عن فقه الذباب الإسلامي!
بعد صلاة عصر يوم الجمعة الأخيرة، أخذ محدث يشرح لمن تبقى من المصلين في الجامع بمدينة إنماء فوائد الذباب.. زين لهم الكنوز التي تختزنها في جناحها، جناحها الأيمن بالذات، ونسب إلى علماء -لم يسمهم– أنهم أجروا تجارب على الذباب فاكتشفوا خمسة أنواع من البكتيريا المفيدة جداً جداً، واكتشفوا في الذباب فطريات نادرة لا تقدر بثمن.
لقد فهمت أن الرجل أخذ ادعاءات بعض المشتغلين بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة بهذا الشأن دون مراجعة أو حذر، فراح يسوقها للناس في هذا العصر الذي نحن فيه، وأجزم أن آخرين أمثاله يؤدون الرسالة نفسها والجمهور المسلم يصدقهم.
نرى أن من واجب المثقف تفصيل هذه الخرافة، أو الأسطورة العصرية وإسقاطها علمياً حرصاً على سلامة الناس في أبدانهم ووعيهم وعقولهم وأذواقهم.
أساس هذه الأسطورة أو الخرافة أن المشتغلين بما يسمى الإعجاز العلمي في القرآن، وقفوا عند الآية القرآنية:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.. وتلقفوا حديثاً عند البخاري منسوباً للرسول نصه: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء)! ثم زعموا أن العلم الحديث توصل إلى حقيقة علمية تقول إن في جناحي الذباب مواد سمية، وأخرى دوائية، وبذلك يكون حديث الرسول قد تضمن معجزة علمية. وقالوا أيضاً إن العلم الحديث أثبت حقيقة علمية مؤداها أن الذباب إذا تناول ذرة من الطعام لا يمكننا استعادتها منه، لأن هذه الذرة تتحول فوراً إلى مادة مختلفة تماماً، وهذه الحقيقة العلمية قد سبق إليها القرآن بقوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}. وعلى ذلك فالآية تتضمن إعجازاً علمياً.
هل هذا من العلم الصحيح؟ الجواب: لا.. لم يقل العلم الصحيح شيئاً من ذلك البتة، وأصحاب فقه الذباب، أصحاب هذا الإعجاز العلمي المتوهم لم يذكروا أين قال العلم هذا ومتى؟ وإنما العلم الصحيح قال عكس هذا الادعاء الذي يسوقه المشتغلون بما يسمى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ويتبعهم بعض الخطباء والمرشدين الدينيين بحسن نية. العلم يقول إن الذباب يحمل من الجراثيم الضارة كمية لا تقل عن تلك الموجودة في لحية الرجل. ولطيف الإشارة هنا أن بعض قدامى اليهود كانوا يقدسون الذباب، وجعلوا له إلهاً خاصاً هو بعلزيون.
العلم الصحيح يا إخواننا، ويا أولادنا يقول عكس ما يقول أصحاب الإعجاز المتوهم أو المتوهم.. الكلام العلمي في هذا كثير، لكن سنقتصر على ذكر آخر ما قيل في هذه المسألة. في شهر نوفمبر 2017 نشر باحثون من جامعة بنسلفينيا (الولايات المتحدة الأمريكية)، وجامعة نانيانغ (سنغفورة) والجامعة الاتحادية (نيودي جانيرو- البرازيل) نتائج دراسة أجروها على كائنات يحملها 116 نوعاً من الذباب جمعوها من بلدان في ثلاث قارات. تلك النتائج أكدت الحقائق العلمية التالية:
الأولى، إن أجنحة وأرجل الذباب تحمل ميكروبات وبكتيريا مسببة لأمراض كثيرة، أكثر مما كان يعتقد من قبل، وتتلوث بها أجنحة وأرجل الذباب عندما تحط على جيف الحيوانات والفضلات الآدمية والحيوانية.
الثانية، مئات من الأنواع المختلفة من البكتيريا الضارة تعلق بأجنحة وأرجل الذباب، مثل جرثومة المعدة التي تؤدي إلى قرح في قنوات الجهاز الهضمي.
الثالثة، الجراثيم والبكتيريا التي تحملها أجنحة وأرجل الذباب لا تسبب أمراضاً للإنسان فحسب، بل وللحيوانات والنباتات أيضاً.
الرابعة، يعد الذباب ناقلاً سريعاً لمسببات الأمراض وتحولها إلى وباء. وقال البروفيسور دونالدبراينت من جامعة بنسلفينيا لصحيفة ساينتيفك ريبورتس، التي نشرت نتائج الدراسة: أجنحة وأرجل الذباب تظهر أكبر تنوع للميكروبات في جسد الذباب، وأضاف البروفيسور ستيفان شوستر من جامعة نانينغ: البكتيريا تستفيد من الذباب لتوسيع انتشارها.
ونسجل هنا أن الإمام ابن الأمير الصنعاني صاحب كتاب سبل السلام، نفى صحة الحديث المذكور ونسبته للرسول، وقال كلاماً لا أتذكر نصه الحرفي، لكن معناه إن الذباب حشرة قذرة، والقول بغمسها في الإناء وشرب ما فيه يتعارض مع القواعد الصحية ويتنافى مع الذوق السليم.
ثم لماذا نغمس الذباب أصلاً، وهل هناك ذباب يغرق في إناء أحدنا بجناح واحد؟ وماذا لو سقط الذباب في صحن الفتة أو على تفاحة، هل علينا أن نسحقه بين الفتة ثم نتناولها، أوهل نسحقه ونطلي به التفاحة؟ ما المطلوب في هذا الإعجاز من الناحية العملية؟ هل إذا سقط الذباب في قهوة أو عصير علينا أن نغمسه أكثر ثم نشرب؟ طفل سليم الذوق لا يقبل بذلك، فالذباب حشرة تتغذى على الجيف والقاذورات، وتنقل الأمراض… بدلاً من تعظيم الذباب حري بنا أن نقول للناس حاصروا الذباب في البيت والمدرسة والمخبز، وتخلصوا من القمامات فوراً كي لا تتحول إلى بيئة ترغد فيه حشرة الذباب وتتكاثر.
هذا في ما يتعلق بخرافة أو أسطورة جناح الذباب الذي فيه دواء.. لنأتي الآن إلى الجزء الآخر وهو الإعجاز العلمي الذي نسبوه للآية الشريفة التي أوردناها فوق. إن الذين يشتغلون بالإعجاز العلمي في القرآن، يظهرون كأنهم بقية من القوم الأول الذين اشتغلوا بالبحث عن أسماء كلب أهل الكهف وحمار بلعام وذئب يوسف! واشتغلوا في البحث عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف في منامه، والبهائم الثلاث التي ستدخل الجنة، وغير ذلك مما لا يترتب عليه عمل أو فائدة.. عاكفون منذ عقود في البحث بفقه الذباب وإعجاز الذباب.
على أن القوم هذه المرة لم يكتشفوا هذا الإعجاز العلمي القرآني في الذباب على ضوء نتائج العلوم الحديثة في الغرب، كما ادعى مصطفى محمود، بل عن طريق أبحاث إسلامية! أجريت على الذباب حسب تأكيد الدكتور زغلول رجب النجار وبعده الشيخ عبد المجيد الزنداني. فإذن هذا الإعجاز العلمي الذباني، ماركة مسجلة خالصة للبحث العلمي الإسلامي، الذي فحص الآية القرآنية مخبريا. وقفوا أمام مثل واضح في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.
يدرك الدكتور النجار والشيخ الزنداني وأضرابهما، معنى المثل في الآية، وهو لو أن الذباب سلب شيئاً من الأصنام، التي كان المشركون يعبدونها من دون الله، فلا تقدر هذه الأصنام على استرداده لأنها دون حياة أو إرادة، ولا تملك قدرة على استرداد المسلوب. لكنهم يسحبون هذا المثل على البشر، اقتداءً بأستاذهم الدكتور مصطفى محمود الذي كان يتأمل الآية، ويقول: إن المثل المضروب فيها ما زال معجزاً للعلم والعلماء، بعد ألف سنة من تطور العلم والتكنولوجيا، ومن أوجه هذا الإعجاز إن الذباب لو سلبت ذرة من النشأ من طعامك، فإن عباقرة الكيمياء لو اجتمعوا لا يستطيعون استرداد هذه الذرة من أمعائها لأنها تتحول فوراً إلى مادة أخرى (سكر) بفعل الخمائر الهاضمة حسب عبارة الدكتور مصطفى، وقد سرت عدوى مصطفى محمود إلى مؤلفي كتب التوحيد التي تدرس لطلاب التعليم العام في بلادنا، حيث بهروا الطلاب بأعجوبة الذباب العلمي في القرآن! نعم كتبوا هذا لطلاب علم.. تصوروا.. قالوا لأولادنا: إن هذه الحقيقة العلمية ذكرها القرآن قبل العلم الحديث بأربعة عشر قرناً.
حسناً، يمكن أن تتحول ذرة نشأ، أو طعام إلى سكر، أو مادة أخرى في بطن الذباب بفعل الخمائر الهاضمة، فهل هذا من خصائص الذباب؟ بالطبع لا، فذرة نشأ، أو طعام، إذا دخل أمعاء عصفور أو قمل، أو بقرة أو آدمي سيتحول- وفوراً- إلى مركب آخر، ومن جهة ثانية، ما قيمة هذا الغرام بالذباب؟ ومن جهة ثالثة، الآية واضحة، تضرب مثلاً، والمثل كله هو المهم، وليس ذبابته، فالكلام موجه للمشركين، والذي يعجز عن استرداد ما سلبه الذباب هي تماثيل وأصنام وجمادات وقمامات، وجمادات أخرى، وليس العلم والعلماء.
يا جماعة، ارجعوا للمفسرين، يقولون إن في الآية مثلاً يرينا حقارة الأصنام والأوثان، وسخافة عقول المشركين بالله، فالأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها من دون الله، لا تقدر على خلق ذبابة واحدة، بل لو سلبها الذباب شيئاً من الطيب التي يطيبها به عبادها، لما قدرت على استرداده من أحقر مخلوقات الله وأقذرها. إذن الكلام موجه لعباد الأصنام والأوثان.. كيف تعبدون هذه الأوثان والأصنام الجامدة التي لا إرادة لها ولا حياة، حتى إنها لا تستطيع استرداد الطيب الذي يسلبه الذباب منها؟
إن ما يسمى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ليس توهماً فحسب، بل إنه يضرب القرآن في العمق. فالمعجزة ظاهرة تتسم باستمرار البقاء كما هي معجزة، لا تتكرر ولا يقدر البشر على الإتيان بمثلها، ولو تكررت أو جاء إنسان بمثلها لم تعد معجزة. وهؤلاء يقولون: العلم قد أتى بالحقيقة العلمية نفسها، جاء بالنظرية العلمية عينها التي ذكرها القرآن في آية كذا، العلماء توصلوا إلى الكشف العلمي الذي ورد في الآية كذا… إن قولهم هذا يعني أن هذه الآيات لم تعد من المعجز، ما دام العلم قد توصل إلى مثل ما تقضي به… لو تمكن رجل أو امرأة من إحياء الموتى تبطل معجزة عيسى فوراً.. لو قدر أحد على ضرب الحجر بعصاه ففجر اثنتي عشرة عينا يكون قد أفسد معجزة موسى، ولو تمكن عربي من الإتيان بمثل القرآن فإن القرآن -معجزة محمد- فلم يعد معجزاً.
أترون ما يحدث عند لحس المبرد؟ إذن كفوا عن ترديد خرافات وأساطير الذين يتكسبون بالقرآن من خلال برامج تلفزيونية وإذاعية وصحف وكتب تدغدغ عواطف المسلم بفرية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.