مقالات

حين يحتقر العقل

 


من أسوأ أنواع إهانة الجنس البشري احتقار العقل. السائد لدى شعوب العالم الثالث أن حكامهم يتفردون بهذه الخطيئة عندما يرتدون لباس التقوى في مسارح الجريمة ويتوجون رؤوسهم بالغار في ساحات الانكسار والهزائم. وعلى العكس منهم يلتزم القادة في بلدان الديمقراطيات العريقة احترام العقل لأن الفضائل السياسية محروسة بسلطان القانون وسيفه، ولأن الرأي العام شديد اليقظة وعميق الوعي بما يتوفر لديه من حرية التعبير وغزارة المعلومات، وإذا ما حصلت بعض الزلات فإنما تقع في مواضيع حمالة أوجه. لكن الحقيقة تتجلى كاشفة فاضحة فهناك في الغرب قدر كبير من الابتذال يمارسه سياسيون حين تتلوث ألسنتهم في سخام الكلام كما شهدت جلسة لمجلس العموم البريطاني خصصت لمناقشة مشروع قانون قدمه زعيم حزب العمال جيريمي كوربين يلزم الحكومة بأخذ موافقة البرلمان عند شنها حروباً في الخارج.


لزم إعداد المشروع وعرضه على المجلس قبل مشاركة بريطانيا في الحرب على سوريا على خلفية مزاعم باستخدام النظام في دمشق السلاح الكيماوي في حربه على تنظيم «جيش الإسلام» في دوما بالغوطة الشرقية. وللتأثير في مشاعر النواب والرأي العام طلبت رئيسة الوزراء تيريزا ماي من كوربين أن ينظر إلى خطورة السلاح الكيماوي مما حدث للجاسوس الروسي سيرغي سكريبال، ولا أدري إن كانت ماي بالمثال الساذج على وعي بأنها تستخف بعقول أبناء الأمة المشهود لها بحدة الذكاء، ذلك أن العالم، وليس البريطانيين وحدهم، يدرك خطر هذا النوع من الأسلحة دون حاجة لمعرفة محاولة اغتيال جاسوس. ولئن قصدت أنها في سوريا عاقبت روسيا على ما فعلته في بريطانيا فإنها قد أتت أمراً عجباً، أما إن لم تقصد فقد ألقت على نفسها عبء أن تقاتل العالم وليس سوريا وحدها لأن الأسلحة الكيماوية والجرثومية باتت صناعة منتشرة في أطراف الأرض، وهي صناعة لم تعد تحتكرها الحكومات بل تقدر عليها منظمات عديدة بما فيها التنظيمات الإرهابية المدعومة من بريطانيا وحلفائها في سوريا.


وقالت رئيسة الحكومة البريطانية إن عدم أخذ موافقة البرلمان على الحرب أملته ضرورة الحفاظ على أرواح الجنود البريطانيين. حسناً. فإن أي ساكن في مجاهل إفريقيا يعرف أن الصواريخ أطلقت من مسافات تبعد مئات الأميال عن أهدافها وأن الجنود لا يركبون الصواريخ أبداً. وتعرف الدنيا أن القرار بالهجوم على سوريا كان مذاعاً ولم يكن السر إلا في التوقيت الذي يتعذر أن تهتكه المناقشات البرلمانية.


في الغرب، كما في الشرق، يلازم احتقار العقل تزييف الوعي. ففي مناقشة مشروع القانون المذكور استعمل نواب حزب المحافظين السلاح «الإسرائيلي» المرعب واتهموا حزب العمال بأنه يضم معادين للسامية وأن على زعيمه كوربين أن يقوم بحملة تطهير تنظفه منهم. ومن غير اللازم القول إنه لا شأن للاسامية في مناقشة قانونية وأن إيرادها في هذا السياق إفصاح بصوت عال بأن الحرب على سوريا انتصار ل «إسرائيل». والمعلوم أنه ليس للسوريين والعرب عداوة مع السامية، ليس لأنهم ساميون أيضاً بل ولأنهم أبرياء من العنصرية. وإنما ظهرت اللاسامية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر وتولدت عن مشاعر كراهية لليهود ناجمة عن احتكارهم المال ونفوذهم في الإعلام.


وكان الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي من أبرز من تعرضوا للأذى بسبب كشف الحقيقة وقول الحق. ففي 1982 كتب جارودي مقالاً في «اللوموند» ينتقد غزو «إسرائيل» للبنان فاتهم بمعاداة السامية لأنه في الحقيقة شكك بعدد ضحايا الهولوكوست، وقد قاضته منظمة «الكيرا» اليهودية لكن المحكمة رفضت الدعوى. غير أنه حوكم في خواتم عمره أواخر التسعينات بسبب كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» ودحض فيه الأساطير التي قامت «إسرائيل» على أساسها، وفيه دعا إلى البحث الدقيق في ضحايا الهولوكوست واستدل بنتائج تحقيقات متتابعة أجرتها جمعيات علمية خفضت إلى مليون فقط رقم الستة ملايين الذي تروجه «إسرائيل»، وطالب بمناظرة علمية علنية بين المتخصصين من أجل تأكيد أو نفي غرف الغاز.


ولا يتوقف النفاق وممالأة «إسرائيل». والخبر من فرنسا أيضاً حيث وقع قبل أيام أكثر من 250 شخصية بياناً يدعو إلى مواجهة ما سماها اللاسامية الجديدة. وضمت القائمة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي ورئيس حكومة سابقاً هو بيار رافاران ونواباً ورجال دين وفنانين وأدباء، وأحصى البيان اعتداءات نفذها متشددون إسلاميون قتل فيها 11 يهودياً فرنسياً واعتبرها عملية تطهير عرقي صامتة.


قتل الإرهاب الالاف من كل الأديان، وأشعل المتشددون حروباً في بلدان عدة ولم يهتز ضمير ساركوزي إلا على ال 11 يهودياً لعله يستدر عطف المنظمات اليهودية لمساندته في محنته الأخلاقية والقانونية حيث يواجه تهماً قد تقذف به في السجن. والخائفون من اللا سامية الجديدة يريدون إلصاقها بالإسلام ومنه بالعرب على وجه التحديد دون أن يروا ما تفعله «إسرائيل» بالفلسطينيين، على أن المغالاة في استخدام سلاح معاداة السامية لقمع الأصوات المنددة بهمجية «إسرائيل» والمنزعجة من توحش رأسمال اليهود قد تؤدي على المدى الطويل إلى انبعاث اللا سامية في الغرب.


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى