من دواعي الأسف أننا محرومون من الوثائق التاريخية الضرورية والدراسات لكي يكون بمقدورنا الكتابة عن دور صنعاء والإقليم الشمالي في تكوين اليمن بالطريقة التي قد يكتب بها مؤرخ فرنسي عن دور الحوض الباريسي في تكوين فرنسا.
ولن يحالفنا القدر فنعثر على أوجه شبه وفيرة بين هضبة صنعاء ومحيطها، وبين الحوض الباريسي من حيث المشهد الطبيعي والموارد والمناخ. خلافاً للحوض الباريسي في فرنسا، فهضبة اليمن، بل وسهلها، خلوا من الأنهار والغابات والمساحات الزراعية الغنية بالمياه والطقس المناسب.
تاريخنا لا يحتفظ برصد دقيق ومتماسك لمكانة صنعاء السياسية المتغيرة بالنسبة لليمن في الأزمنة المختلفة.
كيف لنا أن نعرف على وجه اليقين متى اتخذت صنعاء مكانها كمركز سياسي لأول مرة في التاريخ اليمني؟ وهل ظهورها على مسرح التاريخ كمركز سياسي كان بفعل الصدفة المطلقة أم أنه كان اختياراً واعياً لمزايا مرتبطة بالمكان؟
الانطباع الذي يمكن أن يتخلق أثناء المطالعة المكثفة في التاريخ اليمني المدون، يشير إلى تنقلات فوضوية في المراكز السياسية بعدد الدويلات والممالك المتعاقبة أو المتزامنة في إقليم اليمن، وأن مكانة صنعاء في أوقات معينة كانت تتقلص إلى أن تصبح مركزاً جزئياً من بين عدة مراكز على مستوى اليمن، وفي أوقات أخرى كانت صنعاء تفقد مركزيتها كلياً لصالح مركز آخر في الداخل اليمني، أو لصالح مركز امبراطوري يقع خارج اليمن: بغداد أو دمشق أو القاهرة أو اسطنبول.
ما نستطيع أن نظنه هو أن صنعاء ربما تسنمت موقعها كمركز سياسي -لليمن وأحياناً لجزء من اليمن- في عدد من المرات يفوق غيرها من المراكز. إلا أن مسألة كهذه لم تدرس كما ينبغي، وهي مثل مسائل كثيرة في اليمن يلفها الظلام والجهل.
وأياً تكن الحقائق عن صنعاء في التاريخ، فإنها لن تغير من الفرضية التي سنتناولها في السطور التالية:
لقد كان سقوط العاصمة اليمنية صنعاء، في 2014، هو الحدث الذي نقل الحوثيين فجأة من جماعة هامشية متمردة إلى وضع تاريخي لم تكن أبداً مؤهلة للقيام بوظائفه ومقتضياته. وجد الحوثيون أنفسهم، دون كبير جهد، في موقع الوريث القائم على مركز الدولة اليمنية الموحدة التي كانوا هم على الضد من خطابها الجمهوري ورأسمالها الرمزي ومفاهيمها للوطن والوطنية.
بعبارة أخرى: الاستيلاء على العاصمة هو حدث حاسم له نتائج هائلة، ليس بالنسبة إلى الكيان الوطني الموحد فحسب، بل بالنسبة لجماعة الحوثي، على مستوى تطورهم الذاتي العاجز عن مواكبة استحقاقات وطنية أولية يفرضها احتلالهم للعاصمة، وعلى مستوى البناء التنظيمي، والأيديولوجية. الحدث نفسه ستكون له، على المدى البعيد، كلمته في تحديد المصير النهائي للجماعة.
صنعاء، بتركيبتها وحقائقها الديموغرافية الجديدة، صنعاء المتعددة الخلفيات والمنابت والمصالح، هي المعطى الكبير والمستحدث الذي يقع عليه الرهان في الحيلولة دون التسليم الدائم بوضع انفصالي للمناطق المنضوية تحت حكم الحوثيين. فهذه المدينة العريقة، والمحاطة بهالة من السحر المعنوي في وجدان كل يمني، اكتسبت على مدى العقود الخمسة الماضية شخصية اعتبارية وقانونية مستقلة عن التصنيف المناطقي الدارج الذي يقسم اليمن إلى حيزين جغرافيين متخيلين جرى إلباسهما مع مرور الوقت صفتين مذهبيتين: إحدهن زيدية والأخرى شافعية.
إن أبسط مقارنة نعقدها بين ما كانت عليه صنعاء قبل مئة عام عندما استلمها الإمام يحيى حميد الدين من الأتراك وصنعاء التي دخلها الحوثيون في 2014، يمكنها أن تدلنا على أهمية أو عدم أهمية التغيرات العمرانية الهائلة والديمغرافية التي شهدتها العاصمة.
من الصعب أن تكون جميع الأشياء التي تراكمت في صنعاء، على الأقل منذ عشرينات القرن الماضي إلى العام 2014، خالية تماماً من القيمة والأثر على أقدار اليمن. صنعاء متغير أساسي في تاريخ البلاد. لا يستطيع الحوثي أو غيره أن يحذف هذا المتغير ببساطة وكأنه جملة اعتراضية، ثم يستأنف التاريخ، أو بالأحرى “اللاتاريخ”، سيرته الأولى بنغمته الثلاثية الرتيبة: إمامة، تجزؤ يمني، تدخل أجنبي!