إلى جانبه المرحوم عبد الباقي هزاع بوجهه الطيب وابتسامته الغامضة المرسومة دائماً على وجهه.


قال عبد الباقي: مش أنت بس اللي تغلط فيهم، أنا الآن لو يقفي محسن مني قليل ويجي ناصر خوه با أقول له كيفك يا محسن.


تبادلنا أطراف الحديث، وفجأة ظهر ناصر أمامنا، وكان في لقاء مع عبدالعزيز عبد الولي وزير الصناعة يومذاك ورئيس اللجنة التحضيرية للمشاركة في مهرجان الشباب العالمي في برلين، وكانت في يده ورقة مكتوبة يقرأ منها:


“يا شباب العالم ثوروا


ياعمال يا فلاحين


واهزموا بالعنف الثوري كل الامبرياليين


ناضلوا لاجل السلام


بالبنادق والاقلام


لا تراجع لا استسلام


وحدوا صف الثورة…”


توقف، ثم قال: “هذا مشروع نشيد وفد شباب اليمن الديمقراطية إلى مهرجان الشباب العالمي في برلين، كلمات أحمد مساعد حسين ومعه، كما أعتقد، علي شايع هادي، أخذته من عبد العزيز، وسيقوم بتلحينه كما سمعت أحمد بن غودل”. كان ذلك عام 1975.. كان ناصر يتكلم بحماس شديد.


 


ظلت نظراتي تتنقل بينه وبين أخيه محسن فأرى انفعالاته ترتسم بشكل كامل على وجه محسن، وكانهما لوحة رسمت وطبعت أصل وصورة، لا تعرف فيها الأصل من الصورة.


 


ولزمن طويل بعد ذلك كنت كلما التقيت أحدهما لا أستطيع التمييز بينهما إلا بعد أن يبدأ بالكلام.. ناصر يميل إلى النكتة والمداعبة، وبمجرد ما يبادرك بالسلام تستطيع تمييزه عن أخيه محسن، ربما لأن ارتباطه بالحركة الشبابية فيما بعد أكسبته صفات الرجل الذي يلغي المسافات بينه وبين الآخرين من أول وهلة.


 


كان يملأ المكان الذي يتواجد فيه حتى إنك لا تستطيع أن تتخيل أن تزور جعار دون أن تلتقي ناصر أو محسن جعسوس.


 


كان ناصر وأخوه محسن معلماً من نوع خاص في ذلك الزمن في تلك المنطقة، وكان قربهما من سالمين يعطي لحركتهما دلالة ذات قيمة.


 


في زيارة لزنجبار أبين مع وفد البنك الدولي في طريقنا إلى سد “الديو” الذي كانت الدولة قد طلبت تمويله من البنك الدولي، وكان رئيس الوفد وهو عراقي من الموصل واسمه “مهدي” قد طلب أن يزور باتيس أيضاً.


 


في إحدى مزارع الموز الواقعة بين مدينتي زنحبار وجعار التقينا وزير الزراعة يومذاك محمد سليمان ناصر والذي كان قد وعد بأن يسبقنا إلى أبين. ترجلنا من السيارات وتوجهنا صوب المزرعة.


جاء صوت ناصر من بين الحضور:


-منهو النصراني ذي معك يا ياسين.


قلت أمازحه: أهلا يا محسن، وكنت قد عرفت أنه ناصر من كلامه ومع ذلك أردت أن أسمع منه النفي الذي تعودنا عليه، هذا رسول الملكة إليكم تشتيكم تراجعوا عقولكم وتستهدوا بالله، وتقول إنكم وحشتوها وأرسلت اليكم الاخ مهدي وهو من أبناء جلدتكم من العراق الشقيق ليدلكم على ما فيه خير لكم.


 


تعارف الجميع، أخذ الوزير محمد سليمان يشرح للوفد وضع المزرعة وانتاجها، وكيف أن الجزء الأكبر منها مستصلح بعد أن كانت أراضي بور ومهجورة.


 


في تلك الأيام كانت الإشاعات تملأ الفراغات الكثيرة التي خلفتها صعوبات التحول ومضاعفات المواجهة مع المعارضة التي كانت تتشكل، دون ملامح محددة، من داخل النظام ومن خارجه، كما هو حال السياسة في هذا البلد إلى اليوم، والتي كانت تعزف كثيراً على تلك الصعوبات، وأخذت تنشر أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يخططان للاطاحة بالنظام الوطني في الجنوب.


 


وكان هذا محاولة للتشكيك بالعلاقة مع هاتين المؤسستين الأمميتين وبالاشادة التي كانت تختتم بها كل المباحثات التي تتم مع المؤسسات اليمنية في الجنوب من حيث النزاهة وتقييمها الإيجابي في تنفيذ خطط التنمية.


 


كانت مثل هذه الإشاعات تجد استجابة عند الكثيرين، حتى إن البعض كان يطالب بمقاطعة البنك الدولي، وعندما استشار بعضهم الاصدقاء الاشتراكيين يومذاك قالوا لهم بما معناه إن التفكير بهذا الشكل هو انتحار.


 


صحيح أن للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي سياساتهم التي قد لا تتفق مع طموحات الشعوب في التحرر الاقتصادي، لكن لا بد من التفكير بعقلانية من أن التحرر الاقتصادي سيبقى شعارا بلا مضمون ما لم توجد كتلة اقتصادية عالمية مؤثرة تستطيع أن تضغط في هذا الاتجاه، والاقتصاد الاشتراكي ذاته يومذاك كان مستوعباً في الآليات الرأسمالية وغير قادر على أن يشكل الضغط حتى بحده الأدنى.


 


كان ناصر، رحمه الله، يبحث عن إحابات لأسئلة كان يثيرها الكثير من الشباب، لكنه كان له أسلوبه الخاص الذي يعرض به أفكاره.


 


بعد زيارتنا يومذاك لسد “الديو” وباتيس وبعض مزارع الدولة، تغدينا في جبل خنفر، وكان نقاشنا مع وفد البنك الدولي يدور في هذا السياق، عرض مهدي تجارب كثيرة من الدول النامية التي رفضت وصفات البنك الدولي لكنها اضطرت فيما بعد أن تقبل أشد الوصفات رداءة.


 


حافظت اليمن الديمقراطية على ميزان دقيق في العلاقة مع هذه المؤسسات دون أن يؤثر ذلك كثيراً على سياستها الاجتماعية فيما يخص حماية مصالح الطبقات الفقيرة.


 


كان ذلك آخر لقاء جمعني بالمرحوم ناصر، وبعدها أخذت الأحوال تتبدل والمسارات تتشكل بإيقاعات صراعات لا تعرف لها “سوم” بتعبير ابومحضار.


 


كان ناصر أنموذجاً لجيل عمل من أجل مستقبل سعيد، فجاء المستقبل على عجل وتأجلت السعادة.


 


رحم الله ناصر جعسوس.


 


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى