بعد إبليس، كان اليهود وما زالوا هم أصحاب نظرية «الاصطفاء الإلهي على أساس عنصري، فقد زعموا أنهم {أبنَاءُ الله وأحِبّاؤه} وأنهم سلالة الأنبياء وورثة دين الله، ليضفوا على ذواتهم قدسية تكوينية خاصة. حتى إن مشكلتهم مع نبينا محمد صلوات الله عليه لم تكن في طبيعة رسالته؛ بل لكونه ليس من سلالتهم.. ولا تزال مشكلتهم مع شعوب العالم إلى اليوم تتمثل في اعتقادهم بأنهم «شعب الله المختار»، وأنهم عِرق سامٍ مميز!
ونتيجة لتلك المشاعر العنصرية انغلقوا على ذواتهم ونظروا لكل شيء من خلال تلك العُقدة، حتى حكموا بأنه {لن يَدخل الجنّة إلا مَن كَانوا هُوداً أو نَصَارى}، وجعلوا الانضمام إليهم هو وحده سبيل النجاة ومصدر هداية البشرية وخلاصها، وكلما كبروا وتمكنوا في الأرض كبرت معهم تلك العقدة وأخذوا في قمع وتجريم كل من لا يعترف بخرافاتهم!
وعلى طريقهم – للأسف – مضى بعض المسلمين، فأخذوا أساس الفكرة العنصرية، ووظفوها لصالح فئات عرقية ودينية أخرى، وبنوا تعاملهم مع الغير على أساسها.
ومن روائع القرآن (البقرة 135 -141) في الحوار مع اليهود لتفكيك تلك العُقدة أنهم حينما رفضوا نبوة محمد و{قَالُوا (للمسلمين) كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} معتبرين الدين انتماء فئوياً، رد عليهم القرآن بعدة إيضاحات، منها:
❶ دعاهم إلى النزول على أمر جامع بين بني اسرائيل وسائر العرب، فقال: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ لأن الغرض هو تصحيح ما طرأ على مسيرتهم من انحرافات فقط، وليس إلغاء تكوينهم الفئوي أو عناوينهم الخاصة. وملة أبراهيم أمر مشترك ولا يسعهم إنكار مرجعيتها.
❷ وجه المسلمين إلى الإعلان عن التصديق والإيمان بجميع الرسالات، فقال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}؛ ليؤكد أن رفض عنصريتهم ليست رفضاً لأمر ديني، ولا استبدلا لعنصرية بأخرى.
❸ توقف القرآن عند هذا الحد من البيان وعدم الإقدام على اتخاذ أي فعل يأتي في سياق إرغامهم على التخلي عن عقيدتهم ما دامت فكرة يمكن مواجهتها بالفكر، واكتفى بالقول: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وذلك أن العَرض المقدم لهم بالاتفاق على مرجعية الملة الإبراهيمية الجامعة هو عرض منطقي، ولا يرفضه إلا معاند.
❹ أسقط من أيديهم ما كانوا يزايدون به على سائر العرب من أنهم هم المؤمنون بالله دون غيرهم، فقال: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}. فنحن اليوم شركاء في الإيمان بالله ولا يحكمنا سوى صدق الإيمان والتفوق في العمل الصالح، ولكل درجات مما عملوا.
❺ التأكيد على أن الهداية لا تتعلق بالانتماء إلى أسرة معينة أو عنوان ديني خاص، فإبراهيم والأنبياء من بعده كانوا قبل اليهودية والنصرانية، {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}، فالهداية متعلقة أساساً بالفكرة والعمل قبل ظهور العناوين الفئوية الخاصة.
❻ ختم بالتأكيد على أن أمر الهداية لا يتعلق بذات الأمم سواء من حيث تكوينها العِرقي أو موقعها الجغرافي، ولكن بما تكون عليه من استقامة، فقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكل مسؤول عن نفسه وما يقدم في هذه الحياة، ولا شيء من الانتماءات الفئوية يميز أحداً بالحق والصلاح ولا يؤخر.
وحقيقة الأمر أن هذه المسألة محسومة أساساً بقاعدة العدل الإلهي القائم على أن كل نفس بما كسبت رهينة، ولكن بعض البشر يبحثون لنفسهم عن استثناءات وهمية، ولو على حساب ثوابت العدل الإلهي والقيم الإنسانية الكبرى التي إنما جاءت الأديان لترسيخها!